وفردت ذراعيها في الهواء واحتضنت الفراغ. نعم؛ الفراغ أفضل، واللاشيء أفضل، ولكن كيف تصبح لا شيء؟ قدماها تنتقلان فوق الرمل، وأنفاسها تدخل وتخرج من صدرها، ودقات قلبها لا تزال في أذنيها.
كيف يمكن أن يتلاشى جسدها؟
وخبطت الأرض بقدمها: لماذا لا أتلاشى؟ وكتمت أنفاسها ليكف الهواء عن الدخول والخروج من صدرها. وضغطت بيدها على قلبها ليكف عن الدق.
وخيل إليها أن الهواء كف عن الدخول، وأن صدرها لم يعد يعلو ويهبط وأن دقات قلبها لم تعد مسموعة في أذنيها، وابتسمت ابتسامة راضية، إنها تتلاشى، ولكن هناك شيء ثقيل يجثم على صدرها، وشيء لاسع مر يحرق حلقها، ورائحة كريهة غريبة تملأ أنفها، ويد طرية سمينة تمسك يدها. وحاولت أن تشد يدها لكنها لم تجدها، كانت قد تلاشت. •••
فتحت عينيها ورأت الدولاب والشماعة والنافذة والسقف بتلك الدائرة المشرشرة وتلفتت حولها في ذهول، إنها لم تتلاش، وهذه هي حجرتها كما كانت، وها هو رأسها الثقيل فوق الوسادة، وجسمها بثقله وكثافته ممدودا تحت الغطاء، وصوت القدمين الزاحفتين تقتربان من الحجرة، والوجه الأسمر ذو التجاعيد يطل من الباب، ورأت العينين الواسعتين تنظران إليها وسمعت الصوت الواهن يقول: ما لك يا بنتي؟ ما لك يا فؤادة؟
وهزت رأسها وقالت بصوت مبحوح: لا شيء يا ماما. لو كنت فقط أموت! وعامت العينان الصفراوان في الدموع: لماذا يا فؤادة؟ الموت للعجائز مثلي، كنت تكرهين سيرة الموت، ماذا حدث؟
وهمست: فريد. وقالت الأم في فزع: من؟ فريد مات؟
وانتفضت في السرير: لا لا؛ إنه غائب فقط، وسوف يعود، وأخفت وجهها تحت الغطاء، وابتلعت لعابا غريبا على فمها، لعابا لاسعا مرا. من أين أتى هذا اللعاب؟ وبدأت تتذكر بشيء من الوضوح، كانت واقفة في الصحراء تحملق في الفضاء، وأحست بالساعاتي خلفها، وحوط ذراعيه حول خصرها، وأصبحت عيناه تقتربان وتتسعان وتزدادان جحوظا، وأحست شفتيه الباردتين فوق شفتيها، وأسنانه الكبيرة تصطك بأسنانها، وملأ أنفها رائحة معدنية غريبة، كرائحة الحديد الصدئ، وملأ فمها لعابا مرا لاسعا.
نعم؛ كانت ترى وتحس، لكنها لم تكن رؤية واضحة، ولم يكن إحساسا أكيدا، كان كالحلم الكئيب. وحاولت أن ترفع ذراعها وتصفعه لكن ذراعها لم تكن ترتفع.
ومدت يدها من تحت الغطاء وتحسست ذراعها، كانت موجودة وحركتها فتحركت وأخرجت المنديل من تحت الوسادة وبصقت ثم بصقت، لكن المرارة اللاسعة كانت ملتصقة بفمها، وخيل إليها أنها موشكة على التقيؤ، فدفعت عنها الغطاء وسارت إلى الحمام، لكن رغبة القيء لم تكن لتتحقق، ودعكت أسنانها بالفرشاة والمعجون، وغرغرت فمها، وظلت المرارة ملتصقة بحلقها تهبط شيئا فشيئا إلى جوفها.
صفحه نامشخص