وكل حي سالك سبيلي
وكان الصوت خارجا من فسطاط الحسين فعلمت زينب أنه صوته فلم تتمالك نفسها أن وثبت تجر ثوبها وهي حاسرة الرأس، فتبعتها سلمى حتى انتهتا إلى الحسين فرأتاه جالسا وبجانبه خادمه يعالج سيفه ويصلحه، فصاحت زينب: واثكلاه! ليت الموت أعدمني الحياة اليوم. ماتت أمي فاطمة وأبي علي وأخي الحسن. يا خليفة الماضي وثمال الباقي.
فنظر الحسين إليها وقال: «يا أخية، لا يذهبن حلمك الشيطان.» ثم ترقرقت الدموع في عينيه وقال: «لو ترك القطا لنام.»
فقالت زينب: يا ويلتاه! أفتغتصب نفسك اغتصابا، فذلك أقرح لقلبي وأشد على نفسي، وغلبها الحزن وبرح بها الأسى فخرت مغشيا عليها، فهمت سلمى بها وأجلستها، وقام الحسين لها وقال: «يا أختاه، اتقي الله وتعزي بعزاء الله، واعلمي أن أهل الأرض يموتون وأهل السماء لا يبقون، وأن كل شيء هالك إلا وجه الله. جدي خير مني، وأبي خير مني، وأمي خير مني، وأخي خير مني، ولي ولكل مسلم برسول الله أسوة.» ثم قال لها: «يا أخية، إني أقسمت عليك فأبري قسمي، ولا تشقي علي جيبا، ولا تخمشي علي وجها، ولا تدعي بالويل والثبور إذا أنا هلكت.»
فأطاعته وخرجت وسلمى تتبعها صامتة، وقد أحبت الموت مع الحسين، أما هو فقضى ليله يصلي ويستغفر ويدعو ويتضرع، وأصحابه كذلك، وقضت سلمى ليلتها مثلهم وقد أخذ العطش منهم مأخذا عظيما.
وأصبحوا في اليوم التالي وهو العاشر من المحرم، فاشتغل الحسين بترتيب رجاله فأمرهم أن يدخلوا أطناب الأخبية بعضها في بعض حتى تصير كأنها خباء واحد، وأن يستقبلوا القوم من وجه واحد والبيوت من ورائهم، ولم يكادوا يفعلون ذلك حتى رأوا الخيل أقبلت عليهم وفي مقدمتها شمر بن ذي الجوشن، وكانت سلمى واقفة في باب الخباء، فلما رأت شمرا ارتعشت أعضاؤها ورفعت نظرها إلى السماء وطلبت إلى الله أن ينتقم منه.
ثم حدثتها نفسها أن ترميه بسهم ولكنها تذكرت أن الحسين أبى عليهم القتال فصبرت واكتفت بالدعاء وملاطفة الطفل.
أما الحسين فركب راحلته وعليه جبته وقلنسوته وتقدم وهو ينادي بأعلى صوته: «يا أهل العراق»، فسمعه أكثرهم وأصغوا لما سيقوله فقال: «أيها الناس اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتى أعظكم بما يحق علي، وحتى أعذر إليكم، فإن أعطيتموني النصف كنتم بذلك أسعد، وإن لم تعطوني النصف من أنفسكم فأجمعوا رأيكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين. أما بعد: فانسبوني وانظروا من أنا، ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، فانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيكم؟ وابن وصيه وابن عمه؟ وأول المؤمنين المصدق لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله بما جاء من عند ربه؟! أوليس حمزة سيد الشهداء عمي؟! أوليس جعفر الطيار في الجنة بجناحين عمي؟! أولم يبلغكم ما قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله لي ولأخي: «هذان سيدا شباب أهل الجنة.» فإن صدقتموني فهو الحق، والله ما تعودت كذبا منذ علمت أن الله يمقت عليه أهله، وإن كذبتموني فإن فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم.» ثم قال: «فإن كنتم في شك من هذا فتشكون أني ابن بنت نبيكم، فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري فيكم ولا في غيركم. ويحكم! أتطالبونني بقتيل منكم قتلته؟! أو مال لكم استهلكته؟! أو بقصاص جراحة؟!»
فأجابوه: إننا لا نفهم ما تقول. وحملوا وحمل رجاله.
فلما علت الضوضاء صحا الطفل من نومه فأسرعت سلمى إليه وقلبها يتقطع حزنا عليه، واشتغلت بإسكاته وهو يصيح من العطش كأنه ذعر لأصوات الناس فازداد بكاء وعويلا، وزينب مشغولة بنفسها لا تدري ماذا تعمل وقد اشتد المرض بابن أخيها فشغلها الاعتناء به.
صفحه نامشخص