فظل الشاب ينظر إليه صامتا، فقال الزوج بلهجة جدية: ما لك؟! ألم تحظ بوصال هذه المرأة؟ فلم لا تدفع الثمن؟ هل تظن أن الوصال هنا بلا ثمن؟ - سيدي ... - يا لك من عاشق بخيل! ألا تريد أن تجود بشيء؟ بكم تثمن هذه المرأة؟ هه؟ إنها تستاهل ريالا فما رأيك؟
ولما يئس من الشاب؛ فتش جيوبه بنفسه حتى عثر على حافظة نقوده، واستخرج منها ريالا، ثم ردها إليه، وهو يقول: «تفضل الآن؛ فاذهب إلى حيث تشاء.»
وانفلت الشاب خارجا لا يصدق أنه فاز بالنجاة، والتفت الزوج إلى زوجه، فقال لها: «ارتدي ثيابك يا سيدتي واطردي عنك الرعب؛ فلا خوف عليك، ولا أنت تحزنين.» •••
كيف استطاع أن يسيطر على عواطفه؟ كيف أمكن أن تطيعه أعصابه تلك الطاعة العمياء؟ هذا سر من أسرار الطبيعة يعجز عن إيضاحه البيان، وعلى كل حال فقد انقضى ذلك اليوم كما ينقضي الكابوس الأليم. ولم يشر إليه - بعد انقضائه بتلميح أو تصريح - ولا ذكره بخير أو شر، ولا أجرى بسببه تحقيقا ولا أثار عنه سؤالا، وطالعها بوجه هادئ طبيعي كأنه شخص آخر غير الزوج المطعون، ولم ينقطع عن عمله أو يغير من عاداته ولا كف عن أحاديثه أو فتر عن مداعباته. وكان يذهب ويعود ويعمل ويستريح ويأكل ويشرب وينام ويقوم وكأنه زوج سعيد يعاشر زوجه الحبيبة، أو رب بيت مطمئن يسهر على بيته وأسرته دون أن ينغص حياته منغص أو يكدر صفوها مكدر.
وكانت المرأة في أول عهدها بالفضيحة كالمجنونة من شدة ما يعذب نفسها من الخوف والرعب والعذاب، وقد توسلت إليه ضارعة وهي تبكي أن يطلقها ويستر عليها، ولكنه قال وكأنما فقد ذاكرته: «أطلقك! لمه؟ أمجنونة أنت يا عزيزتي؟» وأسقط في يدها، ولبثت حائرة مذعورة معذبة تخشاه وتتوجس منه خيفة، ويغلق عليها أمره، فلا هو يطلقها، ولا هو ينتقم منها، والأعجب من هذا جميعه سلوكه نحو عاشقها في ذلك اليوم الأسود.
ومضت الأيام طويلة ثقيلة؛ فلم تتحقق مخاوفها، ولم تصدق هواجسها، وأخذت تخف عليها وطأة الخوف وتتناسى همومها فيما تقوم به من الواجبات البيتية، ووجدت نفسها - وهي لا تدري - تتفانى في خدمته والسهر على بيته وتوفير الراحة له بحماسة الخاطئ الذي يعالج جرح ضميره بالتفكير والتعذيب، على أنها لم تطمئن إلى دعته كل الاطمئنان، وكانت تسأل نفسها حيرى: ترى هل نسي وغفر؟ أم هو يتناسى ويتعزى، أو ما الذي تنطوي عليه حياته المبهمة وابتسامته الغامضة من النيات؟
ولبثا على حالهما والأيام تحث السير، وكل منهما متظاهر بالألفة والاطمئنان ويجتر أفكاره فيما بينه وبين نفسه، حتى كان يوم دعا فيه الزوج جميع أهله وأهل زوجه إلى مأدبة غداء، وبذل لإعدادها فوق ما تحتمل قدرته حبا وكرامة. وأم بيته ذلك اليوم جميع أفراد الأسرتين نساء ورجالا، فتيات وفتيانا وعلى رأسهم حماه وحماته، فضاق البيت بالمدعوين وضج جوه بأحاديثهم وضحكاتهم، وازداد سعادة بما شملهم من ود عائلي جميل .. وتشعب الحديث شعبا مختلفة، فطرق موضوعات السمنة والنحافة والزواج والعزوبة وبنات الأمس وبنات اليوم، ومن السياسة حينا والدرجات والعلاوات والأطفال أحيانا كثيرة .. وشارك المهندس في الأحاديث بشهية عظيمة، وكان بادي المسرة والبهجة عظيم الإقبال على مجاملة ضيوفه والترحيب بهم.
وقد توقف عن الكلام بغتة؛ كأنما تذكر أمرا مهما، ثم دس يده في جيبه فأخرج ريالا، جعل يقلبه في يده ثم أعطاه حماه وهو يقول: انظر إلى هذا الريال يا عماه .. أتراه مزيفا؟
فأخذه الرجل، وجعل يقلبه بين يديه، وقد اتجهت إليه الأنظار من كل صوب، ثم قال: كلا يا بني، إنه صحيح لا شك فيه .. هل رفضه أحد؟
واختلس الزوج نظرة إلى زوجه فرأى وجهها مصفرا يحاكي وجوه الموتى، فابتسم ابتسامة وقال: لم يرفضه أحد يا سيدي، ولكني أردت أن أطمئن عليه؛ لأنه محور قصة عجيبة قد يروقكم جميعا سماعها.
صفحه نامشخص