جورج بوشنر: الأعمال المسرحية الكاملة
جورج بشنر: الأعمال المسرحية الكاملة
ژانرها
تقديم جورج بشنر
موت دانتون
الأشخاص
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
ليونس ولينا
تقديم
الشخصيات
صفحه نامشخص
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
فويسك
الأشخاص
فويسك
تقديم جورج بشنر
موت دانتون
الأشخاص
الفصل الأول
صفحه نامشخص
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
ليونس ولينا
تقديم
الشخصيات
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
فويسك
صفحه نامشخص
الأشخاص
فويسك
جورج بشنر
جورج بشنر
الأعمال المسرحية
الكاملة
جمع وترجمة
عبد الغفار مكاوي
تصدير
بقلم أحمد سخسوخ
صفحه نامشخص
غادر العبقري جورج بشنر
Georg Buechner
عالمنا قبل أن يكمل الرابعة والعشرين من عمره. وعلى الرغم من حياته القصيرة، فقد ترك لنا كنوزا أدبية ودرامية وعلمية عظيمة الأثر، مهد بها الطريق إلى الدراما الحديثة كما يقول هاينر موللر
Heiner Mueller ، وكان تأثيره مباشرا على الحركة التعبيرية التي ظهرت بعد رحيله بأكثر من ثلاثة أرباع القرن - ظهرت في ألمانيا عام 1910م - وقد ظهر هذا التأثير على وجه الخصوص جليا لدى فرانك فيدكند
Frank Wedekind
وبرتولت بريشت
Bertolt Brecht ، كما استفاد من تقنياته في الكتابة الدرامية كتاب السينما فيما بعد، ويعتبر جورج بوشنر أول كاتب مسرحي في التاريخ يجعل بطله الدرامي بروليتاريا قبل أن يكتب ماركس
Karl Marx
وإنجلز
Friedrich Engels
صفحه نامشخص
بيانهما الشيوعي بعشر سنوات، كما ينسب إليه ما يسمى بالشكل الدرامي المفتوح، تمييزا له عن الطريقة الكلاسيكية أو الشكل الدرامي المغلق في الدراما الألمانية، والذي ارتبط ب «ليسنج»
Gotthold Ephraim Lessing
و«شيلر»
Friedrich Schiller
و«جوته»
Johann Wolfgang von Goethe
و«جريل بارتسر»
Grill Parzer . ويعتمد هذا البناء الدرامي لدى بشنر على مجموعة من المشاهد القصيرة يدور الحدث فيها في حلقات دائرية أو تصاعدية يتكشف فيها الحدث، كما يعتمد على الأغاني الشعبية (الفردية أو الجماعية) التي تتخلل الحدث الدرامي. ويبرز في أعماله صور التناقضات التي تظهر العالم على حقيقته وجوهره دون زيف، مثل الجحيم والجنة، الشقاء والسعادة، العدل والظلم، الفقر والغنى، الصقيع والدفء، البرودة والسخونة، وغير ذلك من المتناقضات. وتأتي جمله وتعبيراته الدرامية متقطعة وغير مكتملة، تظهر الإنسان - كما لدى شكسبير
Shakespeare - في عمقه وجوهره دون حتى ورقة توت تخفي عورته؛ إذ يظهره في عريه خالصا. وقد اعتمد بشنر في ذلك على المونولوجات الدرامية في بناء الحدث، حتى أصبحت هذه الطريقة نموذجا تحتذي به الحركات الحديثة فيما بعد، مثل الباتافيزيقية
والتعبيرية
صفحه نامشخص
Der Impressionismus
والسريالية
Der Surrealismus .
حياة قصيرة حافلة
جاء جورج بشنر إلى العالم من قرية جودلاو
Goddelau
في تمام الساعة الخامسة والنصف مساء من يوم الأحد السابع عشر من أكتوبر عام 1813م، وجودلاو قرية صغيرة تقع بين دارمشتات
Darmstadt
وفورم
Worm
صفحه نامشخص
في هسن
Hessen
بألمانيا.
1
وكان جورج هو الطفل البكر لوالده أرنست كارل بشنر
Ernst Karl Buechner
الذي كان يعمل طبيبا في جودلاو، وقد جاءها حديثا، وكان والده (جد جورج الصغير) ياكوب كارل بشنر
Jakob Karl Buechner
يعمل طبيبا أيضا.
كان أرنست والد جورج يعمل في جيوش نابليون
صفحه نامشخص
Napoleon ، حتى حصل على ممتلكات كنسية مصادرة مكافأة له، بالإضافة إلى حصوله على لقب الدوق الكبير، وفي عام 1812م عاد إلى مدينة جيسن
Giessen
واستقر بها، ولكنه كان يعمل في مستشفى هوف مايير بجودلاو.
2
لقد كان الأب معجبا بنابليون، وكان يتقن الفرنسية ويعشق حضارتها، وكان دائم الحديث عن الثورة الفرنسية أمام ابنه البكر جورج، حتى أصبح موضوع الثورة الفرنسية لدى الأخير مادة لمسرحيته الأولى موت دانتون
Dantons Tod . وقد شكل الأدب الفرنسي لجورج وإخوته اهتماما كبيرا في حياتهم؛ فقد عمل لودفيج
Ludwig
الأخ الثاني أستاذا للفلسفة في فرنسا، وحصل شقيقه التالي ألكسندر
Alexander
على الجنسية الفرنسية، وقد وصل إلى درجة الأستاذية في تاريخ الأدب بجامعة
صفحه نامشخص
Caën . أما الأخت لويزه
Louise
فقد تحققت ككاتبة رومانسية.
وعلى الرغم من تأثر جورج بشنر بالثورة الفرنسية، فقد كانت مثار خلاف بينه وبين والده، وقد انتهى الأمر بأن يترك جورج منزل الأسرة على إثر نزاع مع الأب، وعلى العكس كانت الأم لويزه كارولينا ريوس
Louise Caroline Reuss
مختلفة كثيرا عن والده، وكانت تحظى باهتمامات كل عالم بشنر الابن، وكانت تعشق الشعر الألماني، خاصة أشعار شيلر
Schiller
وأعماله مما أثر كثيرا على جورج. وهنا تجد أن تأثير الأم على جورج من الناحية الأدبية كان كبيرا، في الوقت الذي كان فيه تأثير الأب عليه من الناحية السياسية والعسكرية لا بأس به.
البداية
تبدأ علاقة جورج بشنر بالأدب في سن الخامسة عشرة عام 1828م، حينما كتب مجموعة أشعار في عيد ميلاد أمه. وفي العام نفسه، وهو في هذه السن الصغيرة، انضم إلى حلقة دراسية تهتم بالثقافة والأدب بدارمشتات التي انتقل إليها على إثر ترقية والده بعد حصوله على درجة الدكتوراه في الطب عام 1815م. وقد أنجبت هذه المجموعة فريدريش تسيمرمان
صفحه نامشخص
Friedrich Zimmermann (1814-1884م) ولودفيج فيلهلم لوك
Ludwig Wilhelm Luck (1813-1881م)، وفي هذه المرحلة انكب جورج على دراسة شكسبير وجوته وهوميروس
Homer
وأسخيلوس
Aeschylos/Aischylos
وسوفوكليس
Sophocles/Sophokles .
وفي عام 1831م، وعلى إثر حصوله على الثانوية العامة التحق بكلية طب جامعة ستراسبورج، وهناك أقام لدى القس يوهان يعقوب
Johann Jakob
والد لويزا فيلهلمينا يجله
صفحه نامشخص
Louise Wilhelmine Jaegle ، التي أصبحت عشيقته وخطيبته فيما بعد. وتعد رسائله إليها ذات قيمة كبيرة في تاريخ الأدب الألماني.
في عام 1833م انتقل جورج بشنر إلى جيسن لاستكمال دراسة الطب، وهناك ينخرط في التجمعات الثورية، وينتهي من كتابة بيانه الثوري الذي سمي فيما بعد ب «رسول هسن»
Der Hessische Landbote ، ثم ينتقل إلى ستراسبورج ليرتبط رسميا بمينايجله، وبعدها ينتقل إلى دارمشتات ليؤسس جماعة الدفاع عن حقوق الإنسان، ثم يعود - بعد شهر واحد - إلى جيسن لمواصلة دراسة الطب، وهناك يطبع بيانه السياسي «رسول هسن».
في نهاية عام 1834م ينكب على دراسة الثورة الفرنسية لينتهي الأمر بكتابة مسرحيته الأولى «موت دانتون»، تنشرها دار فرانكفورت بداية عام 1835م، يعبر فيها عن مأساة الثورة الفرنسية التي تخضبت أيديها بالدماء، وهي التي جاءت لتحقق العدالة والحرية والمساواة.
وتتوالى أعماله الدرامية والأدبية، فيكتب مسرحيته ليونس ولينا
Leonce und Lena
ومسرحية فويسك
Woyzeck
عام 1837م، ويترجم عملين إلى الألمانية للشاعر الفرنسي فيكتور هوجو
Victor Hugo ، وهي لوكرتيا بورجيا
صفحه نامشخص
Lucretia Borgia
وماريا تودور
Maria Tudor ، وفي هذه الأثناء، وفي عام 1836م، ودون أن يكمل الثالثة والعشرين من عمره يحصل جورج بشنر على الدكتوراه في الجهاز العصبي لسمك الباربا (وهو نوع من السمك يعيش في المياه غير المالحة وسط أوروبا، ويقترب طوله من المتر، ويتراوح وزنه ما بين 5-13 كيلوجراما)، وينتقل على أثر ذلك للعمل مدرسا بكلية الفلسفة بمدينة زيورخ
Zuerich
بسويسرا، وبعد فترة يشعر بالملل من تدريس مادة «مقارنات في علم التشريح بين السمك والضفادع».
النهاية
وفي بداية عام 1837م يصاب جورج بشنر بمرض التيفوس، فاضطرت السيدة كارولينا شولتس
Caroline Scholz
وزوجها لرعايته في منزلهما بزيورخ. وفي 19 فبراير من هذا العام تصل خطيبته مينايجله إلى زيورخ. وكان جورج في هذه اللحظة - كما تصفه السيدة كارولينا شولتس - يتنفس بصعوبة شديدة، وقد قطع الأطباء أي أمل له في الحياة. وهنا تقول السيدة كارولينا: «جلست أنا ومينا في حجرتنا، وكنا نعرف أنه على بعد خطوات منا يتمدد جسد ميت.» وبعدها بيومين رحل جورج بشنر إلى عالم آخر غير عالم الأحياء.
دراما بشنر والخلاف الأبدي
صفحه نامشخص
يرى الدكتور عبد الغفار مكاوي، في مقدمة ترجماته المتميزة لأعمال جورج بشنر في هذا الكتاب، أن مسرحيته الأولى هي «الوحيدة التي أتمها قبل موته، وهي «موت دانتون»»، ثم يؤكد أن هذه المسرحية - يقصد موت دانتون - مسرحية «لا تسير إلى هدف أو خاتمة، سواء أكانت هذه الخاتمة نهاية سعيدة متخيلة، أم كارثة شاملة تحرر النفس وتطهرها. إن الفصل الرابع والأخير لا يأتي معه بالنهاية المنتظرة؛ فهو لا يزيد على أن يكون أحد المشاهد العديدة التي رأيناها تدور مع أرجوحة الأحداث.» وعبد الغفار مكاوي بذلك يميل إلى تقرير أن جميع أعمال جورج بشنر المسرحية - بما فيها موت دانتون - غير مكتملة، حيث - كما يقول - يتابع جورج بشنر «الكتابة كالمحموم، فيؤلف مسرحيته الشعبية «فويسك» أو ملهاته الباكية «ليونس ولينا» ورائعته القصصية «لنس» عن مأساة شاعر العاطفة والاندفاع ياكوب ميخائيل رينهولد لنس (1751-1792م)، وقد بقيت كلها أعمالا ناقصة لم تتم.»
وفي الواقع يؤكد بعض النقاد هذا الرأي حول أعمال جورج بشنر باعتبارها أعمالا ناقصة، وهو الرأي الذي تبناه الدكتور عبد الغفار مكاوي في مقدمته لأعمال الكاتب، وإن كنت أميل إلى تبني موقف مغاير يرى أن جميع أعمال جورج بشنر أعمال مكتملة وتامة غير ناقصة.
موت دانتون
كتب جورج بشنر مسرحية «موت دانتون» في أربعة فصول، تحتوي في مجملها على اثنين وثلاثين مشهدا دراميا قصيرا. وقد وضع بشنر بطله الدرامي (دانتون) منذ اللحظة الأولى في موقف مأساوي يرهص بكل ما سيأتي من أحداث مفجعة؛ إذ يبدأ بحديثه عن الوحدة والحب الذي يشبهه بالقبر، حتى يصل في المشهد الأخير إلى ميدان الثورة، وقد نصبت المقصلة ليدفع الجلادون به ورفاقه لقطع رقابهم. وهنا يستدير دانتون إلى الجلاد الذي يفرقهم قائلا: «أتريد أن تكون أكثر فظاعة من الموت؟ أتستطيع أن تمنع رءوسنا لكي تقبل بعضها البعض وهي في قاع السلة؟»
3
وفي المسرحية يبدو تأثر جورج بشنر واضحا بشكسبير، خاصة في رسمه لشخصية دانتون الذي رسمه في حالة هاملتية مترددة - إلا في لحظات نادرة كهاملت أيضا - تقعده عن العمل والفعل، حتى نهايته تحت المقصلة، ويصبح بذلك في النهاية ضحية لتركيبته الهاملتية.
ليونس ولينا
هي مسرحية مكتملة - أيضا - كتبها جورج بشنر خصيصا ليشترك بها في إحدى المسابقات المسرحية، وقد كتبها في ثلاثة فصول، وتتكون في مجموعها من أحد عشر مشهدا دراميا. وتدور المسرحية حول فكرة هروب الأمير ليونس
مع خادمه؛ نظرا لأن الأمير قد أعلنت خطبته على الأميرة لينا
من مملكة أخرى لأسباب سياسية دون أن يراها من قبل. وفي الوقت نفسه تهرب لينا مع خادمتها، ويلتقي ليونس مع لينا دون أن يعرف أحدهما الآخر، ثم يتفقا على الزواج، بعدها يعود الأمير إلى مملكته ومعه الأميرة لينا، ويضطر والده الملك أن يوافق على زواجهما، وبعد إزاحة الأقنعة يكتشف الملك أنهما ابنه وعروسه التي كان قد قرر تزويجها لابنه. هنا يقرر أن يتنازل عن الحكم لولده حتى يتمكن من الانصراف إلى التفكير الفلسفي دون أن تزعجه أمور المملكة، وتنتهي المسرحية بذلك.
صفحه نامشخص
وقد كتب جورج بشنر هذه المسرحية بأسلوب مخالف عن أسلوبه السابق في موت دانتون؛ إذ إنه يوصفها بالكوميديا، ويصور شخصياتها بشكل كاريكاتوري، ويتلاعب فيها بالألفاظ. والمسرحية تذكرنا - بشكل ما - بكوميديات شكسبير وشخصيات مهرجيه،
4
حيث يتجسد «في جسد بشنر روح شكسبير»، كما يقول ب. أولينين
عن بشنر وأعماله دون أن يقصد عملا واحدا، بل كل كتاباته.
لينز
5
كتب بشنر قصة لينز عن شاعر حركة العاصفة والاندفاع
Sturm und Drang
يعقوب ميخائيل رينهولد لينز
Jakob Michael Reinhold Lenz ، وكان تركيزه الأساسي على الناحية النفسية في لينز الذي أصيب بحالة من الشيزوفرينيا، وعاش «تعيسا ثم أصبح نصف مجنون»، كما وصفه جورج بشنر في إحدى رسائله إلى أسرته. وتغوص القصة في شرح وتحليل التناقض والصراع النفسي والتمزق الداخلي في نفس البطل حتى قاده ذلك إلى الجنون، وقد نشرت القصة لأول مرة عام 1839م؛ أي بعد رحيل جورج بشنر عن العالم بعامين، كما أعدت للمسرح ومثلت لأول مرة عام 1885م، وقد أعد فولفجانج زيهم
صفحه نامشخص
Wolfgang Ziehm
القصة إلى الأوبرا باسم «يعقوب لينز»، وعرضت في هامبورج عام 1949م.
فويسك
في طبعة شتوتجارت - عام 1978م - توجد نسختان لمسرحية فويسك؛ إحداهما منقولة عن خط يد بشنر، والأخرى منقحة للقارئ العادي. وتتكون النسخة المنقولة عن خط بشنر من ثلاثة أجزاء؛ يحتوي الجزء الأول منها على سبعة عشر مشهدا قصيرا، ويبدأ هذا الجزء بمشهد الخلاء بين فويسك
Woyzeck
وأندرز
Andres ، وينتهي بمشهد المعسكر الذي يودع فيه الأول الثاني.
ويبدأ الجزء الثاني بالمشاهد من الثالث حتى السابع (وربما يشير هذا إلى ضياع أو فقدان بعض المشاهد)، كما يبدأ الجزء الثالث بمشاهد مرقمة ما بين 4 حتى 10 (بالطبع يشير هذا أيضا إلى ضياع أو فقدان بعض المشاهد)، حيث يبدأ المشهد الرابع بماريا
Marie
أمام منزلها مع الأطفال، وينتهي بمشهد فويسك أمام المستنقع وهو يرمي بالسكين في الماء بعد قتله لماريا، ونجد المشاهد المرقمة في هذا الجزء أرقام 7، 9، 10 مشطوبة بخط يد بشنر، وهذا في الواقع ما جعل الناشرين يلجئون إلى إعداد نسخة من هذه المسرحية - مسرحية فويسك فقط - للقراءة أو للتمثيل بترتيب خاص بالمشاهد - من وجهة نظرهم - مع إضافة بعضها أو حذف البعض الآخر، ومن هنا تختلف نسخ هذه المسرحية - في ترتيب مشاهدها - من ناشر إلى آخر، ومن طبعة إلى أخرى، ويتركز هذا الاختلاف في الواقع على ترتيب المشاهد، وعلى حذف بعضها أو اعتماد المشطوب منها.
صفحه نامشخص
ويرجع هذا الاختلاف في الواقع إلى اعتماد الناشرين على مسودة خطية لبشنر فقد أو ضاع بعض مشاهدها، وشطب بعض ما تبقى منها، بالإضافة إلى تغيير في بعض الكلمات والجمل بالمسرحية. ونجد نهاية المسرحية رغم كل هذا مكتملة - إلا من مشهد أو اثنين في بعض الطبعات، كما يتضح فيما بعد؛ إذ تنتهي المسرحية - في كل الطبعات - بقتل فويسك لماريا وإلقائه للسكين التي قتلها بها إلى الماء ، ثم ذهابه إلى المستنقع أو البحيرة بحثا عن السكين ليخفي أداة الجريمة، ثم اغتساله في مياه المستنقع لإخفاء بقع الدم من على يديه وملابسه، وأثناء ذلك يمر شخصان من أمام المستنقع على بعد، وقد توقفا بعد سماعهما لأصوات إنسان يموت، وهي نهاية للمسرحية تتفق وتكنيك البناء الدرامي المفتوح الذي يطرح بعضا من الأسئلة بعد المشهد الأخير، مثل: هل سيموت فويسك غرقا؟ هل سينقذه الرجلان؟! وإذا أمسكاه هل سيبلغان عنه أو يقدمانه إلى البوليس؟! إلى آخر هذه الأسئلة التي لا تغلق التفسيرات على نهاية المسرحية، وهو تكنيك يختلف عن تكنيك البناء الدرامي المغلق للأعمال الكلاسيكية للسابقين على جورج بشنر في الدراما الألمانية، مثل ليسنج وشيلر وجوته وجريل بارتسر وغيرهم.
وفي طبعة شتوتجارت - عام 1985م
6 - ينهي الناشر المسرحية بفويسك وهو يتحدث إلى مياه المستنقع، وفي الوقت نفسه يأتي شخصان تصل إلى أسماعهما من بعيد أصوات لإنسان يحتضر في ظلمة الليل، ثم يتجهان إلى مصدر الصوت، بعدها يأتي مشهد قصير للأطفال - بضعة أسطر قليلة - وهم يقررون التوجه ناحية الجثة، ثم يأتي مشهد آخر من ثلاثة أسطر، يتحدث فيه رجل البوليس عن «القتل الجميل»، وأنه لم ير منذ زمن طويل قتلا جميلا بهذا الشكل،
7
وبالطبع تنتهي المسرحية.
ولهذا ربما تبنى بعض النقاد الرأي الذي يرى أن أعمال جورج بشنر هي أعمال ناقصة، وهو الرأي الذي ربما بني على أساس اختلاف طبعات مسرحية فويسك، وحذف بعض مشاهدها، وإعادة ترتيب هذه المشاهد وفقا لوجهة نظر الناشر.
إنك تجد - مثلا - أن المشهدين الأخيرين - مشهد الأطفال ومشهد رجل البوليس - ليسا في نص فويسك المترجم في هذه النسخة من الكتاب؛ إذ اعتمد د. عبد الغفار مكاوي في ترجمته من الألمانية على النص الذي حققه ونشره فرتز برجمان عام 1958م، وتتفق نهاية مسرحية فويسك بالكتاب مع النص الألماني للمسرحية في طبعة الكلاسيكيين الكبار التي طبعت بسالزبورج عام 1980م،
8
وهو ما جعل النقاد يختلفون حول بعض طبعات هذه المسرحية، وحول تحليلاتهم لمسرحية لعبت دورا كبيرا في تاريخ الدراما الحديثة، خاصة الدراما الألمانية، وقد وصفها فريدريش دورينمات
Friedrich Duerrenmatt
صفحه نامشخص
بأنها «أكثر المسرحيات التي سحرتني».
تقديم جورج بشنر
1813-1837م
كاتب ثائر وطبيب، عبر عن صرخة الخليقة المعذبة من عبث الوجود وفنائه، هذه الصرخة التي لا نزال نسمع صداها في الأدب العالمي حتى اليوم.
ولد في دارمشتات (مقاطعة هسن في ألمانيا)، كان أبوه طبيبا ريفيا عمل فترة في حرس نابليون، فتعلم كيف يقدر كل ما هو فرنسي، وكانت أمه التقية تجل الشاعر الكبير شيلر فوق كل شيء. التحق بالمدرسة الثانوية في دارمشتات، وعرف بميله إلى الفيزياء والرياضة، كما درس الطب في شتراسبورج، وأفعم قلبه بالثورة والحرية والتمرد على الطغيان في بلاده، وتعرف على خطيبته مينايجله التي كتب إليها رسائل من أجمل ما عرف الأدب الألماني. أكمل دراسة الطب في مدينة جيسن (1833م) التي أقام فيها في ظل حكم بوليسي متعنت، جعله يعاني أول أزمات حياته، ويشارك مشاركة إيجابية في الثورة، فيؤلف بيانا يحرض فيه الفلاحين على الثورة على مستغليهم سماه «رسول هسن» (1834م).
إنه يعود في أوائل عام 1834م إلى جيسن ليواصل دراسة الطب، بعد أن أمضى في بيت أبويه في دارمشتات فترة استشفاء من التهاب في المخ أصابه نتيجة أزمات نفسية متكررة. كانت الظروف السياسية في بلده لا تحتمل، وقد كتب قبل عودته إلى جيسن وهو على فراش مرضه إلى صديقه أوجست شتوبر يقول: «إن الظروف السياسية تكاد تصيبني بالجنون، إن الشعب المسكين يجر في صبر العربة التي يمثل عليها الأمراء وأدعياء التحرر ملهاتهم.» كانت الأسابيع القليلة التي قضاها في بيت أبويه كافية ليعرف عن كثب جبروت الدولة البوليسية الحاكمة، ولم يكن من الممكن بعد ذلك أن يبتعد بنفسه عن مجرى الأحداث، ولا لعاطفته الجياشة المتطلعة إلى الحرية والعدل أن تقنع بمجلدات الطب والفلسفة والتاريخ التي كان يغرق نفسه فيها ليل نهار.
كانت البلاد الألمانية الممزقة ما تزال تئن تحت حكم أمراء يتمسكون بحقهم الإلهي المطلق ، وكانت الوحدة الألمانية التي تمت بعد هزيمة نابليون وحدة فاسدة، استطاعت حقا أن تمنع الحروب بين الدويلات المتحدة، ولكنها لم تستطع أن توطد دعائم السلام. وكان الشباب يتوقون إلى الحرية في الداخل والخارج، وشعارات الثورة الفرنسية لا تزال تصرخ في آذانهم، وشوقهم إلى الحقوق المدنية وإنصاف الطبقات المظلومة يؤرق نومهم. كان دستور إمارة هسن الكبرى - موطن بشنر - الذي صدر في عام 1820م مجرد حبر على ورق. لقد أوجد بالفعل مجلسا نيابيا، ولكن حق الترشيح لعضوية هذا المجلس ظل مقصورا على ألف شخص فحسب من بين 70 ألفا من رعايا الإمارة! وكانت أغلبية هؤلاء الألف من كبار الموظفين، والقادرين على دفع مائة «جولد» من الذهب على الأقل ضرائب كل عام. وهكذا كان من حقهم أن يفرضوا الضرائب، ولكن لم يكن ينتظر منهم أن يعفو الشعب منها. ونشبت ثورة الفلاحين في «سودل» من مقاطعة هسن العليا، ولكنها سرعان ما أخمدت بقوة السلاح، وتركت وراءها المرارة التي لا حد لها في نفوس الشعب. وسوف يشير بشنر إلى هذه الحادثة في بيانه الثوري فيما بعد حيث يقول: «إن الجنود يخرسون بطبولهم تنهداتكم، وببنادقهم يمزقون رءوسكم، حين تجسرون على التفكير في أنكم بشر أحرار. إنهم السفاحون الشرعيون، الذين يحمون اللصوص الشرعيين. تذكروا سودل! إن إخوتكم وأبناءكم قد قتلوا هناك آباءهم وإخوتهم.»
1
كانت السنوات التي امتدت من 1815م إلى 1830م في ألمانيا في تلك الفترة التي تلت الحرب المريرة على نابليون سنوات جوع وحرمان وقهر لجموع الفلاحين والعمال اليدويين، وكانوا يقفون في جانب، مثقلين بالضرائب، مهددين بالعبودية والجوع، بينما يقف الموظفون الأذلاء ورجال البلاط والعسكريون في جانب آخر، وكانت أخبار الظلم الذي يزداد عليهم يوما بعد يوم تصل إلى بشنر وهو يدرس في شتراسبورج، ثم وهو يواصل دراسته في جيسن. ولم يكن من الممكن في نطاق المدينة الجامعية الصغيرة، وعيون الجواسيس تحيط بالطلبة من كل جانب، أن يخفي سخطه على الأوضاع الظالمة في بلاده، وتطلعه إلى العدالة واحترام الإنسان في ظل نظام جمهوري حر.
وبدأت شرارات الثورة تتجمع، ثورة صغيرة بغير شك قوامها الطلبة والمتعلمون وبعض أساتذة المدارس والجامعات، تقلق رجال البوليس أكثر مما تحرك مشاعر الشعب الذي كان لا يكاد يعرف عنها شيئا. وكان بشنر يشارك في تمرد المثقفين دون أن يخفي سخطه عليهم وارتيابه فيهم؛ ذلك أنه لم يؤمن بثورة تأتي من أعلى، وتردد شعارات الحرية والمساواة، بينما الشعب محروم من حقوقه الأولية، رازح تحت نير الجوع والظلم والوحشية، وكان لا بد في رأيه أن يرفع الحرمان المادي والظلم الاجتماعي عن الشعب قبل التفكير في حقوقه السياسية، وها هو ذا يعبر عن ذلك في بيانه الثوري فيقول: «إن الضغط المادي الذي ينوء به جزء كبير من الشعب الألماني يبعث على السخط والحزن، مثله مثل الضغط الروحي، وليس من المؤلم في نظري ألا يسمح لهذا المثقف أو ذلك بالتعبير عن أفكاره بقدر ما يؤلم حقا أن نجد آلاف الأسر لا تملك أن تسوي بطاطسها.» لقد كان كل همه أن يجد الإنسان يحترم في وطن يحرره من الظلم والجوع والهوان.
صفحه نامشخص
كان يعيش بقلبه مع الجائعين من العمال والفلاحين، وينظر نظرة الشك والحذر إلى مناقشات الأساتذة والمثقفين، وكانت أهم وسيلة لديه للوصول إلى هؤلاء الفلاحين هي طبع المنشورات وتوزيعها عليهم.
ويكتب بيانه الثوري «رسول هسن» في مارس من عام 1834م، ويساعده أستاذ اللاهوت «فيدج» على طبعه في مطبعته السرية وتوزيعه بمعرفة أصدقائه، وإن كان قد عدل فيه كثيرا ليخفف من لهجته الحادة ضد الأغنياء والمترفين! وألف في الشهر نفسه جمعية سرية سماها «جمعية الحقوق الإنسانية»، مهمتها تنوير جماهير الشعب ورفع الحرمان المادي عنهم، ولكن أنصار الملكية وجماعات الطلبة ابتعدت عنها، بل كادت تقاطعها حين طلب بشنر أن يسمح لغير الجامعيين بالانضمام إليها، ولكنه أصر على طلبه، ودخل في جمعيته السرية الخباز والترزي وصبي الجزار إلى جانب الطالب والأستاذ الجامعي، وفي نفس العام ألف في مسقط رأسه «دارمشتات» فرعا آخر لهذه الجماعة من المتمردين كانوا يجتمعون سرا؛ ليتدارسوا شئونهم، وينظموا دعايتهم بين الفلاحين، ويتمرنوا على استخدام الأسلحة تمهيدا للثورة الشعبية الشاملة. ووزع منشور بشنر الثوري بعد أسابيع طويلة من العمل فيه، فما أكثر المتحذلقين الذين راحوا يعدلون في أسلوبه ويخففون من لهجته! وراح أعضاء الجماعة السرية يوزعونه في حذر على الفلاحين، ويلقونه تحت أبواب البيوت. واعتبرت السلطات حيازة المنشور خيانة عظمى، حتى بلغ الأمر بكل من وجد منشورا تحت بابه أن يسلمه في فزع إلى رجال البوليس؛ خوفا من التشريد والتعذيب والحبس الانفرادي. ويقبض على أحد أصدقاء بشنر (منيجوروده) ومعه عدد كبير من نسخ البيان الثوري الرائع، ويسرع بشنر في شجاعة نادرة بالسفر إلى فرانكفورت وأوفنباخ ليحذر زملاءه. وتفتش غرفته في غيابه، فلا يجد البوليس شيئا يذكر، اللهم إلا مجموعة من رسائل خطيبته إليه كتبتها بالفرنسية، فأخذوها معهم من باب الاحتياط! وينتهي الفصل الدراسي الصيفي فيعود إلى بيت أبويه، اللذين ينصحهما الناس بإبقاء المتمرد الشاب تحت رقابتهما في فصل الشتاء أيضا.
هكذا ضاع صدى البيان قبل أن يعلن صوته، وتحطم السيف الناري قبل أن يثبت وجوده. لقد كان الضمير الاجتماعي في ذلك العهد ما يزال يغط في نومه، فبقي هذا الاحتجاج النبيل صرخة في الفضاء! وكان لدى الفلاحين من الصبر على الجوع أكثر مما كان يتوقع، فلم يكن من المستطاع أن يعوا لغته المدعمة بالإحصاءات، وإن فهموها فلم يكن من المستطاع أن يستجيبوا لها بالسرعة التي خيلها له حماس الشباب.
ها هو ذا يقول لهم: «اذهبوا يوما إلى «دارمشتات»، وانظروا كيف ينعم السادة هناك بأموالكم، ثم احكوا لأطفالكم ونسائكم الجياع كيف يوزع خبزهم على بطون الأجانب. احكوا لهم عن الثياب الجميلة التي صبغوها بعرقهم، والأشرطة المزخرفة التي فصلوها بشقوق أيديهم المتعبة. احكوا لهم عن القصور الرائعة التي بنيت من عظام الشعب، ثم انزووا في أكواخكم المدخنة، وأحنوا ظهوركم في حقولكم الجرداء ليستطيع أطفالكم ذات يوم أن يذهبوا إلى هناك، حيث يجتمع ولي عهد مع ولية عهد لينجبا ولي عهد آخر، وينظروا من وراء النوافذ ليروا ما يأكله السادة، ويشموا رائحة المصابيح التي يشعلونها بلحم الفلاحين.» كلمات واضحة ما كان يمكن أن تلتبس في ذهن الفلاحين لو كتب لها أن تصل إليهم: «ستة ملايين «جولد» تدفعونها في الإمارة لحفنة من الناس وضعت حياتكم وأملاككم تحت رحمتهم، مثلكم مثل غيركم في بقية أجزاء ألمانيا الممزقة؛ لستم شيئا ولا تملكون شيئا، حقوقكم سلبت منكم. إن عليكم أن تعطوا ما يطلبه منكم مستغلوكم الذين لا يشبعون، وأن تحملوا ما يلقونه على أكتافكم. افتحوا أعينكم وعدوا حفنة المستغلين الذين لا يستمدون قوتهم إلا من الدم الذي يمتصونه من عروقكم، والأذرع التي تعيرونها لهم وأنتم مسلوبو الإرادة.»
وهكذا ضاعت دعوة «السلام للأكواخ، والحرب على القصور»، وصودر البيان قبل أن يصل إلى الأيدي وقمعت الحركة الثورية، واستيقظت روح الفنان في نفس بشنر الذي فر إلى بيت أبويه في شتاء 1834 / 1835م؛ هربا من القبض عليه، حيث كتب هناك في شهري يناير وفبراير مسرحيته الوحيدة التي أتمها قبل موته، وهي «موت دانتون»، وقد أثبت الباحثون أن خمسها على الأقل منقول بنصه من تواريخ الثورة الفرنسية «تييرومنييه»، وما كان قصده أن يمجد هذه الثورة، بل أن يعبر عن فزعه من جبرية التاريخ وعدمية الوجود وتمزق البطل، ثم هرب في فبراير سنة 1835م إلى شتراسبورج، قبل صدور الأمر بالقبض عليه بقليل، ويواصل دراسة الطب هناك، وحصل على شهادة الدكتوراه برسالة «عن الجهاز العظمي للأسماك»، ويتابع الكتابة كالمحموم؛ فيؤلف مسرحيته الشعبية «فويسك»، وملهاته الباكية «ليونس ولينا»، ورائعته القصصية «لنس» عن مأساة شاعر حركة العاصفة والاندفاع ياكوب ميخائيل رينهولد لنس (1751-1792م)، وقد بقيت كلها أعمالا ناقصة لم تتم. •••
يعد بشنر المناهض الأول لمثالية الشاعر الكبير شيلر. إن صورة البطل المنتصر الذي يصارع عالم المادة من أجل تمجيد الفكرة المثالية لا أثر لها عنده؛ فأبطاله يعانون مأساتهم، وينحدرون إلى هوة من العدم، تحركهم كالدمى الذبيحة أو كخيالات الظل يد خفية باطشة، ويسحقهم قدر قاس مجهول. و«موت دانتون» تتألف من مشاهد مسرحية تأثر فيها بشنر بفن شكسبير، وجعل موضوعها رجل الثورة الفرنسية المشهور دانتون، بطل حوادث القتل المشهورة في سبتمبر 1792م الذي ساقه زميله روبسبيير إلى المقصلة في 5 أبريل عام 1794م، وتدور أحداثها في يومين اثنين معبرة عن احتقار دانتون لرعب الثورة التي جاءت لتحقق الحرية والمساواة، فإذا بها تخضب يديها في بحر من الدماء. إن دانتون بطل الثورة لم يعد بطلا. إنه ينظر بغير اكتراث إلى روبسبيير وهو يدفع به إلى المقصلة، ويشمئز من مشهد الدماء المسفوكة والرءوس المتساقطة، ويسأل: «ما هذا الذي يكذب فينا، ويفجر، ويسرق، ويقتل؟!» لقد صار هاملت جديدا يخنق فكره إرادته: «ما نحن إلا دمى، تشد خيوطها قوى مجهولة، ما نحن إلا عدم. لسنا نحن أنفسنا، بل السيوف التي تتصارع بها الأشباح، لكن المرء لا يستطيع أن يرى الأيدي التي تحركها، كما في حكايات الأطفال». إنه لم يعد يعرف ما يريد، أو هو بالأحرى لم يعد يريد شيئا، اللهم إلا الراحة الحقيقية في القبر: «جولي، أحبك كالقبر، صدرك رمسي وقلبك تابوتي.» إن الثورة عنده هي فوضى الجماهير، وأبطالها هم السفاحون، ويمر الزمن فتصبح الخدعة تاريخا. والمسرحية كلها تعبر عن مأساة الثورة، كما تعبر عن خيبة أمل شاب حساس بعد إخفاق ثورته وثورة أمثاله في تحطيم الطغيان الإقطاعي المستبد في بلده.
وأما قصته «لنس» فتشبه أن تكون دراسة سيكلوجية للعبقري المجنون، الذي أصبحت نفسه مسرحا تصطرع عليه قوى النور والظلام، وتهوي على الدوام في فراغ موحش يحيط بها من كل جانب، وملل قاتل يسلبها كل معنى للحياة، وعالم يضطرب لا تميز فيه الحلم من الحقيقة. كان يقف الآن على حافة الهاوية، تدفعه لذة مجنونة إلى إعادة التطلع إليها مرة بعد مرة، ومعاناة هذا العذاب من جديد. إن العالم يضيق الخناق عليه حتى يكاد أن يختنق ويصرخ كالطفل المريض يريد أن يدفع بيديه جدران الأرض والسماء التي تكاد تسحقه، ويبعد عنه أشباح القلق التي تكتم أنفاسه.
ومقياس الصدق الفني عند «بشنر» ليس هو الفكرة المثالية المجردة، بل العاطفة والشعور. و«لنس» يعبر عن رأي بشنر الأدبي خير تعبير: «إنني أطلب من كل شيء الحياة وإمكانية الوجود، عندئذ أرضى عنها، ليس لنا أن نسأل بعد ذلك إن كان جميلا أو قبيحا. إن الشعور هو المقياس الوحيد في مسائل الفن، غير أن هذا الشعور بالحياة يقابلنا نادرا. إننا نجده عند شكسبير، ونسمعه يتردد في الأغاني الشعبية، كما نلمسه في بعض الأحيان عند جوته. وكل ما عدا ذلك نستطيع أن نلقي به في النار. إن هؤلاء الناس يعجزون عن تصوير حظيرة كلاب. أرادوا أن يصوروا شخصيات مثالية، ولكن كل ما أراه منها أمامي ليس إلا دمى خشبية. هذه المثالية هي أخس احتقار للطبيعة الإنسانية.» إن بشنر يطالب الفنان بأن يغوص في كيان كل موجود، أن يترك الشخصية تخرج بنفسها إلى الحياة، فلا يحاول أن يحشرها في قالب أو ينسخها على صورة نموذج محدد من قبل، لا يختلج فيه نبض، ولا يتردد نفس. و«ليونس ولينا» هي ملهاته الوحيدة التي يغلفها جو صاف من المرح الحزين والسخرية المريرة. إنها تعبر عن انتصار الحب على الملل القاتل والخوف المتسلط من الموت والفناء.
وقد كتبت «ليونس ولينا» على أثر مسابقة أعلن عنها الناشر «كوتا» في الثالث من شهر فبراير عام 1836م ل «أفضل ملهاة ألمانية»، وحدد لها موعدا ينتهي في اليوم الأول من شهر يوليو من نفسه العام. كان نجاح مسرحيته «موت دانتون» قد منحه الشجاعة، كما أعانته ترجماته لبعض مسرحيات فيكتور هيجو (لوكرتسيا - بورجا - وماريا تودور) على فهم الكثير من أسرار المسرح، أجمل الفنون وأصعبها جميعا. وانتهى من كتابة ملهاته في أسابيع قليلة من فصل الربيع، غير أنه تأخر في إرسالها إلى الناشر، فوصلت بعد انتهاء موعد المسابقة بيومين، وأعيدت له المخطوطة دون أن تفتح!
كتب بشنر ملهاته وفي خياله نموذج للملهاة الرومانتيكية، هو مسرحية «فون برنتانو» «ليونس دي ليون»، التي كان قد اشترك بها في نفس المسابقة منذ سنوات عديدة، وسقطت في المسابقة. ومن يدري؟ لعله لم يكن أيضا يتوقع النجاح بقدر ما كان يريد أن يتحدى القدر!
صفحه نامشخص
والقراءة الأولى للمسرحية توحي بأنها مسرحية رومانتيكية، تسيطر على فن الملهاة كما فهمه هؤلاء الرومانتيكيون وعبروا عنه بروحهم الشاعرية الحالمة. والواقع أن بشنر قد كتب المسرحية تحت تأثير قراءاته للرومانتيكيين الألمان من أمثال برنتانو وتيك وهوفمان وكاميسو، والفرنسيين مثل فيكتور هيجو وألفريد دوموسيه، ولكن الواقع أيضا أنه أراد أن يتحرر من أحزانهم وأشواقهم، ويكشف الرومانتيكي في نفسه لكي يتخلص منه، ويتجاوز عالمهم بالسخرية منه وبالتحدي له. هي مسرحية حالمة، ولكنه الحلم الذي يفتش عن المعرفة، وهي حلم شفاف، ولكنه لا ينسينا مرارة الواقع المفزع أبدا. إنها من طراز مسرحيات الحلم؛ من حلم ليلة صيف لشكسبير إلى لعبة الحلم أو إلى دمشق لسترند برج، ومع ذلك فليس فيها مكان للمثاليين ولا للعاطفيين!
الحياة ملهاة، ولكن هذه المعرفة لا تأتيه إلا من معرفته بفناء الحياة وزوالها، وإذا كان الإنسان يشترك في تمثيل هذه الملهاة فليس ذلك لأنه يسعده أن يشترك فيها، بل لأن قدرا قاسيا قد كتب عليه ذلك؛ فعنصر الكوميديا ينمو من الجذور التراجيدية، بل إن العنصر التراجيدي يصبح عن طريق العنصر الكوميدي سخرية مرة شاملة، وهذا ينطبق على الأمير «ليونس» الذي يشف شفافية النور، ولكنه يكاد يقتل نفسه من طول التأمل في نفسه، مثله في ذلك مثل دانتون؛ البطل الذي شل تفكيره قدرته على الفعل.
إن ليونس أبيقوري من نوع عجيب؛ فهو يتلذذ بتعذيب نفسه، ويستقطر الألم الكوني قطرة قطرة، ويجد متعته في حب يموت كطفل رقيق شاحب مسجى في تابوت، قبل أن يجدها في نعمة الحب الذي ينمو ويتفتح ويزدهر. إنه يعشق نفسه، أو بعبارة أصح يعشق أن يمتص الدم من جراحه؛ أن يرى عواطفه تذبل وتتحلل، أن يجد نفسه يترنح كالراقص على الحبل بين الحلم والواقع، والوهم والحقيقة، واللعب والجد. إن كل همه أن يوقف اللحظة الراهنة ليستمتع بها إلى آخر قطرة، ولكن اللحظة تمر، وتزيده إحساسا بلوعة وعذاب المصير، فيتأملها وكأنه يقول لها على لسان فاوست: تريثي قليلا فما أجملك!
هذا الإحساس بالحياة يظل يتأرجح بين متعة الخيال التي لا حد لها، وبين خيبة الأمل التي يسببها السأم. والحياة تواصل عبثها، يشدها الإحساس الرومانتيكي الذي يموت من ناحية، وتجذبها حقيقة الواقع الذي يتجرد من سحره من ناحية أخرى.
إن الشخصيات لا تجد الفعل الذي تغوص في لجته؛ ولذلك فهي مهددة في كل لحظة بالسقوط في هوة الفراغ. إنها، على حد قول فاليريو، كصفحة بيضاء كتب عليها في كل لحظة أن تملأها بالكتابة. وتكاد الذات أن تتفرق وتتلاشى، لولا أن النظرة الساخرة المبتعدة تجدد سخريتها من هذه الذات في لحظات الملل وتجدد أيضا متعتها بعذابها، ولولا نعمة الأسطورة التي تحقق الحلم في النهاية، وتخلص الإنسان بالحب والسعادة من خوفه من الملل والعدم.
وقصة هذه المسرحية بسيطة؛ فالأمير ليونس من مملكة بوبو قد أعلنت خطبته لأسباب سياسية على الأميرة «لينا» من مملكة «بيبي»، ولكن الأميرين لم يسبق لهما أن تلاقيا وجها لوجه، وليس في إمكانهما أن يشعرا بالحب نحو بعضهما البعض؛ ولذلك يلجآن إلى الفرار من هذا الزواج الرسمي، فيهرب ليونس في صحبة خادمه فاليريو (وما أشبهه بشخصية مضحك الملك)، وتهرب لينا في صحبة مربيها، ولكن القدر يشاء أن يلتقي العروسان دون أن يعرف أحدهما الآخر، وأن يتحابا ويتفقا على الزواج. وكأن بشنر يريد بهذا أن يصور قدرية التاريخ على خشبة المسرح، وأن يمسك بيديه تلك الخيوط التي تحركنا بها قوة مجهولة، وكأننا دمى مسكينة في يديها. ويعود الأمير ليونس إلى مملكته بعد أن صمم على الزواج من حبيبته المجهولة، ويقدمهما فاليريو إلى البلاط كما يقدم «آلات حية»؛ المقدور إذن قد حدث. ويضطر الملك الذي لا يريد أن يؤجل احتفالات الزواج حتى لا يشغله كذلك عن تأملاته الفلسفية إلى الموافقة على عقد زواج العروسين المقنعين، ثم لا يلبث أن يكتشف أنهما هما ولده وعروسه، وتنتهي الرواية نهاية سعيدة، فيخلف ليونس أباه على العرش، وترفرف السعادة والحكمة على المملكة التي لا يعيبها سوى أن اسمها هو بوبو!
2
ويلاحظ القارئ أن بشنر يسجل بهذه المسرحية، في إطار ساخر، زهده في السياسة، وخيبة أمله في الثورة على الاستبداد. إنه هنا يكرر ما قاله في بيانه الثوري الفريد، وإن لم يقله بنفس اللهجة الجادة التي كادت تودي بحياته.
أما عن مسرحية فويسك فإن بطلها «السلبي» يعد أول شخصية كادحة تحتل مكان الصدارة في زمنها في مسرحية عالمية، وقد استمد بشنر موضوعها من حكاية واقعية جرت حوادثها لجندي بسيط قتل زوجته لخيانتها له، وتسود المسرحية كلها روح الانهيار الكوني الشامل والفزع من ظلام العدم والقلق أمام المجهول.
إن البطل هنا، مثله مثل دانتون، لا يقاوم ولا يتقدم إلى الأمام، بل يحني رأسه للقدر المعتم، لا عن ضعف، بل عن بصيرة بعبث كل فعل وانتصار. ولما لم يكن هناك فعل، فليس ثمة رد فعل له، ولا مسرحية بالمعنى التقليدي لهذه الكلمة. إن الفصل ينحل إلى مشاهد منفصلة، ومحاورات ذاتية (مونولوج)، ولحظات خاطفة، وليس ثمة خط يرتفع بالحدث أو يهبط به إلى نهايته، بل لوحات وصور مفككة، ورعشات لا يجمعها غير التوتر المتصل؛ ولهذا يرى النقاد أنها تمثل خطوة هامة على طريق المسرح الملحمي الحديث.
صفحه نامشخص