قال عبد الرحمن: كيف نخرج منها وقد دفنوا سلمى فيها؟
قال: اخرجا إلى شركائكما في الثأر. اخرجا إلى مكة؛ فإن فيها ابن بنت الرسول، وهو المطالب بالخلافة، وهي حق له وحده. اذهبا إليه على عجل وانصراه، فإذا فاز بالخلافة فقد تم لكما الانتقام. إن البقاء هنا لا يجديكما نفعا، والأمر أعظم مما تظنان.
فقال عامر: وكيف ذلك يا مولاي، ماذا حدث؟
قال: قد علمتما أن يزيد لما مات أبوه وقام يدعو الناس إلى بيعته كان الحسين في المدينة ومعه غيره من أبناء الصحابة وفي جملتهم عبد الله بن الزبير بن العوام، وكان عامل معاوية على المدينة يومئذ ابن عمه الوليد بن عقبة، فكتب إليه يزيد بموت معاوية ويطلب إليه أن يأخذ البيعة من الحسين وعبد الله بن الزبير، فجاءه الكتاب وعنده مروان بن الحكم فاستشاره في الأمر فقال مروان: «أرى أن تدعوهما الساعة وتأمرهما بالبيعة.» فبعث إليهما وكانا في المسجد، فلما وصل إليهما الرسول وأخبرهما بطلب الوليد قالا: «انصرف الآن وسوف نلحق بك.» ثم قال ابن الزبير للحسين: «ترى فيم بعث إلينا في هذه الساعة التي لم يكن يجلس فيها؟» فقال الحسين: «أظن طاغيهم قد هلك فبعث إلينا ليأخذ منا البيعة قبل أن يفشو في الناس الخبر.» قال عبد الله: «فماذا أنت صانع؟» قال الحسين: «أجمع أصحابي الساعة ثم أمشي إليه، وأجلسهم على الباب وأدخل عليه.» قال عبد الله: «إني أخاف عليك إذا دخلت.» قال الحسين: «لا آتيه إلا وأنا قادر على الامتناع.» ثم قام وجمع إليه أصحابه وأهل بيته حتى أقبل على الوليد وقال لأصحابه: «إني داخل، فإذا دعوتكم أو سمعتم صوتي قد علا فادخلوا علي بأجمعكم، وإلا فلا تبرحوا حتى أخرج إليكم.» ثم دخل الحسين على الوليد ومروان عنده، فسلم وقال مروان: «الصلة خير من القطيعة، والصلح خير من الفساد، وقد آن لكما أن تجتمعا، أصلح الله ذات بينكما.» وجلس الحسين فأقرأه الوليد الكتاب، ونعى له معاوية ودعاه إلى بيعة يزيد، فاسترجع الحسين وترحم على معاوية وقال: «أما البيعة فإن مثلي لا يبايع سرا، فإذا خرجت إلى الناس ودعوتهم إلى البيعة ودعوتنا معهم كان الأمر واحدا.» فقال الوليد وكان يحب المسالمة: «انصرف.» فقال مروان للوليد: «إذا فارقك الساعة ولم يبايع ما قدرت منه على مثلها أبدا حتى تكثر القتلى بينكم وبينه، أحبسه فإما بايع وإلا ضربت عنقه.» فوثب عند ذلك الحسين وقال: «يا ابن الزرقاء، أأنت تقتلني أم هو؟ كذبت والله.» ثم خرج حتى أتى منزله، فقال مروان للوليد: «عصيتني، لا والله لا يمكنك منه نفسه بمثلها أبدا.» فقال الوليد: «والله يا مروان ما أحب أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه من مال الدنيا وملكها وأن أقتل حسينا إن قال لا أبايع، والله إني لا أظن من يحاسب بدم الحسين خفيف الميزان عند الله يوم القيامة.» قال مروان: «قد أصبت.» قال هذا وهو غير حامد له رأيه.
أما عبد الله بن الزبير فلما أتاه رسول الوليد أجاب بقوله: «الآن آتيكم.» ثم أتى داره فتمكن فيها، ولما بعث إليه الوليد وجده قد جمع أصحابه واحترز، فألح عليه الوليد وهو يقول: «أمهلوني.» فبعث إليه الوليد مواليه فشتموه وقالوا له: «يا ابن الكاهلية لتأتين الأمير أو ليقتلنك.» فقال لهم: «والله لقد استربت بكثرة الإرسال، فلا تعجلوني حتى أبعث إلى الأمير من يأتيني برأيه.» فبعث إلى أخاه جعفر بن الزبير، فقال جعفر للوليد: «رحمك الله، كف عن عبد الله فإنك قد أفزعته وذعرته، وهو يأتيك غدا إن شاء الله، فمر رسلك فلينصرفوا عنه.» فبعث الوليد إليهم فانصرفوا، وخرج ابن الزبير من ليلته فأخذ طريقه إلى مكة هو وأخوه ليس معهما ثالث، فسرح الوليد الرجال في طلبه فلم يدركوه، فرجعوا وتشاغلوا عنه بالحسين ليلتهم، فقال لهم الحسين: «أصبحوا ثم ترون ونرى.» فكفوا عنه، فسار من ليلته وأخذ معه بنيه وإخوته وبني أخيه وجل أهل بيته، وكان ذلك بعد ليلة من خروج ابن الزبير.
وقبل أن يخرج الحسين من المدينة أشار عليه أخوه محمد ابن الحنفية أن يدعو الناس إلى بيعته ويصبر على ذلك، فلما أتى مكة تقاطر إليه الناس ليبايعوه، ولكن بعض الناس أشاروا عليه أن يقدم الكوفة ويستنصر أهلها، وأشار عليه آخرون بالبقاء في مكة يستظل بالحرم؛ لأن أهل الكوفة لم يخلصوا في نصرة أبيه من قبله، وأظنه بعث بابن عمه مسلم بن عقيل إلى الكوفة ليرى رأي أهلها في قدومه إليهم، فإذا تمت له بيعتهم وجاء الكوفة فسيبايعه العراق والحجاز فيتم له الأمر ويفشل يزيد، وفي فشله انتقام كاف لكما، فاذهبا إلى مكة وانصرا الحسين؛ فإنه أولى الناس بهذا الأمر، والله ينصركم أجمعين.
فلما سمعا قوله استحسناه ونهضا، فقبل رأسيهما مودعا دون أن يريا وجهه، وأوصاهما بسرعة الخروج من الشام لئلا يعلم بهما يزيد أو أحد رجاله.
الفصل الثاني عشر
سلمى لم تمت
فلنترك عامرا وعبد الرحمن في طريقهما إلى مكة، ولنعد إلى دمشق لنرى ما حدث لسلمى بعد أن أمر يزيد بتجريعها العسل، وذلك أن الخليفة لما افترق عن عبيد الله والطبيب وسار يلتمس فراشه مر بالحجرة التي كانت سلمى فيها، وكانت العجوز واقفة بالباب تنتظر أمره، فأشار إليها أن تنقلها إلى المقصورة وتحتفظ بها هنالك.
صفحه نامشخص