فإذا كانت أمة من الأمم تحارب الاستعمار الفرنسي أو الإنجليزي فإنها لن تنجح حتى تحارب في نفسها عادات الاستبداد الاجتماعي أو الاقتصادي، سواء أكان يقع بالمرأة أم بالعامل، أي إنها يجب أن تكون نهضتها الوطنية نهضة إنسانية أيضا، بحيث تطلب الحرية الاقتصادية أو المساواة الاجتماعية لأبنائها ذكورا وإناثا . وهي إذا فعلت ذلك فإنها تزكي استقلالها أمام العدو الغاصب المستعمر وتكسب عطف العالم. بل هي في مثل هذا الجهاد تجد للعالم مبادئ إنسانية تحمله إلى الأمام خطوات.
لقد خدمت الثورة الفرنسية العالم بمبادئ إنسانية جديدة كما خدمه غاندي بمبادئ أخرى ننتفع نحن بها، كما أنها تجذب إلى الهند عطف العالم كله. وعلينا نحن في مصر أن نخدم العالم أيضا بمبادئ إنسانية جديدة.
الفصل الرابع عشر
غاندي والمدنية الحديثة
إذا نظرنا إلى غاندي، وقابلنا بين معيشته وآرائه ونظرته العامة للحياة وبين ما هو مألوف الآن في الحضارة الغربية من النزعات الثقافية والصناعية، ألفينا غاندي الخصم المخلص لهذه النزعات، بل يمكن أن يعد في نظر الغربيين أعظم رجعي في العالم الآن.
ولكن رجعيته ليست تنطعا وعنتا ومكابرة، وإنما هي رجعية سارة توقظ الذهن وتحيي القلب وتعيد لنا ذكريات «جان جاك روسو» و«برناردان دوسان بيير» و«تولستوي» و«ثورو» وهم جميعهم رجعيون.
وذلك أن رجعية غاندي هي في لبابها دعوة إلى الرجوع إلى السذاجة الطبيعية وكراهة التصنع والبذخ، فإن روسو ذاع صيته في عالم الأدب الأوربي بمؤلفاته التي دعا فيها إلى كراهة المدنية والرجوع إلى الطبيعة. وقد فتن بدعوته الناس وهيأ الأذهان للثورة الكبرى في باريس، وكتابه عن التربية، ومقالته عن العلم والمدنية، كلاهما يمكن غاندي الآن أن يكتبهما ويقول بجميع آراء روسو فيهما.
وقد راجعت الدعوة إلى الطبيعة أيام روسو وظهر أثرها في مؤلفات برناردان دوسان بيير، ومن أغرب ما يذكر هنا أن هذا المؤلف الذي عاصر نابليون قد تخيل السذاجة الطبيعية في «الكوخ الهندي» الذي يعرف غاندي الآن آلاف الأمثال منه.
ولكن أغلب الظن أن غاندي لم يتأثر كثيرا بروسو وبرناردان دوسان بيير، وذلك لأن ثقافته الغربية تعتمد على أصل إنجليزي. وليس هذا الأصل فقيرا في الدعوة إلى الطبيعة والتشنيع على المدينة، فإن رومكين عاش حياته في إنجلترا وهو يلعن الحضارة لأنها تستبدل بالجياد والعربات قطارا من حديد يصفر ويملأ الريف بدخانه وضوضائه، وكان هو نفسه إذا أراد التنقل من مكان إلى آخر عمد إلى جواده أو إلى عربته التي تجرها الجياد. وهو أول كاتب حاول أن يوحد بين الأخلاق والاقتصاديات، كما يفعل الآن غاندي الذي ترجم إلى الهندوكية كتابه في هذا الموضوع لأنه وافق هواه وطابق نزعته.
ولكن القارئ لمقالات غاندي، المتتبع لسيرته، لا يتمالك من الشعور بأن أعظم المؤلفين أثرا في ذهنه هو تولستوي. فقد أحبه غاندي إلى حد أن أسس في أفريقيا الجنوبية «مزرعة تولستوي» وقد كان تولستوي يرى أن العمل اليدوي ضرورة لازمة للأخلاق الحسنة، وكان يصنع الأحذية لأهل قريته. وكذلك يرى غاندي الآن هذا الرأي ويغزل وينسج للهنود. وقد بلغ من كراهة تولستوي للحضارة الأوربية أن كان يعلن، ويكرر الإعلان، بأن الطب يضر الناس. وكراهته للطب هي في الحقيقة كراهة للعلم. وكذلك يرى غاندي الآن عندما يقول إن الطب من اختراع إبليس. وقد كان في شبابه، قبل أن يصل إلى مقام الكشف الذي هو فيه الآن، يؤمن بالطب، ويتعالج إذا مرض على أيدي الأطباء، ولكنه كف وتاب وأصبح يتعالج بالحمية والأعشاب والفواكه وله من صحته الحاضرة ما يؤيد مذهبه.
صفحه نامشخص