من غير تردد أقول إن أهم ما حدث هو غرق «شامبوليون»، ونجاة سمعتنا في الدنيا. إن البلطجي لم ينقذ أرواح مسافرين، بل أنقذ صيت أمة، هذه الأمة التي لا يكفر بقدرتها إلا الخونة والمخنثون. من الصعب على الجمهور أن يؤمن بكلمات ويفقه معناها حتى تتجسد أعمالا. اليوم يفهم الكثيرون ما معنى «إن فيكم قوة لو فعلت لغيرت وجه التاريخ.» لقد خط المجذاف في شاطئنا سطرا من المجد جديدا؛ إنه درس في البطولة الإيجابية يلقى علينا وتتلقنه ناشئتنا، يا للصورة الرائعة إذ ينبري القارب اللبناني، فيقوم بالمعجزة التي انخذل عنها الطراد البريطاني، ومعداته، والطائرات، وإذ نتغنى ببطولة «البلطجي»، فنحن نشيد برفاقه ورجاله، وبليغ أن يكون بينهم فلسطينيون، فندرك أن ليس بين خنوع اللاجئ ووثبة البطل المنقذ إلا زوبعة تستثير.
والكسليك؟
أما الرجل الذي انتحر، رهين الكسليك، فقد يقال أن ليس من المروءة الطعن في جثته، ولكن بشارة الخوري لا يزال حيا، بل هو لا يزال حيا وفعالا، ولا يهمنا من أمره إلا ما فعله أمس، وما يفعله اليوم، وما قد يفعله غدا، وما نقوله الآن فيه هو أقل عنفا مما سمعه منا وقرأه لنا أيام سيادته وسؤدده.
قد يكون كل الذين يتبجحون بأنهم ساهموا بخلعه صادقين، ولكن الحقيقة الراهنة التي يجهلها الناس هي أن بشارة الخوري لم ينته أمره إلا حين قرر المعسكر الغربي التخلي عنه. لقد كان رئيس الجمهورية اللبنانية زلمة الأجانب، ولقد نبذوه كما ينبذون كل من تنعدم منفعته لهم. إن أردت أن تسجل تاريخ قرارهم باستدباره، فقد كان شهر حزيران 1952 حين تحققوا أن عهده بلغ نقطة اللارجوع في الفساد، وأن استمراره ينشر الفوضى والشيوعية.
على أن الأجانب، وهم لا «يتزوجون» أحدا، كذلك هم لا «يطلقون» أحدا، لا أدري إن كان بلغك أن الأميرال مونتباتن حين جاء بيروت زائرا، منذ أسابيع جلس إلى مائدة مع الأستاذ بشارة خليل الخوري، وقائد الجيش الجنرال شهاب، رهين الكسليك، رجل ساحر الكياسة، إنه اليوم يتستر بأقنعة كثيفة حاكتها اختبارات الحياة، فالتف بها ساترا عن الناس نفسه، أقنعة لا تطل منها حقيقته إلا في لحظات مرح، وهو اليوم مرح يتأنق بلبسه، شأن من يزهو بظفر، أو من يريد ترميم معنوياته، وهو في غير ساعات المرح يقف مذعورا، وعيناه كقبضتي ملاكم؛ إحداهما امتدت لتضرب، والثانية حذرة متوترة تحرس وجهه وجسده.
والجريمة؟ إنه لا يعترف بها. من الذي مجد السخف في هذه البلاد، وزركش الحكم بالترف الشرقي والفخفخة؟ من الذي نهب الخزينة، وسجن الأبرياء، وأطلق سراح المجرمين؟ من ألبس السرقة والخداع والفساد ثوب الاحترام؟ من رسخ المحسوبية، وجعل من هذه الدولة مدينة ألعاب؟ بشارة الخوري؟ إننا نجور على الرجل إن قلنا إنه سبب الكوارث كلها، وهذه المخازي، ولكننا نجور على الحقيقة إن قلنا إنه لم يلعب الدور الرئيسي في تمثيل هذه المأساة.
بشارة الخوري هو رجل له ثقافة القرن العشرين، وكياسة رجل القرن الواحد والعشرين، والتحسس الاجتماعي لرجل القرن الثامن عشر، إنه يؤمن بالإقطاعية سلبا وإيجابا، فهو ينحني أمام العائلات الإقطاعية، ولو أنه يرجع إلى الحكم في غد لما استعان إلا بالأشخاص أنفسهم الذين تعاون معهم فيما قبل. إنه ما كان ليوافق على إعدام أنطون سعادة لو أن اسمه الشيخ أنطون سعادة، إنه يزدري الرجل العادي، ويرفس اسمه بشفتيه. وفخامة الرئيس الشيخ بشارة الخوري أراد أن يحكم دولة بعقلية مختار ضيعة هي بطبيعة حالها حزبان؛ فمن وسائل تسيير الأمور فيها النكايات والتنكيل والمحاباة، وهو صاحب عقلية تمجيد «الشاطر حسن» لا جبران خليل جبران، ولا شارل مالك. إنه في قعر نفسه كان يحس أنه ملك مطلق، أو متصرف تركي، أو الأمير بشير، كل شيء فهو ملكه، وما يتسرب إلى الشعب فهبة منه إليه.
لقد «أعطى» الحزب رخصة كأن ليس للحزب حق برخصة، إنه «عفا» عن فلان، كأنما ليس من حق البريء أن لا يسجن، كل قرية «أعطاها» تليفونا، و«منحها» مدرسة، «جاد عليها» بطريق.
إنه لا يشعر ولا يعترف بجرائم عهده، ولا هو مقتنع بأنه أجرم. الحكم في نظره هو دق طاولة. الصفقات، السرقات، الفوضى، هذه ألفاظ ليس لها في ضميره لسعة التعنيف. الفلوس التي طارت في المطار تكفي لبناء عدة مستشفيات، ليس له ضمير اجتماعي يوبخه، لقد كان يلعب دق طاولة، وخسر البرتيتة، على حدفة. أتاه «بنج جهار» فخسر، لو أتاه «بنج دو» لربح. خذها مني: هذا الرجل سيعود إلى مسرح السياسة اللبنانية إلا إذا أصابت نفوذه اليوم ضربة قاضية كمحاكمة أو إبعاد، وإلا إذا طغت موجة وعي قومي اجتماعي على هذا الشعب فنبذ أمثاله، وسيرجع نافضا يديه من أقاربه، متنصلا من بعض حلفائه، متحالفا مع بعض أخصامه، وستكون «الطائفية» نفير هجومه. إن المحامي بشارة الخوري أخذ يعد دفاعه عن الرئيس بشارة الخوري منذ اللحظة التي وقع فيها وثيقة الاستعفاء، وقد بدأ يدون لائحة الاتهام منذ أن توجه خلفه إلى منصة البرلمان ليلقي خطبة الرئاسة. إنه يجند كل ناقم على هذا العهد، وكل نقمة ثارت أو ستثور، إنه يعبئ الأنصار، ويختزن العتاد ليوم الزحف، وقد يكون سواه حامل العلم.
إن الرجل الذي انتحر رهين الكسليك قد يبعث حيا.
صفحه نامشخص