ولكن القصة لا تبدأ هنا، إنها تبدأ في بيت المرحوم كامل حمادة، وقد جلسنا إلى طاولته، وانبسطت على الطاولة صينية كبة. وصينية الكبة في الفلبين أندر من «الكافيار» في خيام اللاجئين. والسيدة وديعة حمادة - زوجة كامل - لا تعدها إلا للأصدقاء الغالين. كان منهم «طام نجار» السوري الأميركي، رابعنا على الطاولة. وفيما نحن نتغنى بما نرى وننشق، رن التليفون؛ فنهضت على عادتها السيدة وديعة لتجيب، والتفتت بنا وقالت: «من نيويورك!» وبعد لحظة سألتني: من هي أدال أرسلان؟ قلت: «لا أدري.» قالت: «لعلها مقطوعة في نيويورك، وتريد القدوم إلى الفلبين.» وبدأت المحادثة على التليفون، وكان في صوت السيدة وديعة نزق، فهرعت إلى التليفون، وتناولت الحديث عنها. قلت: «من المتكلم؟» أجاب: «عادل أرسلان.» أجبت: «أنا سعيد تقي الدين.» قال: «أطمنك إلى إخوتك.»
المغتربون - أكثرهم - هم أبدا في سكرة عاطفية من شوق وحنين، وقد زادني نشوة سمعي «أطمنك إلى»؛ ذلك أن عمي أمين تقي الدين الذي هذبني في الأدب كان يغيظه مني أن أكتب «أطمنك عن!» «أطمنك إلى» هي اللغة الصحيحة، ومرة أصلح خطئي بصفعة شديدة!
وفيما أنا في نشوة الذكريات سمعت من عادل أرسلان أن منظمة الأمم المتحدة ستصوت على التقسيم، وأنه يرجح أن تصوت الفلبين مع أميركا ضدنا، وأنه من واجبنا أن نسعى لكسب صوت «الجنرال رومولو» مندوب الفلبين، خصوصا وهو شخصية عالمية، وأن الحالة حرجة. سألته: وإن فشلنا؟ أجاب: سنخوض الحرب! لفظة الحرب من عادل أرسلان سجلت في أذني دويا أصيلا، لم تكن لفظة فارغة، رجعت إلى الطاولة منفعلا، ورويت الحديث الذي سمعته.
قال طام «توماس» نجار، وهو وليد أميركا: «لا بأس أن أخذ اليهود فلسطين، هكذا نتخلص منهم في أميركا، وأي شأن لنا نحن مع العرب؟!»
وانفجرت في محاضرة.
السيدة وديعة حمادة هي من عائلة هاشم في كفر شيما، عمر ابنها الكبير ستون سنة، أشهد أني لم أر في حياتي عينين يلمع فيهما العزم والصبا مثل عينيها، ولا جنديا استقامت قامته كما استقامت قامتها، ولقد ثارت ثورتها؛ فهرعت تتلفن «إلى مانولين». ومانولين هذا هو اسم التحبب تدعو به «مانويل روهس» رئيس الجمهورية الفلبينية. مانولين ربي في دار السيدة وديعة، وكان يدعوها «أمي» باللفظة العربية. وفي عشاء عيد الميلاد كان يأتي لتناول الطعام على مائدة كامل حمادة، وقد كنت أجالسه مع الصديق سعد الدين الجارودي، المزارع في صور اليوم.
قالت وسماعة التلفيون على أذنها: «هل من بأس إن قابلتموه غدا؟»
أجبت: «بل هذه الليلة.»
وانطلقت والصديق كامل حمادة، وكان كامل صامتا متجهم الوجه شأنه في الأزمات النفسية.
ودخلنا على رئيس الجمهورية، فاستقبلنا فخامته بالقميص التحتانية وبالكلسون. القليلون الذين يزورونني في بيتي أستقبلهم بالقميص والكلسون، وإن أبدى أحدهم استهجانا أقول: هكذا استقبلني فخامة رئيس الجمهورية الفلبينية وعدد رعاياها 22 مليونا من البشر.
صفحه نامشخص