ومهما قيل عن نكبات الاستعمار البريطاني فإنها ليست شيئا في جنب هذا الاستعمار الهندوكي للذهن والروح والاجتماع في الهند. والمتأمل لهذا الدين لا يرى فيه غير نظام غايته خدمة البراهمة وتعبئة الأمة جميعها لهذه الخدمة. وهو يتغلغل في البيت ويعين العلاقة بين الزوج وزوجته والأب وابنه، بل أحيانا يعين الحرفة التي يجب على الفرد أن يحترفها ، ويمسح على البغاء مسحة قدسية دينية حتى ليهيئ الأب ابنته للفجور وهو يظن أنه يخدم بذلك الآلهة. ومن هنا هذه الثورة التي تراها من غاندي على ديانة آبائه وتقاليدهم.
والهند حافلة بالمعابد والبراهمة والآلهة، والهندوكيون يؤمنون بإله واحد تتعدد صوره في الأصنام ويتوحد جوهره، ولهم «ثالوث» مؤلف من الأرباب: براهما وفشنو وسيفا. وقد ظهر مصلحون لهذه الديانة، ولكنهم يصطدمون بعقبات كبرى، لأن الهندوكية أصبحت جزءا لا ينفصل من الاجتماع الهندي. فالإصلاح هناك لا يحتاج إلى تنقيح عقيدة تتناول النفس فقط، وإنما يحتاج إلى تنقيحات اقتصادية تتناول الحرفة وحقوق الميراث ومركز المرأة ونحو ذلك مما يدل على صعوبة التنقيح.
الفصل الرابع
أصل الحركة الهندية
ترجع الحركة الهندية في الهند إلى التنبه التدريجي الذي كان يتفشى بين الهنود كلما توغل الإنجليز في بلادهم وجعلوا سلطانهم يتسلط على مرافقهم. ولكن قطرا كالهند، تختلف لغاته ودياناته، ويتألف من طبقات متضادة، يحتاج إلى هزات عنيفة كي يعمه التنبه، وقد حدثت هذه الهزات.
وترجع الحركة الحديثة في ميلادها إلى خطأ الإنجليز في فهم السيكلوجية الهندية واستغلال الوطني «بانرجي» لهذا الخطأ. فقد حدث في سنة 1905 أن قسموا إقليم بنغال قسمين، فهب بانرجي يحرك الهنود وينبههم إلى أن هذه القسمة هي تدنيس للوطن. ويجب على القارئ المصري ألا يخطئ ويقابل بين قسمة إدارية تحدث في مثل مديرية الغربية وبين قسمة بنغال. فإن هذا الإقليم الهندي يحتوي من السكان نحو خمسين مليونا، وهو قطر عظيم له تاريخه ولغته وتقاليده، فقسمته أشبه بقسمة القطر المصري منها بقسمة مديرية الغربية.
واستطاع بانرجي أن يجعل الهنود يهبون متحدين للمطالبة بإعادة بنغال إلى ما كان عليه، واضطرت الحكومة البريطانية إلى الإذعان، فوحدته سنة 1911 وألغت القسمة، ولكن الحركة الوطنية لم تخمد من ذلك الوقت. فإن بانرجي الذي يقال أنه عرف جمال الدين الأفغاني، كما عرفه عرابي ومحمد عبده، أخذ يؤجج نار الحركة الوطنية جاعلا من تقسيم بنغال سببا لدعوة الهنود إلى الاتحاد والحكم الذاتي.
هذا هو السبب القريب المباشر للحركة الوطنية، ولكن هذا لا يعني أن الهنود كانوا سنة 1905 مستسلمين للسلطان الإنجليزي، فإنهم منذ أن كان اللورد دوفرين نائبا للملك في الهند (1984-1898) ألفوا «المؤتمر الوطني الهندي» الذي لا يزال حيا إلى الآن. والحكومة البريطانية تحاربه كما تحارب عندنا الوفد. وقد منعت انعقاده منذ العام الماضي وصادرت أمواله. وهذا «المؤتمر» يغذو الحركة الوطنية وينظمها وله فيها أثر التجديد المتوالي.
وقد كان بانرجي أستاذا للآداب الإنجليزية في جامعة كلكوتا، وانتخب رئيسا «للمؤتمر الوطني الهندي» مرتين.
ومن الزعماء الذين خدموا الحركة الهندية «طيلاك» الذي مات سنة 1920، فإنه أنشأ جريدتين، إحداهما بالإنجليزية والأخرى بالهندستانية، لتنبيه الهنود إلى ما تنزلهم به الإمبراطورية البريطانية من ضروب الخسف والهوان. وكان مثل غاندي لا يقول بالعنف. ولكن من شأن العنف أن يسير في أثر هؤلاء الوطنيين الذين يجحدونه، وقد حكم عليه بالحبس عاما، ثم حكم عليه سنة 1908 بالنفي ست سنوات.
صفحه نامشخص