والدروز يكتسبون قوة إضافية حين يكونون جمعا؛ لأنهم أبدا يفكرون بما سيروى عنهم في المجالس والمضافات. ولقد استعمل القاوقجي الدروز كقوة احتياطية يدفع بها إلى القتال في الأزمات. وكم من مرة قلبوا الهزيمة إلى نصر، وكان اندفاعهم في المعركة ملهبا لحماسة كل المقاتلين، وكانت الصعوبة الكبرى التي حلت به مع المقاتلين الدروز أنهم كانوا في المعركة يضجون من الانتظار، ويتوقون خوض المعمعة، لا يريدون أن يفهموا أن تريثهم حتى الساعة الحاسمة هو أفعل في كسب القتال من اندفاعهم فيه منذ اللحظة الأولى.
وأية بيئة في بلادنا تنبت أصلح المقاتلين؟
يعتقد فوزي القاوقجي أن الشامي هو أفضل مجاهد، الشامي غير المثقف، والشامي - كما يحدده - هو ابن دمشق وقراها المجاورة؛ إنه شجاع رصين، ذكاؤه محدود، مرن في القتال، لا يطلب أجرا، ولا ينتظر غنيمة، يمول نفسه فيأتي بسلاحه وعتاده، وينفق من ماله إن استطاع، وهو مؤمن أنه إن استشهد فسيدخل الجنة.
ولكن الدمشقيين، وأبناء الغوطة - بعكس الدروز - تتراخى فاعليتهم إن كثر عددهم؛ فروح الفريق - سمها عصبية القبيلة - هي عند هؤلاء مفقودة، وهم إما تكاثروا ظهر بينهم المتزعمون وطالبو الوجاهة.
وسترى - في الجزء الثاني - كيف كان يستعين القاوقجي على محو الخلافات بينهم بالتحرش بالقوى الفرنسية؛ كي يشغل رجاله بالقتال عن الاقتتال.
الشركسي؟ شجاع. إنه يحس أنه أقلية في بلاد لا يتحسس قوميته فيها بعد، فولاؤه لعشيرته يعلي شأنها بضروب البأس غير مبال تحت أي علم يقاتل، شرط أن يؤمن الثوب العسكري الذي يلبسه رزقه ومجد قومه.
سألته لماذا يستثني المثقفين من أبناء قومنا في تغنيه عن البطولات، وكيف يفسر أن المقاتلين من الغرب هم أشد بأسا، مثقفين منهم وغير مثقفين؟
أجاب: إن الذين أصابوا العلم من مواطنينا هم مرفهون ناعمون، يعتقدون أن المدارس منحتهم حصانة تقصيهم عن جبهات النضال، فهم يتسلمون بارودة «لا يعطونها حقها»، إلا الذين تخرجوا من مدارس عسكرية، أو خدموا في الدرك، أو البوليس، غير أننا إن نظمنا أمورنا في المستقبل بحيث يحترم المثقفون العلم في دورة جبرية، أو يتدربون في المدارس ويتقشفون، فسيصبح المثقفون منا جنودا أفضل من غير المثقفين كما هو الشأن في الغرب.
والحياة في نظره ساعتان: ساعة حب، وساعة حرب؛ في ساعة الحب يكون الرجل أنانية خالصة، وهو يملك كل شيء، يحيا هذه الساعة لنفسه، لأثرته، ساطيا متنعما، ناسيا أن في الدنيا شيئا سواه، وساعة الحرب هي ساعة العطاء؛ إذ يفنى الإنسان في نضاله القومي، ويصبح هو لا شيء، وأمته كل شيء.
هو يقول لك بشيء من التيه إنه يفهم المرأة، وإنها تغويه ويغويها، وإن قلبه لا يزال خفاقا، وكذلك قلب سواه، وإن أنباء غماره في الغرام تستحق كتابا، غير أنني وقد تعرفت إلى «فرويد»، وإن أكن أنا لم أسئ فهم صوت القاوقجي المرتجف، وتلك الضحكة في أطراف عينيه، فأكبر ظني أن الحب عند هذا الجندي لو انتظم شعرا لكان قصيدة من نزار قباني لا مقطوعة من مجنون ليلى.
صفحه نامشخص