مرت أيام فسافر علي الحمامي إلى رشيد، وبقيت زبيدة في بيت خالتها، تلاقي فيه صنوف الكرامة والعطف، وتزور بها خالتها سيدات القاهرة وكرائم أسرها، فزارت السيدة نفيسة المرادية زوج مراد بك ورأت في قصرها من الفخامة وأبهة الملك ما يقصر دونه البيان، وشاهدت في السيدة نفسها صورة بارزة للعظمة غير المتكلفة، التي لم يستطع زوال الملك أن يغض منها، وزارت بيت الشيخ خليل البكري، وهفت نفسها إلى زينب البكرية، التي كان لها من الجمال والإدلال وحسن الحديث وسحر الأنوثة، ما يفتن ويغري، فأحبتها وأكثرت من ازديارها.
وبينما هي جالسة ذات صباح مع خالتها إذا إحدى الخادمات تقول: إن سيدي محمودا العسال قد حضر وهو يصعد في السلم، فأسرعت زبيدة إلى شعرها تسويه، وإلى ثوبها تصلح من غضونه، وقد دق قلبها واحمر وجهها، ولمحتها خالتها فتنهدت، ثم دخل محمود مشرقا بساما، فحيا زبيدة وقبل يد خالته أمينة، التي أخذت تصب عليه وابلا من عبارات الترحيب ومختلف الأسئلة، فقص عليهما كل ما لديه من أخبار رشيد، وهنأ زبيدة بسلامتها، ثم اتجه إلى السيدة أمينة قائلا: لقد أدهشني اليوم أن أرى حوانيت المدينة مقفلة، وأن أرى الناس في الشوارع جماعات يتهامسون كأنما حزبهم أمر، أو حلت بهم كارثة. - لقد توالت عليهم المظالم يا محمود، وكانت قاصمة الظهر تلك الضريبة الأخيرة التي لم تترك فقيرا ولم تبق على غني، فالذي رأيته اليوم مظهر من مظاهر سخطهم، فإنهم إذا فدحهم ظلم أغلقوا متاجرهم والتجئوا إلى الأزهر يستغيثون برجاله.
فهز محمود رأسه في حزن وألم وقال: وبمن يستغيث رجال الأزهر يا ترى؟
ثم أحس أن المجلس طال به، فتحفز للانصراف، وودعته خالته وذهبت معه زبيدة خطوتين أو ثلاثا، فنظر إليها نظرة طويلة وقال: متى يا زبيدة؟ فأسرع إلى نجدتها عذرها التي خدعت به خالتها، فمست كتفه في رفق وقالت: حتى يخرج الفرنسيون يا محمود.
الفصل السابع
ذهب محمود إلى سوق المغاربة غاضبا آسفا، يفكر في هذا العذر الجديد الذي سدت به عليه زبيدة طريق الأمل، وسأل عن الحاج محمد السوسي فأرشد إلى دكانه، فرآه مغلقا، ثم سأل عن داره فوصفت له، فطرق بابها ففتحت له العجوز خائفة مرتابة، فقد تكرر في هذه الأيام تطفل الجند على المنازل. ولما سمعت لورا صوته كاد يجن جنونها ويضطرب ميزانها، وشعرت بنار مشتعلة تدب في أوصالها، وودت لو أنها قطعت السلم بوثبة واحدة، لتقع بين ذراعي حبيبها، وتغمر وجهه بالقبل، ولكنها كبحت جماحها جهد ما تستطيع، واستنجدت بالطبيعة الإنجليزية الرزينة، وقالت دون أن ينم صوتها عن شيء: أبي! إني أسمع صوت محمود العسال بالسلم. فنهض نيكلسون فرحا وصاح: أهلا بولدي، أية ريح سعيدة طوحت بك إلينا؟ لن أحس بعد اليوم ألم الغربة والنفي. ثم عانقه طويلا وشد على يديه في محبة وشوق وتقدمت إليه لورا تتكلف الابتسام وتجاهد عينيها ألا تهتكا لها سترا، وقالت في تلعثم: مرحبا يا محمود، إنك صورة من رشيد التي أحبها، فاليوم أراها كما هي ولا أشعر بلوعة نحو أهلها. ثم جلسوا إلى القهوة بعد أن أعدتها لورا، وبدأ نيكلسون الحديث فقال: كيف حال الفرنسيين في رشيد؟ فأجاب محمود وقد زاد سخطه عليهم وعزم على أن يبذل نفسه في مقاومتهم، بعد أن سمع من زبيدة اليوم أنهم الحائل بينه وبين التزوج بها: لقد أرسلوا إلينا بحاكم مضطرب الرأي، يلين مرة حتى تظنه ماء زلالا، ويقسو أخرى حتى تحسبه نار الجحيم، لم يف بوعد واحد من تلك الوعود التي ملأ بها خطبه وأحاديثه، والرشيديون في جمهرتهم لا يثقون به ولا يلقون إليه بقياد، وهم كتلة مخيفة من العصيان والتمرد، فقد فرض على الأهلين - ولم يكد يستقر في كرسي الحكم - ضريبة فادحة، قوبلت بثورة صاخبة وعصيان جامح، ولولا هذه المدافع الجديدة ما استقر لهؤلاء الغزاة أمر، وفي مساء يوم رأى أحد العلماء الذين قدموا مع الحملة - ويسمونه دينون - من برج أبي منظور العمارة الإنجليزية وهي تهجم على العمارة الفرنسية بأبي قير، وتصليها نارا حامية، وسمع أهل المدينة الضرب عنيفا متواصلا، وطارت إليهم الأخبار بأن الإنجليز دمروا جميع سفن الفرنسيين، فوثبوا من الفرح، وطاشت عقولهم، ومشوا في جماعات يصيحون ويهللون ويكبرون، ولم يستطع مينو أن يعمل شيئا فأغضى إغضاء الذئب الضغن الحقود. - حقا إنه كان نصرا مبينا يا محمود، فإن هذه الموقعة ستسد الطريق بين نابليون وبلاده، وستقضي على آماله في ضرب إنجلترا وإنشاء دولة شرقية فرنسية، وستشد من عضد المماليك الضعيفة بأوربا وتدفعها إلى محاربة فرنسا وتحديها. - لله الحمد والشكر: ثم قام أهل رشيد بثورة عنيفة، حينما وصلت السفينة التي تحمل السيد محمد كريم مصفدا ليشنق بالقاهرة. - إن هذا السيد بطل من أبطال التاريخ يا محمود، وكل جريمته عند الفرنسيين أنه جاهد في سبيل وطنه، وكتب سرا إلى مراد بك يدعوه إلى صدهم ومحاربتهم، ولقد علمت أنه لقي الموت شهما كريما، وأن الفرنسيين راودوه على أن يفتدي نفسه بثلاثين ألف ريال، فأبى في ازدراء وشمم، وأجاب فانتور كبير تراجمة الحملة وهو يلح عليه في قبول الفدية، ويلحف: «إذا كان مقدرا علي أن أموت فلن يعصمنى من الموت المال، وإذا كان في الكتاب أن أعيش كان بذل المال عبثا»، ثم ضرب بالرصاص في ميدان الرميلة فلقي ربه شهيدا، فلمعت عينا محمود وقال: إن البطولة لن تموت، وهذا معني قوله تعالى:
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون . - هذا صحيح يا محمود، أعندكم هذا في كتابكم؟ - نعم، وكم في القرآن من أدب وتشريع وحكمة وهداية، ثم إن الذي يزيد في سروري ويبعث في نفسي نشوة الأمل، أن مينو قلق به مكانه في رشيد وأحس بالحرج، فقد قبض أحد العربان على رسول له إلى كليبر حاكم الإسكندرية، فرأى معه رسالة ترجمها لنا أورلندو، يلح فيها على كليبر في إمداده بالرجال؛ لأن حاميته لا تزيد على أربعمائة رجل، ويخبره فيها أن العرب يزعجونه ليلا ونهارا، وأن الأهلين يثورون عليه لأقل سبب، وأنهم استخفوا بسلطة الفرنسيين بعد نكبة أسطولهم، ثم يقول: لقد تحرج مقامي هنا، فإنني ما جئت من فرنسا لأدفن في هذه المدينة، أو لأقوم فيها بجمع الضرائب. - سمعنا أنه أحرق قرية السالمية. - نعم، فقد قتل بعض رجالها ثمانية من جنده، فأمر بقتل كل من يحمل السلاح فيها، وصادر جميع ما بها من الماشية، ثم أضرم النيران في القرية. - هذا أمر له ما بعده يا بني، وسيف الظلم مفلول دائما، هلم لنشهد اليوم اجتماع الناس بالأزهر، فقد أخبرني الشيخ إسماعيل البراوي أن مرجل الثورة يغلي بالقاهرة، من أجل هذه الضريبة الجديدة الفادحة، التي ستأتي على كل ما بقي عند الناس من صامت وناطق.
ثم سارا صوب الجامع الأزهر فسمعا المؤذنين وهم يؤذنون لصلاة الظهر، ويتبعون أذانهم بدعوة ملتهبة إلى الثورة والجهاد، فدخلا المسجد فإذا هو يدوي بمن فيه من الحشد العظيم، وقد ارتفعت أصوات الغضب، وبسرت الوجوه، وأخذ كل شخص يتكلم ويسمع في آن، وجلس إلى جانب القبلة الشيخ السادات، والمشايخ: يوسف المصيلحي، وإسماعيل البراوي، وعبد الوهاب الشبراوي، وسليمان الجوسقي، وأحمد الشرقاوي، وهم مساعير الثورة ومؤججوها، ثم وقف الشيخ يوسف المصيلحي، وكان ذرب اللسان ملتهب الوطنية قوي التأثير وقال: «يظن الفرنسيون أن مصر أقفرت من الرجال، وانحلت فيها العزائم وكلت الهمم، وأنها شعب من نساء لا يميز فيه الرجل من المرأة إلا عمامة ولحية، وأن أهلها قطيع من الغنم نام عنه رعاته وتركوه نهبا للذئاب، وهم يتندرون في مجالس مجونهم وعلى كئوس شرابهم، بجبن المصري وهلعه من السيف والمدفع، وأنه إذا رأى جنديا فرنسيا في الطريق أقعى له في ذلة وخنوع كما يقعي الكلب، فهل هذا صحيح ؟».
فهزت أصوات جوانب المسجد صائحة في غيظ وغضب!
كلا. كلا. - «نعم، كلا، وكذب ما يظنون، فإنني أرى في هذه الوجوه غضبة الأسود لعرينها، وحمية الشجاع الباسل لعرضه ودينه، أنتم أبناء الفاتحين، ولأجدادكم سجل من المجد والجهاد لا ينقصه إلا أن تنقشوا تحته أسماءكم بسلاحكم، فهلموا إلى المجد والشرف هلموا، هلموا إلى الجنة والشهادة هلموا، فلا نامت أعين الجبناء، ولا هدأت قلوب المعوقين والمنافقين! لقد طال بكم أمد الصبر فماذا بقي لكم أن تصبروا عليه؟ لقد ألزموكم حمل شارة الفرنسيين، وافتنوا في فرض الضرائب، وهدموا أبواب الحارات حتى لا يعوقهم عن الهجوم عليكم في ظلمة الليل عائق، هل نحن أمة محمدية؟ هل نحن أمة جعل الله الجهاد في مقدمة فروضها؟ أيها الشجعان البسلاء: ثوروا لكرامتكم ثوروا لوطنكم، ثم ثوروا لتاريخكم»! وهنا انفجرت حماسة محمود العسال ونفدت طاقته العصبية فصاح: كفى كفى بالله عليك يا مولانا، فلن ترى منا مصر بعد اليوم إلا رجالا أرواحهم في أسنة رماحهم، ثم اتجه إلى الناس ونادى: هلموا معي إلى الجهاد، فرددت الجموع الزاخرة صوته: إلى الجهاد! إلى الجهاد! وتزاحموا إلى أبواب الجامع يتقدمهم محمود ووراءه نيكلسون، وما كان يشك من رأى هذه الأمواج المتدفقة من الناس في أن أيام الفرنسيين بمصر أصبحت تعد على أصابع اليدين.
صفحه نامشخص