وكانت سلمى بعد خروج عبيد الله بن زياد من عندها قد أيقنت بفشلها وتحققت وقوعها في الشرك. ولكنها أصبحت لا تبالي بالحياة بعد ما سمعته عن مقتل عبد الرحمن، على أنها كانت تود أن تنتقم له قبل موتها، وراجعت ما مر بها من الأهوال في تلك الليلة فرأت أنها لو أطاعت يزيد وسايرته فيما التمسه منها من لعن علي لتمكنت من الفتك به، ولكنها رأت تلك المداهنة فوق طاقتها وعلى غير السجايا التي فطرت عليها، فلم تندم على ما صنعته.
وفيما هي تردد التصورات في ذهنها، دخلت العجوز واستأذنتها في اصطحابها إلى المقصورة، فأطاعتها وهي لا تبالي بما هنالك من الموت والحياة، فمشت في أثرها حتى صعدتا إلى المقصورة، فظلت العجوز بالباب، ودخلت سلمى وجلست على الفراش، ونظرت إلى ما بين يديها من آنية الخمر والشموع والفاكهة، وتذكرت جلوس يزيد إلى جانبها وما دار بينه وبينها من الحديث، وكيف أنها بعد أن كادت تصيب مرماها منه عادت العائدة عليها. ثم تذكرت حبيبها مقتولا يتخبط في دمه فاقشعر بدنها، واشتدت حيرتها.
وفيما هي في ذلك سمعت وقع أقدام على السلم فخفق قلبها خفوقا سريعا ولبثت تترقب ما يكون، وإذا برجل دخل المقصورة وعليه العباءة والعمامة وفي يده قدح، وكان هو الطبيب، فلما رأته أطرقت وظلت صامتة، فدنا منها وقدم لها القدح وهو يقول: اشربي هذا العسل بأمر أمير المؤمنين؛ فإنه قد ينعشك.
فأدركت أنه مسموم فتناولته ويدها ترتعش وقالت: سأشربه وأنا أعلم أنه سم قاتل.
قال: كيف تقولين إنه سم وأنا أقول لك أنه عسل؟!
قالت: أنا أعلم أنه سم، وأرجو أن يكون كذلك؛ لأنه إذا أماتني أراحني من هذه الحياة، فقل إنه سم ليطمئن قلبي، واعلم أني لاحقة بأبي وابن عمي على عجل. قالت ذلك وخنقتها العبرات.
فتأثر الحكيم بكلامها، ولكنه كان قد تعود إخفاء شعوره فتظاهر بالاستخفاف وقال: اشربيه مهما يكن من أمره؛ إذ لا بد من شربه.
فرفعت يدها وهي قابضة على القدح وقالت: إني أشرب هذا السم باسم الله، وأرجو أن يلحقني بالإمام علي وأن يقربني من أبي وابن عمي، ثم نظرت إلى القدح وقالت: بورك فيك من دواء! إني أشربك باسم الحق والعدل، وأطلب من الله أن ينتقم لي ولأبي ولابن عمي من ذلك الظالم. وأدنت القدح من فمها ثم أرجعته وقد غلب عليها الضعف ونظرت إلى ما حولها كأنها تودع الدنيا وما فيها، ثم قالت: هلا أريتموني عبد الرحمن ولو مقتولا؟ بالله أروني إياه قبل موتي لأبكيه وأندبه. أيموت عبد الرحمن على قيد أذرع مني ولا أراه؟ أهذا عهدي بك يا عبد الرحمن؟ أين أنت وكيف قتلوك؟ هل قتلوك بالعسل أم بالسيف؟ تعال وانظر خطيبتك وهي تتجرع السم بلذة وشوق لأنه سيجمعها بك. هل علمت قبل موتك أنك ستلاقيني عاجلا؟ هل أنبئوك قبلما قتلوك بأنهم سيقتلونني الآن؟ ليتهم أخبروك لتتأسى بقرب لقائي.
ثم وقفت وقد هاجت عواطفها وتبدلت حالها وظهر الهياج في عينيها وقالت: هل قتلوك حقيقة؟ لا. لا. لم يقتلوك. أظنهم أشفقوا على شبابك؟ ولكنهم قوم طغاة لا يعرفون الشفقة، لولا ذلك ما استهانوا بالنبي وقتلوا نخبة الصالحين من أهل بيته، فلا غرو إذا قتلونا. ثم سكتت قليلا وقالت: ترى أين أنت يا عماه؟ هل علمت بمصيري؟ وهل تذكر وصيتي؟ ماذا يكون من أمرك إذا سمعت بمقتلي ومقتل عبد الرحمن؟ هل أنت ذاكر وعدك؟ امض إلى تربة أبي وابكه عني واسكب عليه الدموع ومزق الضلوع، بل ابك الإسلام وأندب المسلمين لما أصابهم من الحيف بخروج الخلافة إلى هؤلاء الظالمين.
وكانت تتكلم والطبيب واقف لا يبدي حراكا، وقد ظل صامتا وهو ينظر إليها ويعجب بشهامتها وقوة عارضتها.
صفحه نامشخص