ومرت بنا بعد ذلك أيام كثيرة، وفي كل يوم كانت تزداد فيها تلك الحالة تملكا، وأخيرا لم يعد بوسعي الصبر وتحققت أنها تود التخلص مني، فطلبت الفرار ... وبالحال أعددت أمتعتي للسفر حيث لا أعود بعده، ولم يبق علي سوى أن أودع زوجتي الوداع الأخير بعد أن أطلعها على العلاقة التي بيننا، فذهبت إلى غرفتها بقلب واجف ووقفت على الباب كذليل وقد تلعثم لساني وتحلب العرق من جبيني، فلم أعد أدري بأي عبارة أفهمها مقاصدي.
وأخيرا تقدمت نحوها بقدم الجبان وأخذت يدها بين يدي ولفظت هذه الكلمات بصوت متهدج: أستودعك الله يا بولينا، فإنك لن تريني بعد ... وسأبارح إنكلترا ... ثم خنقتني الدموع فتوقفت عن الكلام. أما هي فلم تجب بكلمة، ولكني شعرت بيدها ترتعش، وأردفت قائلا: إن أمورا مهمة تقضي علي بسرعة الذهاب. فعندما رأت أنني منتظر جوابها، قالت بصوت ضعيف: متى أنت عازم على السفر؟
هذا كل ما فاهت به. فأجبتها وكادت تشق مرارتي: الآن، وما لي سوى سويعات قليلة أريد أن أصرفها بالتحدث معك، فهل لك رغبة في مرافقتي إلى الحديقة؟ - إذا كنت تريد ذلك. - بل إذا لم يكن لديك ثمة مانع، واعلمي أن ما سأحدثك به يختص بك وبمستقبل حياتك. - سأذهب.
ثم نهضت لترتدي أثوابها، وأنا خرجت متثاقلا وقد أنهكتني الأحزان، فأتيت إلى تلك الصخرة التي رأيت بولينا جالسة قربها أول مرة بعد رجوعي من سفري الطويل، ووضعت أمتعة السفر جانبا واضطجعت على الأعشاب النابتة، بينما كان النسيم يهب بين الأشجار فيسمع لها حفيف يمازجه صوت المياه المنسابة قربي، ثم أطبقت جفني واستغرقت في بحار الأفكار ولم أنتبه حتى شعرت بيد لطيفة قد وضعت على كتفي، فالتفت وأول ما وقعت عيناي عليه هو وجه بولينا القرمزي، فإذا بها شاخصة نحوي وعيناها الجميلتان تنثر الدمع كلؤلوء فوق ورد وجنتيها.
فخفق قلبي بشدة ولم أتمالك أن صرخت من فؤاد مقروح: بولينا، بولينا، هل تحبينني؟ - هل أحبك؟
ثم رمت بنفسها بين ذراعي وهي تقول: نعم أحبك يا زوجي العزيز. - متى علمت ذلك يا حبيبتي؟
أجابت وقد صدح صوتها كالموسيقى في أذني: من حين كنا جالسين على الصخر عند الشاطئ، وكنت حتى تلك الساعة جاهلة نسبتي إليك، ولم أدر إلا وقد عاودني تذكار الماضي فجأة واتضح لدي كل ما كان مخفيا. - ولماذا نزعت خاتم العقد من يدك؟ - لقد مرت بنا أيام طوال دون أن تخاطبني بهذا الشأن، فظننت أنك ندمت على هذا الارتباط؛ إذ رأيتني غير أهلة له، فوددت أن يكون حسب مشتهاك، ولكني وإن نزعته من يدي فقد حفظته قريبا من قلبي.
قالت ذلك ونزعت من عنقها سلسلة ذهبية قد علق بها الخاتم، ثم أردفت قولها: وعندما رأيتك لم تطالبني به تفاقمت أحزاني وتأكدت ما كنت أرتاب منه، وأما الآن فإذا كنت تراني أهلا له فأنت وما تشاء.
فتناولته منها وأعدته ليدها الجميلة بعد أن كسيتها بالدموع، ومن تلك الدقيقة أيقنت أن أتعابي قد انتهت وشمس سعادتي أشرقت.
وفي اليوم الثاني قلت لها: هل لك أن نبارح إنكلتره؟ - وإلي أين نذهب؟ - أتسأليني، بدون ريب إلى إيطاليا.
صفحه نامشخص