وكانت الابتسامة لا تزال متعلقة بشفتيها الجميلتين المفترتين عن در نضيد، وخصلات شعرها مبعثرة على الجبين والخدين كلما هب النسيم حملها من حسن إلى حسن، فنسي الوجود، وما عاد يرى الأشجار والأزهار ولا يحس بهبات النسيم ولا يشعر بهمومه وتأنيب ضميره، وما عاد يذكر من هو، ولا من هي، واستقر وجدانه في هالة من النور تشع من وجهها الجميل، فأنعم فيها نظرا وهياما.
ولم تقو على نظراته فأسبلت جفونها وتدفق الدم إلى خديها كأن تلك الكلمة الساحرة التي أفلتت من لسانه عن غير قصد أروتها فأنبتت هاتين الوردتين، فلج بها الهيام، واستثاره ما تدل عليه هيئتها من الاستسلام، فمال بهامته حتى مس جبينه خصلة من شعرها وأسكره أريج أنفاسها .. وتردد لحظة .. ثم لثم فاها .. وعلى حين فجأة انتفضت الصبية في جلستها كمن يستيقظ على ضربة في أم رأسه، وقد اتسعت عيناها، وصرخت فيهما الدهشة والذعر، ثم انتصبت واقفة وفرت هاربة.
رباه .. ما الذي أفزعها .. ولماذا فرت على تلك الحال؟ وما عسى أن تفعل بعد ذلك؟
وامتلأ قلبه رعبا، فقام من فوره واندفع جاريا في اضطراب شديد إلى باب القصر، ثم ترك قدميه للريح، لا يلوي على شيء حتى انتهى إلى حجرته.
هل يمكن أن تشكوه سوسن إلى أبيها؟ كم كان أعمى مجنونا! كيف آتته الجرأة! يا ويحه فقد خدع فظن عطفها محبة وعبثه ودا، وإذا فضحته عند أبيها فماذا يكون مصيره؟ بل ماذا يكون مصير والده نفسه؟ ولكن رجع أبوه إلى البيت كعادته، ومرت أيام دون أن يوجه إليه أي تهمة أو يتعرض للفصل من عمله، فهدأت نفس يوسف، وعاودته العواطف التي غاصت في قلبه لحظات خوفا وذعرا، ونازعه الشوق إلى الوجه الجميل وصاحبته، ورأى أن ما يمكن أن يصيبه من ذهابه لن يعدل ما هو فيه من ألم الشوق مهما ساء وغلا. فحمل نفسه إلى القصر بعد احتجابه تلك الأيام وانتظر ونفسه حيرى، وجاءته الصبية تسعى، ولما وقع نظرها عليه بدا على مخايلها الغضب فتقدمت منه خطوات، ووقفت متحدية، فأغضى أمام نظراتها خجلا وألما، وانتظر في يأس الكلمة القاضية، واشتد عليه الحال، فقال بصوت تمزقه نبرات الألم: كانت غلطة شنيعة .. هل أنت غاضبة؟
فأجابته بلهجة حادة: «طبعا .. ماذا كنت تنتظر؟» - اعفي عني. - لن أعفو.
وهنا رفع رأسه بحركة سريعة، وقد تبدل وجهه من حال إلى حال، لأنه خيل إليه أنها فاهت بالعبارة الأخيرة بلهجة رقيقة وهي تغالب ضحكة، فلما وقع عليها وجدها تبسم إليه بثغر فتان غفور رحيم!
وهم أن يتقدم منها خطوة؛ ففرت منه هاربة!
كانت تلك الأيام أسعد أيام حياته على الإطلاق، لا يذكر أنه سعد سعادتها من قبل ولا من بعد رغم تنوع الظروف واطراد التجارب، وبعد تلك القبلة وذاك الرضا لم تعد تقابله في علانية وسذاجة، بل اقتصر التبادل الروحي بينهما على النظرات والهمسات أو اللقاء المختلس تحت الخمائل أو خلف جماعات الشجر، وستر عليهما تعارفهما ترامي أطراف الحديقة وعدم إمكان تسرب الشك إلى قلب من يراهما معا، فعاشا زمنا سعيدا في غفلة من الناس والدهر حتى وقع ما قضى عليه بالخروج من جنته مقهورا مغلوبا على أمره: كانا جالسين على الأريكة التي قبلها عليها لأول مرة، وقد انساق الحديث إلى المستقبل، قال يوسف: هل يمكن أن تنسيني فيما يقبل من الأيام؟
فنظرت إليه نظرة إنكار، وقالت: أنا؟! .. مستحيل! - ولكني أخشى أن يبدد أهلك أحلامنا .. فتنهار آمالي وأفقد سعادتي.
صفحه نامشخص