واستأنفت قافلتنا المسير نحو كوخ جديد، وملجأ جديد، وفي تلك الليلة بتنا - وعددنا نحو من أربعين - متمددين على أرض الكوخ المبني من القصب المحبوك.
وفي صباح اليوم الثاني اقتسمنا الأعمال؛ فتولى حسني الحلبي بناء الملجأ؛ لأنه كان يدعي أنه خبيرنا العسكري؛ فضرب بالمعول ضربات ثلاث استراح بعدها، وترك لرجال القبيلة إنهاء الملجأ، ورجعت ومخيبر كيروز إلى المدينة مع رجلين، واحتملنا من أغراضنا ما سلم من الحريق والسرقة، وكان أثمن ما احتملنا أربعة صناديق من الويسكي.
هذه الصناديق كانت هدية أعطانيها إيليا الأخرس - من حمص - وهو أعز من صادقت في هجرتي؛ فحين افترقنا في مانيلا قبيل بدء المعارك بين الأميركيين العائدين لاكتساح الفلبين، وبين اليابانيين المحتلين المدافعين، ودعني إيليا بقوله: «من يدري إن كنا سنجتمع على هذه الأرض مرة ثانية. أهديك هذه الصناديق من الويسكي، حذار أن تمسها إلا خلال المعارك والمخاوف.»
ولبثنا زهاء عشرين يوما في حياة شبه منتظمة؛ إذ كنا ننهض في الصباح الباكر فنسلق شيئا من الرز والبطاطا البرية فنزدردها. ثم نجتمع نحن الثلاثة؛ أنا وحسني الحلبي، ومخيبر كيروز، حول قنينة ويسكي - الساعة السابعة صباحا - بين أشجار الصنوبر على حجر كبير، فيتغير اسم المكان بتغير الشخص القاعد على الحجر الكبير؛ فالمجلس هو إما «صالون مخيبر»، أو «مقعد الشيخ»، أو «مكتب حسني». وفي نحو الساعة التاسعة تفرغ القنينة، ويمتلئ الجو بأزيز الطائرات التي يتراوح عددها بين الثلاثة والأربعة والعشرين؛ فيدخل الملجأ الأولاد ثم النساء، ثم أنا وحسني، ويبقى مخيبر خارجا ملاحظا حركة الطائرات، ولا يهرع إلى الملجأ إلا حين يكون الضرب على بعد مئات الأمتار منا، أو حين تمر الطائرات فوق رءوسنا.
وكانت الطائرات تبيض قنابلها كل يوم على مسافات تتراوح في البعد منا بين الكيلومتر والثلاثة، وفي كثير من الأحيان نجد أن الشظايا اخترقت حيطان الكوخ، أو دفنت في سطح الملجأ، ثم راحت الأخبار تتسرب إلينا عن أصدقاء ومعارف لنا قتلوا أو جرحوا، ودرسنا الحالة فلم نجد مكانا يفوق سواه بالأمن أو الخطر فلبثنا حيث نحن، ولعل سبب اطمئناننا على الرغم من تفجر القنابل حولنا كل يوم أننا في مكان مشجر، على شفا شير مشرف على مدرسة زراعية دمرتها الطائرات في أول زيارة، فقلنا لن تعود إلى ضرب منطقة ضربتها وإلى تدمير مكان دمرته.
هكذا استمرت الحياة أسابيع، أصبح الرعب والخوف والدمار والقتل من عادياتها ومألوفاتها. وكنا خلال ذلك قد نفذت نقودنا، وارتفع سعر البطاطا بحيث ساوى الكيلو نحوا من عشر دولارات؛ فأخذنا نبيع ألبستنا وحاجاتنا، وعشنا نحن الثلاثة حسني ومخيبر وأنا حياة اشتراكية نقتسم وعيالنا النقود والمئونة. أذكر يوما ظفرنا بجدي من الماعز التهمناه عشاء فاخرا، وكان ذلك الجدي مبادلة على جزمة صيد ملكها حسني، واليوم إن سألت سكان باغيو ما هو أفخر طعام في الدنيا أجابوك: «جزمة صيد.»
كنا نستبدل حاجياتنا بما نأكله غير حاسبين أن في الأمر مأساة؛ إذ لم يمر بنا يوم شككنا فيه بفوز أميركا، وبأنه في نهاية الأمر سيرتفع عنا نير اليابانيين، وأن هذه الأثواب والحاجيات أمور تافهة، غير أن الأمر لم يخل من مأساة. ذات يوم وجدت في البيت كيسين من الرز، وتطلعت إلى زوجتي فإذا الفاجعة في وجهها، وبعد تحر واستجواب فهمت أنها استبدلت بخاتم الخطبة كيسين من الرز.
لقد مرت بنا فواجع كثيرة؛ ضيق انقلب نعمة، خمول ذكر استحال في بعض الأحيان إلى ما قد تتوهمه مجدا. لقد محت الأفراح أكثر ما نزل بنا من آلام، ولكن السنين لم تمح عن وجه زوجتي بعض المصائب، ومنها أنها باعت خاتم خطبتها.
نسيت أن أخبرك أن القبيلة التي عشنا بينها لا تستطيب من اللحم إلا لحم الكلاب.
وفاتني أن أخبرك أنني تثبت من صدق نظرية صديقي بشارة «أبو أنطوان» الجريديني من الشويفات؛ إذ كان يعظني: «يا ابني! التجارة لا تموت، الرجال تموت.» فتحت ضرب القنابل ازدهرت تجارة البيع والشراء، ومن حسن حظنا أن مخيبر كيروز تعاطى الاتجار بالبقر فكان حينا بعد حين يبيع ويشتري ويقايض ويذبح، وفي كل مرة نلتهم أرباحه معلاقا، أو قصبة سوداء، أو كتف عجل.
صفحه نامشخص