قالت: لا، ومن عسى أن يكونا؟
قال: أما الأول صاحب الحلة الأرجوانية الذي تريان وجهه شديد الأدمة وعليه أثر الجدري، فهو يزيد بن معاوية، الذي يسميه أتباعه أمير المؤمنين خليفة رب العالمين، والخلافة بريئة منه، وهو كما تريانه فتى حسن الصورة لم يتجاوز الرابعة والثلاثين من عمره، ولم يغير الجدري شيئا من جماله، ولكن الخلافة لا تحتاج إلى الجمال، وبخاصة إذا كان صاحبها منغمسا في الملاهي. أما رفيقه الذي يسير بجانبه مختالا، فهو عبيد الله بن زياد، ومتى اقترب منا فستشمان رائحة المسك تفوح من ثيابه.
فلما ذكر اسمه ارتعدت سلمى وقالت: أليس أباه الذي سعى في قتل أبي؟
قال: هو بعينه.
فقال عبد الرحمن: يا للغرابة! قد اجتمع القاتلان، وسيقتل كلاهما إن شاء الله. قال ذلك وحرق أسنانه، فنظر عامر إليه شزرا كأنه يؤنبه على ذلك التصريح؛ لأنهم محاطون بالرقباء والأعداء.
ولم يكد يزيد ورفقاؤه يقتربون من الدير حتى وصل أتباعهم ودخلوا البستان زرافات ووحدانا، وفيهم الراكبون على البغال والحمير، وفيهم المشاة وهم الأكثرون، ولكنهم على أشكال شتى في ملابسهم وأزيائهم، فبينهم أصحاب الملابس القصيرة والطويلة على اختلاف ألوانها، وبينهم حملة الحراب والنبال، وبعضهم يقودون فهودا، وآخرون يسوسون قرودا، وغيرهم يجرون كلابا في أرجلها أساور من الذهب وعلى ظهورها الجلال المنسوجة بالذهب، ومن حولها عبيد اختص كل منهم بخدمة كلب، فيقوم بكل ما يحتاج إليه من الطعام والنظافة، وشاهدوا في جملة تلك الحاشية أناسا يحملون طيورا جارحة كالباز والصقر والعقاب.
وانتشر هذا الجمع في البستان؛ لأن ساحة الدير لا تسعهم جميعا، وقد أحدثوا جلبة شديدة لكثرة عددهم واختلاط أصواتهم بأصوات الحيوانات والطير، من صهيل الخيل ونهيق الحمير وشحيج البغال وصياح الثعالب ونباح الكلاب وضحك القرود وصرصرة البزاة وحفيف الأجنحة.
وأخذت سلمى تسأل عامرا عن ذلك الجمع المحتشد، وما يحملونه أو يسوقونه من أنواع الحيوان، فأجابها عامر قائلا: إننا يا سلمى في مشهد بديع يندر أن يتفق لمثلك أن تراه؛ ولذا فإني أقص عليك خلاصته، فاعلمي أن الخليفة خارج للصيد، وربما أوغل في الغوطة واستغرقت سفرته أسابيع عدة، وهو مولع بالصيد حتى لقد شغله عن مهام الخلافة، ولا يقتصر في صيده على نوع من أنواع الحيوان، بل يصطاد الطيور والظباء والأرانب وحمر الوحش وغيرها، وهذا هو السبب في كثرة هذه الحاشية؛ فإن منهم حفظة الفهود وقد أركبوها على الخيل، ويزيد هذا أول من أركبها عليها، أما أول من اصطاد الفهود فهو كليب بن وائل الشهير في حروب الجاهلية، وهي تصطاد له الغزلان وحمر الوحش ونحوها، وترين في هذا الجمع عبيدا يسوسون الكلاب وعليها الألبسة الفاخرة والأساور الذهبية، وعند يزيد عدد كبير منها، وهي تصطاد له الغزلان والأرانب.
وأما الطيور التي ترينها في أيدي حامليها، فمنها الباز ويسمى حامله «البازيار»، والباز كما تعلمين من الجوارح التي تفترس الطيور الضعيفة كالدراج والحبارى والورشان والعصافير، فيحمل الصيادون الباز من الجبال ويعلمونه الطيران والرجوع إلى مكانه، فإذا خرجوا به للصيد أطعموه قليلا وقبض البازيار عليه من رجليه ومشى به بعد أن يكسو كفه بقفاز من جلد، فإذا اشتم الباز رائحة دراج أو حبارى رفرف وحاول الإفلات، فيفلته البازيار فيطير حتى يقع على طريدته فيقتلها، والبازيار يركض في أثره، وقد يهم الباز بأكل الطريدة فيدركه البازيار ويخرجها من فمه، وقد لا يهم بذلك، وهكذا يفعل العقاب، ويقال لحامله «عقاب»، وكذلك الصقر والشاهين وغيرهما من الجوارح ولكنها لا تصطاد إلا الطيور الضعيفة.
فاعترضه عبد الرحمن قائلا: ولكنني سمعت أن الباز قد يصطاد الغزال أيضا.
صفحه نامشخص