ولم يستقر مينو في مجلسه حتى أرسل في طلب السيد محمد البواب، والسيد علي الحمامي، فلما دخلا عليه دهمهما بطلب الزواج بزبيدة، فكاد البواب يصعق لهول ما ألقى عليه، وراعه الموقف وأصماه سهم القضاء، وأخذ الحمامي يسهب فيما سينالهم من الشرف والجاه بهذه المصاهرة، فأفاق البواب وقد سمع نفسه وهو يقول في خوف وتلعثم: إني كنت أتمنى أن أنال هذا الشرف لولا ... ولكن الحمامي أسرع فقال في صوت مرتفع حجب كل صوت: إننا يا سيدي الجنرال طوع أمرك، وإن نزولك إلى مصاهرتنا واختصاصنا بهذه الكرامة دون غيرنا، فضل دونه كل فضل، وكرامة ليس بعدها كرامة، وهنا هز مينو رأسه في كبر وأنفة وقال: سيكون الزواج بعد أسبوع، فقال الحمامي: إنها الآن بالقاهرة، وسأسرع غدا إليها، وفي يوم حضورها يتم الزواج.
خرج الرجلان من دار مينو، فقال السيد محمد البواب للحمامي في ذهول: لقد قتلتني يا رجل وجلبت علي عار الأبد. - إن هذا الزواج سيرفع من شأنك ويجعلك سيد المدينة. - إني لن أشتري سيادة الدنيا بهذه الوصمة. - هون عليك يا عم، فلن يضيرك أن تكون صهر أكبر جنرال فرنسي، ولن تلبث حتى يتزاحم عليك وفود المهنئين من كل مكان. - لن أبقى في المدينة حتى أرى واحدا منهم! - لن تبقى؟! - نعم. - سألتك بالله أن تتريث يا عم، فإن الوهم يلعب برأسك، ويصور لك من حادث يتمناه الناس جميعا خطبا فادحا. - لن أبقى برشيد لأرى الناس يراءونني، ولو كشف عنهم الغطاء لبدت قلوبهم وكلها زراية بي واحتقار وسخرية، ماذا تظنني يا رجل؟
إنني لن أعيش في مدينة كل ما فيها ومن فيها يذكرني بأن ابنتي في عصمة إفرنجي مغتصب. - ولكنك ستقتل أمي. - إن الموت قد يكون أحيانا خيرا من الحياة. - يا للمصيبة وماذا نعمل الآن. - ماطل الرجل إن استطعت ومنه الأماني، فلعل الله يعقب بعد عسر يسرا. - لن أستطيع يا عمي، إنني إن فعلت فتك بنا جميعا وصادر أموالنا، فإنه إذا تملكه الغضب انقلب أسدا هصورا. - الله أقوى منه، سأرحل الآن حيث لا يعلم أحد مكاني، وقد أعددت العدة للسفر قبل أن أذهب لمقابلة الرجل، فإني أوجست منه شرا، ثم انفلت هائما نحو غرب المدينة، فاكترى بغلا سار به في طريق الإسكندرية، منطلقا في عجلة كأنه الصيد المذعور.
وسار الحمامي إلى أمه حزينا، ولكنه ما زال بنفسه في الطريق حتى مسح عنها الحزن، وصور لها ما يستقبله من الثروة والجاه ورفيع المنزلة فاطمأنت، ثم طغى عليه سيل من الأماني والأحلام فسخر من عمه، وهزئ من تزمته وتحرجه، واعتقد أنه رجل لا يفهم الحياة ولا يهتبل الفرص، وما دام الزواج شرعيا فأي شيء فيه من العار الذي يتخيله الأغبياء المتحذلقون؟!
دخل على أمه ضاحكا مرحا، وألقى إليها الخبر في جذل وابتهاج، وأخذ يسهب في وصف الجنرال وكرم أخلاقه وشدة تمسكه بدينه، وأن كرائم الأسر في رشيد ستحسد أخته على هذا الشرف الباذخ، الذي طالما ترامت على أعتابه فلم تظفر منه بطائل. - وهل قبل أبوها؟ - قبل مسرورا، وسافر ليعد لزبيدة جهازا يليق بالجنرال. - إنني لا أعرف ما يعرفه الرجال، ولكني غير مسرورة لهذا الزواج؛ لأنه زواج غير عادي، ولا أظن أنه ينتهي بخير. - دعي الأمر لله. - آمنت بالله لا رب سواه.
وأسرع الحمامي إلى القاهرة في غد يومه، واحتال لأخذ زبيدة، فادعى أن أمها مريضة، ثم مضت أيام وصلت بعدها إلى رشيد، وكانت أمها مريضة حقا؛ لأن غيبة زوجها أقلقت بالها وأقضت مضجعها، وجعلتها تظن الظنون، فدخلت عليها زبيدة فقبلتها باكية، وحين سألت عن أبيها أخبرتها بأنه سافر منذ حين، وسيعود قريبا، وحينما فجأها أخوها بخبر خطبتها تلقته ذاهلة أول الأمر، وطاف بها خيال محمود وما له في سويداء قلبها من حب مكين، ثم طاف بها خيال العرافة رابحة، وتنبهت فيها غرائز الطموح، وقضت الليل كله تحمل ميزانا من الوهم، تضع مينو في إحدى كفتيه ومحمود في الأخرى، فمرة ترجح هذه، ومرة ترجح تلك، حتى كادت تصاب بالجنون، وكانت تثب من سريرها وتقول: هذه هي الموقعة الفاصلة في حياتي، فأي الرجلين أختار؟ مينو ليس الآن ملك مصر ولكنه قد يكون، ومحمود أحب الناس إلى قلبي وأقربهم إلى نفسي، مينو إفرنجي يقولون: إنه أسلم، ولكني لا أعرف أخلاقه وصفاته، وهو ليس من جنسي ولا من قبيلي، ومحمود ترب صباي وشقيق روحي، وفيه صفات الأبطال وخلائق سكان السماء، ولكن ليس لديه ملك وليس لديه عرش، وليس لديه صولجان، مسكين يا محمود، لو كنت ملكا! ولكن ما لي وللملك أسلك إليه طريقا مظلمة موحشة مجهولة؟ أأتزوج بفرنسي لأكون ملكة؟! ومن يضمن لي هذا؟ إنه حاكم رشيد، والثورات تحيط بالفرنسيين من كل مكان، فماذا يكون الأمر إذا جاء الترك وطردوهم، وبقي هذا الفرنسي المسمى مينو معلقا برقبتي؟ تلك هي الطامة الكبرى والكارثة العظمى، وهنا يصدق قول خالتي أمينة بأنني أزهد في الثمرة الدانية لأتعلق بالأشواك، ثم أين أبي؟ أليس في أكبر الظن أنه فر من ذلك العار الذي لطخته به يد القدر العاتية؟ لا، لن أتزوج بهذا الفرنسي ولو انطبقت السماء على الأرض، ولكن من يدري فقد يكون هذا الرجل مطيتي إلى ما أريد؟ إن العرافة لم تكذب قط، فلم تكذب في أمري وحدي؟ إن الفرنسيين سيبقون بمصر، وإن مينو سيكون حاكم مصر، وهكذا ظلت زبيدة تخلط وتهذي حتى بزغ النهار، وحينما ملأت الشمس الأفق غصت دار البواب بالزوار، وكان بينهم الحاج حسين الميقاتي، والسيد علي الحمامي، والسيد أحمد النقرزان، والسيد إبراهيم النقرزان، فطلبوا من زبيدة توكيل الحاج حسين في تزويجها بمينو، فوكلته أمام الشهود في تردد ووجل، وكان مينو أشهد على إسلامه قبل ذلك أمام القاضي الشرعي، وسمى نفسه عبد الله جاك مينو، واختار أن يكون الحاج أحمد شهاب وكيله في الزواج، فاجتمع الوكيلان والشهود والمفتون بالمحكمة في اليوم الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة ثلاث عشرة ومائتين وألف، وعقد لعبد الله مينو على زبيدة، ولا تزال وثيقة هذا الزواج في محفوظات محكمة رشيد الشرعية إلى اليوم.
وزفت المسكينة الطموح إلى مينو بعد أسبوع، فقذفت بسفينة حياتها في خضم قاتم مضطرب الأمواج، لا يهديها فيه إلا شعاع من أمل متقطع كاذب، ولو نفذ إلى سمعها صوت من بين هذه الأمواج الصاخبة حولها، لسمعت قهقهة القدر وهي تجلجل في شماتة وسخرية.
الفصل التاسع
بقي محمود العسال ونيكلسون بالقاهرة يترقبان الحوادث ويتصلان بجماعات الثوار، ويبتكران الوسائل للانتقاض على الفرنسيين وزعزعة حكمهم في مصر، وذهب محمود ذات صباح إلى متجره بخان الخليلي الذي يشرف عليه ابن عمه، وبعد أن جلس قليلا رأى آثار الحزن والوجوم بادية في وجه ابن عمه فحاول أن يتغافل عما بدا له؛ لأن عبوس الوجوه وانقباضها ليس بالشيء الغريب في هذا الزمن الغريب، ولكن حسينا زاد ارتباكه وانصرافه إلى الأمور التافهة وتجنبه النظر في وجه محمود، فابتدره قائلا: هل من جديد يا حسين؟ - فتلعثم الفتى وحاول أن يبتسم فلم يستطع، ثم نظر في وجه محمود نظرة حزن وإشفاق وقال: إن سعدا الشباسي المراكبي جاء اليوم من رشيد. - وماذا في هذا؟ أماتت أمي؟ - لا قدر الله، إنه يقول: إن سيدتي زينب بخير. - هذا شيء يسر، فلم أراك عابسا حزينا؟ - إن ما قص علي من أعمال الفرنسيين برشيد أثار أحزاني. - هذا شيء لا يقابل بالحزن، وإنما يقابل بالجهاد وجمع الكلمة وتوحيد الرأي. - أخشى ألا نستطيع جمع الكلمة إلا بعد فوات الأوان، وبعد أن تداس كل كرامة، فإن قلبي ليتفتت حينما أرى النساء المتبذلات، وقد مزقن حجابهن، وركبن الحمير مع جنود الفرنسيين يذهبن معهم كل مذهب، ويجلسن معهم في القهوات دون نكير من أزواجهن أو آبائهن، وإن الحسرة لتمزق فؤادي حينما أرى بعض الناس الذين تأبى الإنسانية أن ينسبوا إليها يساعدون الفرنسيين ويتملقونهم ويذللون لهم السبل. - إنهم ليسوا بأكثر ملقا واستخذاء من العلماء أعضاء مجلس الديوان الذين يحملهم الفرنسيون كل يوم على كتابة منشور مملوء بالآيات القرآنية لتأييد حكم الغاصب ودعوة الناس إلى طاعته، آه يا حسين، إن مصر كانت مريضة بأهلها، فلما جاء الفاتح لم يجد بها مناعة تصد الداء الوبيل الذي رماها به، وماذا برشيد من أفانين مينو؟ - علمت أن نزعته الجديدة أن يزج بنفسه في الأسر الكريمة. - كيف؟ يكثر من زيارتها؟ - يكثر من زياراتها أو يصهر فيها. - يا للكارثة! يتزوج بمسلمة شريفة؟ إن دون هذا وتسيل الدماء! من يقبل أن يزوجه ابنته؟ - ليست المسألة مسألة قبول، إنما هي إلزام وقهر، ومن يستطيع أن يقف في وجهه؟ - أتزوج فعلا؟ - نعم. - بمن؟ - فتنهد حسين وغلبه دمعه وقال: بزبيدة.
فوجم محمود وذهل ، وألقى برأسه بين راحتيه، وترك عينيه شاخصتين كأنهما عينا المحتضر وقد جمد الدمع فيهما، وتملكه حزن وغضب حبسا لسانه عن الكلام والأنين، بقي أكثر من نصف ساعة على هذه الحال، ثم هب واقفا وقال: ما أصابكم من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب، ثم قال: كنت أحارب الفرنسيين للوطن، واليوم أحاربهم للوطن والشرف والانتقام، ثم انطلق مطرق الرأس كمن به جنة، ولزم داره أياما ليبث حزنه لنفسه، ويرسل الدمع مدرارا دون أن يخاف رقيبا أو مليما.
صفحه نامشخص