وثبتت نظرته لحظة وهو يقول: سأقبل منك المائتين، تأكدي أنني لم أكن أقبلها أبدا من أي شخص غيرك. ونظرت إليه في دهشة وقالت: معنى هذا أنك توافق. وابتسم ابتسامته اللزجة وعيناه الجاحظتان ترتجفان من تحت زجاج النظارة كعيني ضفدعة تتلصص تحت ماء عكر، وقال: من أجل خاطرك فقط. وقالت وهي تخفي سرورها: هل يمكن أن أدفع الآن؟ قال: إذا شئت. وفتحت حقيبتها بسرعة وناولته المائتي جنيه وقالت: متى أكتب العقد؟ قال: متى تشائين ... قالت: الآن؟ قال: الآن. •••
خرجت فؤادة من العمارة، وسارت في الشارع ساهمة، يسيطر عليها شعور غريب كذلك الذي تحسه في الأحلام. كان مزيجا من عدم التصديق الكامل بالحصول على الشقة وبالخوف الشديد من فقدانها، ذلك الخوف الذي ينتاب المرء حين يحصل على شيء ثمين فيظن أنه سيفقده في لحظة حصوله عليه.
وخيل إليها أن ما حدث لم يكن إلا حلما، ففتحت حقيبتها ورأت عقد الإيجار مطويا تحت كيس النقود، وأمسكت الورقة وفتحتها ووقعت عيناها على بعض كلمات، طرف أول محمد الساعاتي، وطرف ثان فؤادة خليل سالم ... وتأكد لها أن الأمر لم يكن إلا حقيقة، فطوت عقد الإيجار وأعادته إلى مكانه في الحقيبة، وواصلت سيرها.
شيء ما يجثم فوق قلبها ويجعله ثقيلا، ما هذا الذي يثقل قلبها؟ أما كان يجب أن تكون مسرورة، ألم تحصل على الشقة؟ ألم تحقق الأمل؟ ألن تصبح صاحبة معمل كيمياوي؟ ألن تجري بحثها؟ ألن تسعى إلى اكتشافها؟ نعم؛ كان يجب أن تكون سعيدة، ولكن قلبها ثقيل، كأنه ربط بحجر.
ولن تشعر برغبة في العودة إلى البيت، وتركت قدماها تسيران ولمحت تليفونا من وراء باب زجاجي فدفعت الباب ودخلت ووضعت يدها فوق السماعة لترفعها لكن صوتا خشنا قال لها: ممنوع استعمال التليفون، وخرجت تبحث عن تليفون، الساعة الواحدة واليوم جمعة، ربما يكون فريد قد عاد إلى البيت، ولكن قلبها يحس أنها لن تجده، سيأتيها ذلك الجرس الأخرس حادا متصلا لا ينقطع، خير لها ألا تطلبه في التليفون ، خير لها أن تكف عن السؤال عنه، لقد هجرها واختفى فلماذا تثقل قلبها بالأوهام؟
ورأت تليفونا في كشك سجائر فتظاهرت بأنها لا تراه وسارت في طريقها رافعة رأسها ولكنها استدارت وعادت لترفع السماعة بأصابع مرتجفة باردة.
نفذ الجرس إلى رأسها كمسمار مدبب، كان يؤلم أذنها لكنها كانت تبقيه وكأنما تستعذب الألم، كأنما تعالج به ألما آخر أشد وأفدح، كالذي يكوي جلد بطنه بسيخ محمى ليتخلص من ألم الكبد أو الطحال. وظلت السماعة إلى جوار أذنها، ملتصقة بها، حتى سمعت البائع يقول: هناك غيرك يريد التليفون. فوضعت السماعة وواصلت سيرها مطرقة الرأس.
أين اختفى؟ لماذا لم يقل لها الحقيقة؟ أكان كل ذلك خداعا؟ أكانت كل أحاسيسها كذبا؟ لماذا لا تكف عن التفكير فيه؟ إلى متى تتجول كالتائهة في الشوارع؟ ما جدوى هذه الحركة الدائرية العقيمة كدوران عقربي الساعة؟ ألا يجب أن تبدأ في شراء أدوات المعمل وأجهزته؟
ورفعت رأسها فاصطدمت عيناها بظهر كظهر فريد، وتصلبت واقفة في مكانها كأنما أصيبت بمس كهربي، لكنها أفاقت بعد لحظة حين رأت وجه الرجل من الجانب، لم يكن فريد. وتراخت عضلاتها كما تتراخى أثر انتهاء الصدمة الكهربية وشعرت أنها لا تستطيع السير، وأن قدميها لا تقويان على حملها، كان إلى جوارها مقهى صغير تنتشر كراسيه فوق الرصيف فجلست على كرسي منها، وراحت تحملق بنصف وعي فيما حولها، وكانت الأشياء من حولها تبدو مألوفة كأنما رأتها من قبل؛ الرجل العجوز الأعرج الذي يوزع أوراق اليانصيب، والجرسون الأسمر ذو الخط العميق في ذقنه أثر جرح قديم، والمنضدة الرخامية المستطيلة التي تضع يدها عليها، والرجل القصير السمين الذي يجلس إلى المنضدة المجاورة يشرب فنجان القهوة، والخطوط الرفيعة الحمراء التي رسمت على فنجان القهوة؛ بل وتلك الرعشة المستمرة في أصابع الرجل وهو يرفع فنجان القهوة إلى فمه ... كل هذا حدث في مرة سابقة كما يحدث الآن. إنها لم تجلس في هذه القهوة أبدا، بل إنها لم تأت إلى هذا الشارع من قبل، ولكن هذه الجلسة التي تجلسها ومن حولها تلك الأشياء قد حدثت مرة سابقة لا تدري أين؟
وتذكرت أنها قرأت مرة شيئا عن تناسخ الأرواح وقالت لنفسها في سخرية ربما عشت هذه الحياة من قبل في جسم آخر.
صفحه نامشخص