وفي اليوم الثاني بلغني وفود المسجونين فنهضت مسرعا إلى السجن، وهناك شاهدت الرئيس فإذا به شاب ممتلئ الجسم خفيف الحركة ذو أعين وقادة وجبهة مرتفعة، يستر قسما من جبينه قبعة بيضاء مستطيلة الأطراف ومرتديا أثوابا عسكرية وعلى جنبه سيف عريض. وبالجملة فهيئته تدل على الأنس والشهامة، فحييته بالإفرنسية، فرد تحيتي ببرودة دون أن يرفع إلي بصره، فانتظرت برهة ريثما فرغ من أشغاله وناولته الكتاب، فلم ينه قراءته حتى نهض إجلالا وقدم لي كرسيا ثم تبغا، وقال: إن هذا الكتاب يدفعني إلى بذل الجهد لمساعدتك، فأي خدمة تريد؟ فأخبرته أن قصدي لقاء رجل يدعى سنيري، فتبسم قائلا: إنه يندر وجود من يصرح باسمه الحقيقي بين المسجونين. - إذن فما العمل لأن أراه. - هل تعرفه بالنظر؟ - نعم، جيدا. - اتبعني إذن لنبحث عن ضالتك.
قال ذلك وتقدم بي نحو الباب وهو يرسل من فيه الدخان كغيوم متلبدة لا تلبث أن تلعب بها أيدي الرياح فتبددها، ثم نادى أحد الغفراء وأمره بإحضار مفاتيح أبواب السجن، فأطاع، وللحال دخلنا بابا صغيرا فإذا بممر طويل أشبه بمغارة لا ينفذ إليه إلا قليل من النور، هواؤه فاسد وأرضه مكسوة بالأعشاب وجدرانه مغطاة بالعناكب، فعندما أتينا على آخره تقدم الحارس وفتح بابا آخرا، فدخلنا دارا مظلمة تحيط بها غرف فارغة تنبعث منها رائحة العفن، فكادت تزهق روحي، ثم فتح أيضا باب تبين أن وراءه فضاء، فهرولت مسرعا بالخروج قدر إمكاني، ولم تطأ رجلي ذلك المكان حتى وقفت مبهوتا وجعلت أجيل أبصاري من جهة إلى أخرى بقلب يقطر دما لحالة أولئك المنكودي الحظ لأني رأيت أشخاصا مختلفي الهيئات والأجناس متجمعين فرقا وكل منهم مشغل بأمر، فبعضهم يضحكون ويلعبون ويمرحون وبعضهم يقذفون بأنواع الشتائم، ويتفوهون من وقت إلى آخر بكلمات تشمئز لسماعها النفوس الأبية، وقد تأثرت من ذلك المشهد المريع وتلك الأصوات التي كان يخالطها رنة القيود والسلاسل. وبالجملة فإن ذلك السجن ومن فيه كان لدي بمثابة جهنم على الأرض، وكنت أقول لنفسي: ألا يستطيع هؤلاء المساكين الهرب. ثم سألت القائد سرا عن هذا السؤال، فأجابني بأن كثيرين قد حاولوا الإفلات وذلك عندما يرسلون لأعمالهم، ولكن لا يلبثون أن يعودوا على أعقابهم بالخيبة إذ يجبرون على المرور بطريقهم في مدن سبيريا، فيرجعهم الحرس المنتشر في كل الأصقاع، ويكون جزاؤهم مضاعفة الأشغال.
ثم أومأ لي بالمسير، فتبعته وأنا أتأمل بتلك الوجوه، فما كنت أرى للطبيب أثرا، فجزعت جزعا عظيما وكدت أحقق أن أتعابي ذهبت ضياعا لو لم تقع عيني بغتة على رجل في زاوية المكان منفرد عن الجميع ورأسه منحن فوق صدره بما أخفى عني وجهه، فدنوت منه ولمست كتفه بلطف، فانتبه لنفسه ورفع رأسه المرسوم عليه آيات الحزن ونظر إلي بأعين ضعيفة، فتأملته جيدا وإذا به «مانويل سنيري».
الفصل الثاني عشر
من هو؟
وما لبث أن تغيرت نظراته فحملق بي هاتفا: مستر فوكهان في سبيريا؟!
فقلت بصوت ثابت: نعم أنا هو، وقد أتيت من إنكلترا لكي أراك، ثم التفت إلى فارلاموف قائلا: لقد حظيت بلقاء من أجد وراءه، فأجاب: إنه يسرني ذلك، ولكنك لا تقوى على الوقوف هنا طويلا لرداءة الهواء وخبث الرائحة، فيمكنك أن تذهب به لغرفة أحد الضباط حيث تبتعد عن هذه المناظر القبيحة. ثم أمر الحارس أن يرشدنا إلى حيث قال، فذهبنا من باب أدى بنا إلى حديقة مستديرة ومن حولها غرف عديدة، فدخلنا إحداها وكانت عارية تقريبا ولكنها نظيفة، فجلست على مقعد بال وابتدرت سنيري بهذه الكلمات: أتيت من سفر طويل جدا وتحملت مشقات كثيرة كي أراك يا مستر سنيري. - ولكنك ستعود قريبا، وأما أنا فلا أمل لي بالرجوع البتة، فما أطول سفري!
وكان يتكلم بلهجة محزنة وينظر إلي بتذلل، فتأثرت جدا لا سيما وقد ظهر على وجهه نتيجة عذاب تلك المدة التي قربته من الشيخوخة عشر سنين.
فقلت: ربما أنا الآخر لا أرجع أيضا، ويمكنك أن تتحقق صعوبة مركزي من مجرد مشاهدتك إياي في سبيريا.
فزفر زفرة طويلة، وقال: هل أنت المستر فوكهان؟ نعم أنت هو، ولكن من وأين أنا؟ هل هذه مدينة لندره أو جينوى أو مكان آخر؟ هل أستفيق يا ترى وأرى أن كل تلك الأتعاب التي تحملتها كانت حلما؟
صفحه نامشخص