اشتهر بين وسطي المائة الثالثة والرابعة من العلماء: أبو عبيدة مسلم البلنسي المعروف بصاحب القبلة، كان عالما بحركات الكواكب وأحكامها، وصاحب فقه وحديث، ومنهم يحيى بن يحيى المعروف بابن السمينة من أهل قرطبة كان بصيرا بحساب النجوم والطب وغير ذلك متصرفا في العلوم متفننا في ضروب المعارف، وكان معتزلي المذهب، توفي سنة 315، ومنهم محمد بن إسماعيل المعروف بالحكيم، وكان عالما بالحساب والمنطق نحويا لغويا توفي سنة 331.
انتدب الأمير الحكم في أيام أبيه عبد الرحمن صدر المائة الرابعة إلى العناية بالعلوم؛ فاستجلب من بغداد ومصر وغيرهما من ديار الشرق عيون التواليف الجليلة في العلوم القديمة والحديثة، وجمع منها في بقية أيام أبيه، ثم في مدة ملكه ما كاد يضاهي ما جمعته ملوك بني العباس في الأزمان الطويلة، فكثر تحرك الناس في أيامه إلى قراءة كتب الأوائل وتعلم مذاهبهم.
وقام بعده ابنه هشام فعمد إلى خزائن أبيه الحكم الجامعة للكتب المذكورة وغيرها، وأراد استخراج ما فيها من ضروب التآليف بمحضر خواص من أهل العلم بالدين، وأمرهم بإخراج ما في جملتها من كتب العلوم القديمة المؤلفة في علوم المنطق وعلم النجوم وغير ذلك من علوم الأوائل حاشا الطب والحساب، وأمر بإحراق ما عدا ذلك وإفسادها، فأحرق بعضها، وطرح بعضها في آبار القصر وهيل عليها التراب والحجارة، وغيرت بضروب من التغايير فعل ذلك تحببا إلى عوام الأندلس، وتقبيحا لمذهب الخليفة الحكم عندهم؛ إذ كانت تلك العلوم مهجورة عند أسلافهم مذمومة بألسنة رؤسائهم، وكان كل من قرأها متهما عندهم بالخروج عن الملة، ومظنونا به الإلحاد في الشريعة، فسكن أكثر من كان تحرك للحكمة عند ذلك، واضمحلت نفوسهم، وتستروا بما كان عندهم من تلك العلوم، ولم يزل أولو النباهة من ذلك الوقت يكتمون ما يعرفونه منها، ويظهرون ما تحوز لهم فيه من الحساب والفرائض والطب ... وما أشبه ذلك، إلى أن انقرضت دولة بني أمية من الأندلس.
قال هذا القاضي صاعد وتؤيده رواية ابن سعيد في المغرب، قال: وكل العلوم لها عندهم حظ واعتناء إلا الفلسفة والتنجيم فإن لهما حظا عظيما عند خواصهم، ولا يتظاهر بها خوف العامة، فإنه كلما قيل فلان يقرأ الفلسفة أو يشتغل بالتنجيم أطلقت عليه العامة اسم زنديق، وقيدت عليه أنفاسه، فإن زل في شبهة رجموه بالحجارة أو حرقوه قبل أن يصل أمره للسلطان تقربا لقلوب العامة، وكثيرا ما يأمر ملوكهم بإحراق كتب هذا الشأن إذا وجدت، وبذلك تقرب المنصور بن أبي عامر لقلوبهم أول نهوضه، وإن كان خاليا من الاشتغال بذلك في الباطن على ما ذكره الحجاري.
قال ابن حزم: وأما كتب الفلسفة فإمامها في عصرنا أبو الوليد بن رشد القرطبي، وله فيها تصانيف جحدها لما رأى من انحراف منصور بني عبد المؤمن عن هذا العلم، وسجنه بسببها، وكذلك ابن حبيب الذي قتله المأمون بن منصور المذكور على هذا العلم بإشبيلية، وهو علم ممقوت بالأندلس لا يستطيع صاحبه إظهاره، وكان مطرف الإشبيلي قد اشتغل بالتصنيف في علم النجوم إلا أن أهل بلده كانوا ينسبونه إلى الزندقة بسبب اعتكافه على هذا الشأن، فكان لا يظهر شيئا مما يصنف.
وقال أيضا من رسالة أهل قرطبة: إنهم من التمكن في علوم القرآن والروايات فقط، وكثير من الفقه والبصر بالنحو والشعر واللغة والخبر والطب والحساب والنجوم بمكان رحب الفناء واسع العطن متنائي الأقطار فسيح المجال، وقد ذكر ابن حزم في رسالته هذه من نبغ في الأندلس من المؤلفين في علوم الدين والنسب والتاريخ والطب، وعد بعض كتبهم، قال: وأما الفلسفة فإني رأيت فيها رسائل مجموعة وعيونا مؤلفة لسعيد بن فتحون السرقسطي دالة على تمكنه من هذه الصناعة، وأما رسائل أستاذنا أبي عبد الله محمد بن الحسن المذحجي في ذلك فمشهورة متداولة وتامة الحسن فائقة الجودة عظيمة المنفعة، وقال: لم يؤلف في الأزياج مثل مسلمة وزيج بن السمح، وهما من أهل بلادنا، وكذلك أحمد بن نصر.
وقال آخر: وأما كتب علم الموسيقى فكتاب أبي بكر بن باجة الغرناطي من ذلك فيه كفاية، وهو في الغرب بمنزلة أبي نصر الفارابي بالشرق، وإليه تنسب الألحان المطربة بالأندلس التي عليها الاعتماد، وليحيى الخدج كتاب الأغاني الأندلسية على منزع الأغاني لأبي الفرج، وهو ممن أدرك المائة السابعة، قال صاعد: ولما افترق الملك في صدر المائة الخامسة من الهجرة بين ملوك الطوائف، واقتعد كل منهم قاعدة من أمهات البلاد، فاشتغل بهم ملوك الحاضرة العظمى قرطبة من امتحان الناس، واضطرت الفتنة إلى بيع ما كان بقصر قرطبة من ذخائر ملوك الجماعة من الكتب وسائر المتاع، فبيع ذلك بأوكس ثمن وأتفه قيمة انتشرت تلك الكتب بأقطار الأندلس، ووجد في خلالها أعلاق من العلوم القديمة كانت أفلتت من أيدي الممتحنين بحركة الحكم أيام المنصور بن أبي عامر، وأظهر أيضا كل من كان عنده من الرعية شيء ما كان لديه منها، فلم تزل الرغبة ترتفع من حين ذلك في طلب العلم القديم شيئا فشيئا، ثم أبيحت تلك العلوم إلى أن زهد الملوك فيها وفي غيرها فقل طلاب العلم، وصاروا أفرادا بالأندلس.
فمن أعلام هذه العلوم على ذاك العهد أبو غالب بن عبادة الفرائضي كان مشهورا بعلم العدد وأبو أيوب عبد الغافر بن محمد أحد المهرة بعلم الهندسة، وعبد الله بن محمد المعروف بالسري كان عالما بالعدد والهندسة، وكان ينسب إليه العلم بصناعة الكيمياء، ومنهم أبو بكر بن أبي عيسى كان مقدما في العدد والهندسة والنجوم وسائر العلوم الرياضية فكان يجلس لتعليم ذلك العلم في أيام الحكم، وعبد الرحمن بن إسماعيل بن زيد المعروف بالإقليدي كان متقدما في علم الهندسة معتنيا بصناعة المنطق، وأحمد بن حماد القرطبي (331) عالم بالحساب والهندسة وأبو القاسم أحمد بن محمد العدوي كان معلما يعلم العدد والهندسة نافذا فيها، وأبو عثمان سعيد بن فتحون بن مكرم المعروف بالخمار السرقسطي كان متحققا إماما في علم النحو، وله تآليف في الموسيقى ورسائل في الفلسفة، وأبو القاسم مسلمة بن أحمد المعروف بالمرحيط كان إمام الرياضيين في الأندلس في وقته، وأعلم ممن كان قبله بعلم الأفلاك، وكانت له عناية بأرصاد الكواكب، وله كتاب حسن في تمام علم العدد، وهو المعني المعروف بالمعاملات، وكتاب اختصر فيه تعديل الكواكب من زيج البتاني، وعني بزيج محمد بن موسى الخوارزمي، وصرف تاريخه الفارسي إلى التاريخ العربي، ووضع أوساط الكواكب لأول تاريخ الهجرة، وزاد فيه جداول حسنة توفي في سنة 398، وقد أنجب تلاميذ جلة، ولم ينجب عالم بالأندلس مثلهم، فمن أشهرهم: ابن السمح، وابن الصفار، والزهراوي، والكرماني، وابن خلدون.
فأما ابن السمح القاسم أصبغ بن محمد بن السمح المهندس: فكان متحققا بعلم العدد والهندسة، متقدما في علم هيئة الأفلاك وحركات النجوم، وكانت له مع ذلك عناية بالطب، وله تواليف حسنة في الهندسة وعمل الأسطرلاب والأزياج ومنها زيجه الذي ألفه على أحد مذاهب الهند المعروف بالسند هند توفي سنة 426.
وأما ابن الصفار فهو أبو القاسم أحمد بن عبد الله بن عمر، كان متحققا أيضا بعلم العدد والهندسة والنجوم، وقعد في قرطبة لتعليم ذلك، وكان له أخ يسمى محمدا مشهور بعمل الأسطرلاب لم يكن بالأندلس قبله أجمل صنعا لها منه.
صفحه نامشخص