وأساس المدنية الشرقية هو إلى الآن، وكما يفهمه غاندي، الدين والتقاليد. وهو لذلك يرى أن الوطنية والحرفة يجب أن يرتكزا على أساس من الدين. واحترامه للبقرة، وكراهته للتزاوج بين الطبقات الهندوكية يدلان القارئ على تعلقه بالتقاليد.
وقد يقال هنا إن غاندي لا يكره العلم وإنه لم يقل ذلك قط، وهذا صحيح، ولكن كراهته للآلات، بل كراهته للطب، وهما ثمرة العلم، يدلان القارئ على اتجاه ذهنه.
إن التناقض واضح، فإن المدنية الغربية، التي يمثلها فورد وشو ورسل ومصطفى كامل، تؤمن بالعلم. وهي وإن لم ترفض التقاليد فإنها تبتسم لها ابتسامة التسامح. وهي تتجه نحو توفير الرفاهية، وكأنها تقول: «يجب أن نأكل أحسن الأطعمة وأطيبها، ونؤثث بيوتنا بأفخر الرياش، ولا نكسب عيشنا إلا بأقل جهد. وعندئذ لا تكون حياتنا إلا للتمتع الجسمي والتثقف الذهني. ويجب ألا نعيش إلا في المدينة.»
ولكن المدنية الشرقية التي يمثلها غاندي وتولستوي تؤمن بالفلسفة والدين والتقاليد، وتدعو إلى النسك والقناعة، وكأنها تقول: «يجب أن نقنع بالعيش في كوخ في وسط الريف، ونرضى بأقل اللباس والطعام، وعلينا أن ننسك ونتأمل ونتعبد. وحسبنا من الطبيعة أن نتمتع برؤية حيوانها ونباتها لا أن نستغلهما.»
وقد يكون في هذه المقابلات مبالغة، ولكن الغرض هو إبراز الصورة فقط مع الاعتراف بأن هناك تداخلا بين المدنيتين. فإذا قلنا مثلا إن الشرق ينشد الطهارة، أي طهارة الروح، والغرب يطلب النظافة، أي نظافة الجسم، فإننا نبالغ لإبراز الصورة. ولكنا نقول مع ذلك حقا. وقد أصبح اسم غاندي مرادفا للمغزل لأنه نشره في القرى وجعل ممارسة الغزل واجبا وطنيا دينيا، وقد قصد من ذلك إلى تحقيق غايتين:
الأولى:
غاية الخلاق. لأنه يرى كما كان يرى تولستوي أن كل إنسان يجب أن يعمل وينتج لكي يشعره بأنه عضو نافع في الأمة.
والثانية:
غاية وطنية. وهي اعتماد الهنود على مصنوعاتهم وتركهم للمصنوعات الإنجليزية حتى يخضع الإنجليز لشروطهم ويعترفوا باستقلالهم.
وقد نجح غاندي في ذلك نجاحا كبيرا جدا. ولكن الذين يعرفون الفرق بين الغزل على الآلات والغزل على المغزل لا يتمالكون من الأسف لضياع الجهد الإنساني. فإن رجلا واحدا يقعد إلى آلة حديثة من آلات الغزل تعمل بالطاقة الكهربائية مثلا يمكنه أن يخرج مقدارا من الغزل يساوي ما يخرجه مائة تقريبا من الغازلين بأيديهم. فالقول بأن الآلات سيئة هو بمثابة القول بأننا نكره للناس الراحة، وأننا نفضل للعمل الذي يكفي لعمله شخص واحد أن يكد فيه مائة شخص.
صفحه نامشخص