وأنبئ الرئيس بدخولهم، فنزل لملاقاتهم ورحب بهم ودعاهم للجلوس، فأنسوا بفصاحة لسانه العربي وإن تكن العجمة ما زالت بادية فيه، وجلس على مقعد تحت الصفصافة وكل منهم في شاغل من نفسه، فتفرس الرئيس فيهم فرأى أحدهم كهلا في نحو الخمسين من عمره، طويل القامة، عريض الأكتاف، خفيف العضل، واسع العينين أسودهما، خفيف العارضين واللحية، رقيق الوجه، فتذكر أنه رآه غير مرة، وكان الثاني شابا لا يتجاوز بضعا وعشرين سنة، ولكن من يراه يحسبه ابن ثلاثين؛ لخصب جسمه ونمو عارضيه ولحيته، وكان مشرق الوجه تكاد الصحة تتدفق من وجنتيه.
وأما الفتاة، فلم يتمالك الرئيس عند النظر إليها من الإعجاب بجمالها؛ إذ لم يسبق له أن رأى فتاة مثلها في عمره الطويل الذي قضاه في دمشق وضواحيها، على كثرة ما شاهد من بنات الروم والعرب والنبط والسريان واليهود، ولم تقع عينه من قبل على فتاة في وجهها من الجمال والهيبة ما في وجه هذه الفتاة، وقد أدهشه منها بنوع خاص جمال عينيها وإن لم تكونا كبيرتين كعيني رفيقها الشاب، ولكنهما كانتا حادتين ينبعث النور من أهدابهما، جذابتين لا يستطيع من يراهما غير الاستسلام لهما والرضوخ لسلطانهما، وقد زادهما تأثيرا في القلوب أنهما كانتا في وجه ناضر، وقد توردت وجنتاه حتى كاد الدم يقطر منهما.
والتفت الرئيس إلى بساطة ثوبها فخيل إليه أنها من الفقراء، وقال في نفسه: إذا كان أبوها فقيرا بالمال فإنه غني بهذه الفتاة. إنها لو حسرت أكمامها وأزاحت لثامها لعلم أنها ليست من الفقر في شيء؛ لما بأذنيها من أقراط اللؤلؤ، وما في معصميها من الأساور والدمالج من الذهب والفضة والعاج، ناهيك بما يراه حينئذ من جمال فمها وما فيه من المعاني السالبة للقلوب مما يقصر دونه القلم ويكل عن وصفه اللسان. والجمال الذي يعبر عنه باللسان أو القلم ليس جمالا، وإنما هو صورة يصنعها الكاتب أو المتكلم ألفاظا، وأما الجمال فما أعجزك عن وصفه، وخانتك القريحة في التعبير عنه. ذلك هو جمال سلمى عروس روايتنا؛ فقد كان في محياها شيء لا يعبر عنه إلا بالسحر، فلا يراها أحد إلا شعر بميل إليها، ولا يكلمها حتى يقع تحت سلطانها فلا يقوى على جدالها، فضلا عما يبدو عليها من مخايل الذكاء وحدة الذهن وأصالة الرأي، مع ما يتجلى في وجهها من عزة النفس والأنفة.
وكان الرئيس لما رأى أولئك الضيوف قد ظنهم لأول وهلة أبا وولديه، ولكنه ما لبث أن تبين من تباين الملامح أنه ليس أباهما، وإن تكن المشابهة قريبة بين الشاب والشابة.
فافتتح الرئيس الحديث قائلا: يظهر أنكم قادمون من مكان بعيد، لعلكم من العراق؟
فأجاب الكهل قائلا: نعم يا سيدي، إننا قادمون من الكوفة بأحمال التمر إلى أسواق دمشق.
ولم يكد يتكلم كلامه حتى كان الرئيس قد تذكره وعرف اسمه فابتدره قائلا: ألست عامرا الكندي؟ فابتسم عامر وقال: نعم، أنا هو يا سيدي، وقد كتمت أمري لأرى هل تذكر ضيفك القديم؟
فتنهد الرئيس وقال: وكيف لا أذكره وقد شاهدت من أيام ضيافته يوما هائلا؟! إني لا أزال أذكر تلك الساعة الرهيبة تحت الجوزة.
فأشار عامر بملامح وجهه إشارة تنم عن أنه لا يحب تلك الذكرى المؤلمة، وأراد استئناف الحديث فسبقه الرئيس إلى السؤال قائلا: لعل هذا الشاب ابنك وهذه الفتاة ابنتك، ما اسماهما؟
فتوقف عامر لحظة وهو يحك طرف ذقنه بسبابته ثم قال: نعم إنهما ولداي: عبد الرحمن وسلمى.
صفحه نامشخص