ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ، فالقرآن ينص على أن الزوجة من نفس الرجل، ويجعل ذلك سببا للسكون إليها والسعادة في كنفها، وتبادل المودة والرحمة والحنان بين الزوجين، وأعتقد أن هذه الآية صورت في إيجاز ما يريده الفقهاء من معنى الكفاءة الزوجية؛ لأن المرأة إذا كانت من نفس الرجل وجب أن يتماثلا في الحب والعادات والأفكار والميول. وأين أنا من هذا الفرنسي؟ شرق وغرب بينهما أميال وأميال! وتباين كامل في كل شيء، حتى لنكاد نكون من صنفين مختلفين، فهل بعد هذا أخضع لهذا الزواج؟ وهل بعد هذا أرضى بهذا السجن الموحش ولا أفر إلى محمود؟ - بالله عليك يا زبيدة لا تضمي إلى حرننا حزنا جديدا، فقد طفح الكيل، وبلغ السيل الزبى. - إن الفرار من العار ليس بعار. - ولكن فرار الزوجة من بيت زوجها إلى بيت رجل آخر عار أي عار، ثم من هو زوجك؟ هو رجل نافذ الأمر قوي السلطة شديد البطش، فلو فررت منه في أنفاق الأرض، أو أبراج السماء لامتدت إليك يده، ولنكل بك وبنا وبابن خالتك محمود، على أن فرارك سيثير الفضيحة من جديد، وينبه العقول إلى أمر أوشكت أن تنساه، ويجرئ الأيدي القاسية على العبث بجرح أخذ يندمل. - ليس لشيء من هذا يا أمي أخشى الفرار، فما أبالي الناس ولا آبه لحديثهم إذا ظفرت بمحمود، واختبأت معه بقرية مجهولة نائية، لا تصل إليها عيون الفرنسيين. ولكني أخشى الفرار لشيء واحد كلما مر بخاطري وددت أن الأرض ابتلعتني، أو أن السماء أقلتني، ويلاه يا أمي! إني أخشى ألا يمر بنا هذا الحادث دون أن يضع وصمته. - ماذا تقصدين يا زبيدة؟ - أقصد أن المرأة إذا عاشت مع رجل شهورا ففي أغلب الظن أن ينشأ بينهما ثالث. - وهل شعرت بما تشعر به الحامل؟ - لا، ولكن من يدريني؟ - صانك الله يا ابنتي من كل سوء، وكشف عنك كل ضر. - ليس لنا إلا أن نلجأ إلى الله، فإن في الالتجاء إلى رحمته راحة للمحزونين، أسمعت شيئا عن أبي؟ - لا يا زبيدة ، وقد كتبت إلى أختي أمينة وإلى محمود فكان جوابهما أنهما لم يعثرا له على أثر بالقاهرة بعد طول البحث، وأخشى أن يكون ... - لا تقوليها يا أمي! فيكفي ما نحن فيه من مصائب وأحزان.
وهنا دخل سرور في أدب وتردد، وجثا على قدمي نفيسة باكيا وهو يقول: سيدتي لا تحرمي سيدتي الصغيرة من زيارتك فإني أراها دائما حزينة كاسفة البال، فإذا جاء الجنرال تكلفت الجلد والابتسام، وهذا التكلف كما تعلمين أشد عليها من الحزن، وأنكى من البث والبكاء، أراها دائما ساهمة حزينة فيتقطع قلبي، ويشتد ألمي؛ لأنها ابنتي، ربيتها على كتفي، وكنت أطعمها فأشبع، وأسقيها فأروى، إنها تغلق عليها باب الغرفة طيلة النهار لتنفرد بأحزانها وبكائها، وماذا يجدي البكاء؟ وهل ينفع حذر من قدر؟ بالله عليك لا تغيبي عنها يا سيدتي حتى تمسحي عنها بعض آلامها؟ إنها ليست بنتي زبيدة التي أعرفها من حين أن كانت في مهدها، أين ضحكاتها المجلجلات، وبسماتها الساحرات، وأحاديثها الفاتنات؟ لا تغيبي عنها يا سيدتي؟
فقاطعته نفيسة وقد وضعت يدها على كتفه في حنان، وقالت: لن أغيب عنها يا سرور، إنني لم يبق لي من الدنيا إلا زبيدة وأنت، فاحرسها لي يا سرور، واسهر عليها وصنها بروحك ودمك، إن أول شيء اشترطته عند زواجها أن تكون معها، فهي وديعتي عند الله وعندك، وهذا هو الذي يهدئ نفسي، ويخفف من شجوني، ثم أسرعت فقبلت زبيدة، وحيت سرورا، وخرجت وهي تخفي تحت نقابها سيلا من الدموع.
الفصل الثاني عشر
كان يوم الجمعة السادس عشر من أغسطس سنة 1799م يوما مشهودا في رشيد، فقد اجتمع له الناس في الصباح أسرابا، وحشروا أرسالا، وانطلقوا إلى ظاهر المدينة ينتظرون قدوم عثمان خجا من أبي قير، فازدحم الرجال والنساء والأطفال ازدحاما لم يترك مجالا لقدم، ولا حركة لذراع، فكانوا كتلة من البشر تلاصقت أجزاؤها، وارتفع ضجيجها، وعلا صياحها، وغصت سطوح الدور بمن فوقها حتى كادت تنقض، وامتلأت النوافذ بمن فيها، وكلما تقدم الناس خطوات رأيت بحرا عب عبابه، واضطربت أمواجه، وتذكرت يوم النشور، يوم ينفخ في صور ، ويبعث من في القبور.
تقدم هذا الخضم المائج حتى إذا وصل إلى الكثبان الرملية بالجانب الغربي من المدينة فاض فوقها، وسال بين شعابها، فخف التزاحم قليلا، ووجد الناس متنفسا، فجلسوا ينتظرون الضيف الكريم الذي قضوا ليلتهم يفكرون في خير الوسائل لاستقباله، فمنهم من أعد نعلا بالية، ومنهم من تسلح بمكنسة من عراجين النخل، ومنهم من أخذ يتمرن على ملء فمه بصاقا لينضح به وجهه الوسيم، والتنافس في الشر غريزة في الناس، وللشعب إذا اجتمع نفسية خاصة لا تجدها في الفرد، فهو إذا صال جريء مخاطر حقود بطاش، في حين أن كل فرد من أفراده فسل جبان منخوب الفؤاد، وإذا غضب الشعب المجتمع فليس يعلم إلا الله ما ينتهي إليه غضبه من وحشية وجنون، والشعب الثائر طفل كبير، له عقل الطفل وتدلله وعبثه وتدميره، والشعوب تخضع للقوة الغاشمة وتخشاها، ثم تعتادها، وقد تتملقها أحيانا، وقد تستعذب عذابها أحيانا، ولكنها لا تنسى ظلما، ولا تفر منها إساءة، وكأن للشعب المقهور نفسين: نفسا تجامل وتصانع، ونفسا تدون وتسجل، حتى إذا ضعفت القوة التي تكبته قامت النفس المدونة المسجلة تعد سيئات الماضي وتشهر بمظالمه، ووثبت وثبة الذئاب الضارية تنهش القوة نهشا، وتضرسها تضريسا، والجماهير مخادعة ختالة، تحمل اليوم على الأعناق من ستضرب به الأرض غدا.
بقي الناس ينتظرون قدوم عثمان خجا، ووقف الجند يستعدون للموكب الحافل، وجلس العلماء والأعيان بعيدا على رصيف مسجد العرابي، حتى إذا مر نحو ساعتين ظهرت طلائع القادمين، وذاعت البشرى بين الجمع الحاشد، فترددت صيحات المتجمهرين تهز الأفق، وغلت دماؤهم بالغيظ وتواثبت قلوبهم للتشفي والانتقام.
وكان عثمان خجا في حلقة من الفرسان الفرنسيين والمماليك، وقد شهروا السيوف، وتنكبوا البنادق، وهو بينهم قميء القامة، طويل الوجه، أشقر اللون، صغير العينين، قليل شعر العارضين، مطرق الرأس، تذهب حدقتاه يمنة ويسرة في حيرة وذهول، كأنه الهر المطارد سدت دون فراره السبل، وكان يلبس عمامة طويلة عليها شاشة حمراء، وحلة من الحرير الأخضر واسعة الكمين، وسروالا أزرق زينت ساقاه بشريط مطرز بالذهب.
وقف الفرسان ونزلوا عن خيولهم، وأقبل رئيسهم فكبل يدي خجا، وهنا سمعت ضجة من بعيد فتصايح الناس: أقبل مينو، أقبل مينو، فانفرجت الصفوف، ومشى الجنرال وخلفه العلماء والأعيان، فلما وصلوا إلى عثمان خجا وقف الشيخ أحمد الخضري وأخذ يتلو حكم المجلس عليه بالقتل، وفي أثناء القراءة طفرت من شفتي عثمان خجا ابتسامة خفيفة مبهمة تصعب ترجمتها، فيها سخرية، وفيها امتعاض، وفيها ذعر، وفيها استخفاف بالموت.
وما كادت تنتهي القراءة حتى تواثب الناس لتمزيق الأسير المسكين، فحال الجنود بينهم وبينه، لا شفقة عليه، ولا رحمة به، ولكن ليطيلوا تعذيبه، وليشفوا النفوس من السخرية منه، فأركبوه حمارا على وضع مقلوب، وعلقوا في عنقه أجراسا «ويسمون ذلك التجريس» وسمحوا للناس بالبصق في وجهه وتلطيخه بالأقذار، وكان الشيخ بركات منادي المدينة يصيح بصوته الجهير: هذا جزاء الظالمين، هذا يوم الانتقام من المماليك السفاكين، أيتها القبور تحدثي عمن فيك، وأيتها الأعراض اشتفي اليوم ممن دنسك تدنيسا، ويا أيتها الأموال المنهوبة قولي كيف وصلت إلى خزائن الناهبين!
صفحه نامشخص