ثم نرجع إلى السبب الذي لأجله منعنا المتأهب لتجلي الحق إلى قلبه من النظر في صحة العقائد من جهة علم | | الكلام ، فمن ذلك أن العوام بلا خلاف من كل متشرع صحيح العقل عقائدهم سليمة وأنهم مسلمون ، مع أنهم لم يطالعوا | شيئا من علم الكلام ولا عرفوا مذاهب الخصوم ، بل أبقاهم الله تعالى على صحة الفطرة وهو العلم بوجود الله تعالى بتلقين | الوالد المتشرع أو المربي ، وأنهم من معرفة الحق سبحانه وتنزيهه على حكم المعرفة ، والتنزيه الوارد في ظاهر القرآن | المبين ، وهم فيه بحمد الله على صحة وصواب ما لم يتطرق أحد منهم إلى التأويل ، فإن تطرق أحد منهم إلى التأويل خرج | عن حكم العامة والتحق بصنف ما من أصناف أهل النظر والتأويل . وهو على حسب تأويله وعليه يلقى الله تعالى ، فإما | مصيب وإما مخطئ بالنظر إلى ما يناقض ظاهر ما جاء به الشرع ، فالعامة بحمد الله سليمة عقائدهم لأنهم تلقوها كما | ذكرناه من ظاهر الكتاب العزيز التلقي الذي يجب القطع به ، وذلك أن التواتر من الطرق الموصلة إلى العلم ، وليس | الغرض من العلم إلا القطع على المعلوم أنه على حد ما علمناه من غير ريب ولا شك ، والقرآن العزيز قد ثبت عندنا | بالتواتر أنه جاء به شخص ادعى أنه رسول من عند الله تعالى ، وأنه جاء بما يدل على صدقه وهو هذا القرآن ، وأنه ما | استطاع أحد على معارضته أصلا ، فقد صح عندنا بالتواتر أنه رسول الله إلينا ، وأنه جاء بهذا القرآن الذي بين أيدينا اليوم | وأخبر أنه كلام الله ، وثبت هذا كله عندنا تواترا ، فقد ثبت العلم به أنه النبأ الحق والقول الفصل . والأدلة سمعية وعقلية ، | وإذا حكما على أمر بحكم ما فلا شك فيه أنه على ذلك الحكم . وإذا كان الأمر على ما قلناه فيأخذ المتأهب عقيدته من | القرآن العزيز وهو بمنزلة الدليل العقلي في الدلالة ، إذ هو الصدق الذي ^ ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من | حكيم حميد ) ^ [ فصلت : 42 ] . فلا يحتاج المتأهب مع ثبوت هذا الأصل إلى أدلة العقول إذ قد حصل الدليل القاطع | الذي عليه السيف معلق . والإصفاق عليه محقق عنده ، قالت اليهود لمحمد [ & ] : انسب لنا ربك فأنزل الله تعالى عليه | سورة الإخلاص ولم يقم لهم من أدلة النظر دليلا واحدا فقال : ^ ( قل هو الله ) ^ [ الإخلاص : 1 ] فأثبت الوجود ^ ( أحد ) ^ | [ الإخلاص : 1 ] فنفى العدد وأثبت الأحدية لله سبحانه ^ ( الله الصمد ) ^ [ الإخلاص : 2 ] فنفى الجسم ^ ( لم يلد | ولم يولد ) ^ [ الإخلاص : 3 ] فنفى الوالد والولد ^ ( ولم يكن له كفوا أحد ) ^ [ الإخلاص : 4 ] فنفى الصاحبة ، | كما نفى الشريك بقوله : ^ ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) ^ [ الأنبياء : 22 ] فيطلب صاحب الدليل العقلي البرهان على | صحة هذه المعاني بالعقل وقد دل على صحة هذا اللفظ ، فيا ليت شعري هذا الذي يطلب يعرف الله من جهة الدليل ، | ويكفر من لا ينظر كيف كانت حالته قبل النظر ، وفي حال النظر هل هو مسلم أم لا ؟ وهل يصلي ويصوم ؟ أو ثبت عنده أن | محمدا رسول الله إليه أو أن الله موجود ؟ فإن كان معتقدا لهذا كله فهذه حالة العوام فليتركهم على ما هم عليه ولا يكفر | أحدا ، وإن لم يكن معتقدا لهذا إلا حتى بنظر ويقرأ علم الكلام فنعوذ بالله من هذا المذهب حيث أداه سوء النظر إلى | الخروج عن الإيمان ، وعلماء هذا العلم رضي الله عنهم ما وضعوه وصنفوا فيه ما صنفوه ليثبتوا في أنفسهم العلم بالله ، | وإنما وضعوه إرداعا للخصوم الذين جحدوا الإله أو الصفات أو بعض الصفات أو الرسالة أو رسالة محمد [ & ] خاصة أو | حدوث العالم ، أو الإعادة إلى هذه الأجسام بعد الموت أو الحشر والنشر وما يتعلق بهذا الصنف ، وكانوا كافرين بالقرآن | مكذبين به جاحدين له ، فطلب علماء الكلام إقامة الأدلة عليهم على الطريقة التي زعموا أنها أدتهم إلى إبطال ما ادعينا | صحته خاصة حتى لا يشوشوا على العوام عقائدهم ، فمهما برز في ميدان المجادلة بدعي برز له أشعري أو من كان من | أصحاب علم النظر ولم يقتصروا على السيف رغبة منهم وحرصا على أن يردوا واحدا إلى الإيمان والانتظام في سلك أمة | محمد [ & ] بالبرهان ، إذ الذي كان يأتي بالأمر المعجز على صدق دعواه قد فقد وهو الرسول عليه السلام ، فالبرهان عندهم | قائم مقام تلك المعجزة في حق من عرف ، فإن الراجع بالبرهان أصح إسلاما من الراجع بالسيف ، فإن الخوف يمكن أن | يحمله على النفاق وصاحب البرهان ليس كذلك . فلهذا رضي الله عنهم وضعوا علم الجوهر والعرض لا غير ، ويكفي في | المصر منه واحد ، فإذا كان الشخص مؤمنا بالقرآن أنه كلام الله قاطعا به فليأخذ عقيدته منه من غير تأويل ولا ميل ، فنزه | | سبحانه نفسه أن يشبهه شيء من المخلوقات أو يشبه شيئا بقوله تعالى : ^ ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) ^ | [ الشورى : 11 ] ^ ( سبحان ربك رب العزة عما يصفون ) ^ [ الصافات : 180 ] . وأثبت رؤيته في الدار الآخرة بظاهر قوله : | ^ ( وجوه يومئذ ناضرة ) ^ [ القيامة : 22 ] ^ ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) ^ [ المطففين : 15 ] وانتفت الإحاطة بدركه بقوله : | ^ ( لا تدركه الأبصار ) ^ [ الأنعام : 103 ] وثبت كونه قادرا بقوله : ^ ( وهو على كل شيء قدير ) ^ [ المائدة : 120 ] وثبت كونه عالما | بقوله : ^ ( أحاط بكل شيء علما ) ^ [ الطلاق : 12 ] وثبت كونه مريدا بقوله : ^ ( فعال لما يريد ) ^ [ البروج : 16 ] وثبت كونه | سميعا بقوله : ^ ( قد سمع الله ) ^ [ المجادلة : 1 ] وثبت كونه بصيرا بقوله ^ ( ألم يعلم بأن الله يرى ) ^ [ العلق : 14 ] وثبت كونه | متكلما بقوله : ^ ( وكلم الله موسى تكليما ) ^ [ النساء : 164 ] وثبت كونه حيا بقوله : ^ ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) ^ | [ البقرة : 255 ] وثبت إرسال الرسل بقوله : ^ ( وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم ) ^ [ النحل : 43 ] وثبتت رسالة | محمد [ & ] بقوله تعالى : ^ ( محمد رسول الله ) ^ [ الفتح : 29 ] وثبت أنه آخر الأنبياء بقوله : ^ ( وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء | عليما ) ^ [ الأحزاب : 40 ] وثبت أن كل ما سواه خلق له بقوله : ^ ( الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل ) ^ | [ الزمر : 62 ] وثبت خلق الجن بقوله تعالى : ^ ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) ^ [ الذاريات : 56 ] وثبت حشر | الأجساد بقوله : ^ ( منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ) ^ [ طه : 55 ] إلى أمثال هذا مما تحتاج إليه العقائد من | الحشر والنشر والقضاء والقدر والجنة والنار والقبر والميزان والحوض والصراط والحساب والصحف ، وكل ما لا بد | للمعتقد أن يعتقده . قال تعالى : ^ ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) ^ [ الأنعام : 38 ] وأن هذا القرآن معجزته عليه السلام بطلب | معارضته والعجز عن ذلك في قوله : ^ ( قل فأتوا بسورة مثله ) ^ [ يونس : 38 ] ثم قطع أن المعارضة لا تكون أبدا بقوله : | ^ ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) ^ [ الإسراء : 88 ] وأخبر | بعجز من أراد معارضته وإقراره بأن الأمر عظيم فيه فقال : ^ ( إنه فكر وقدر ) ^ [ المدثر : 18 ] إلى قوله : ^ ( إن هذا إلا سحر | يؤثر ) ^ [ المدثر : 24 ] ففي القرآن العزيز للعاقل غنية كبيرة ، ولصاحب الداء العضال دواء وشفاء كما قال : ^ ( وننزل من | القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ) ^ [ الإسراء : 82 ] ومقنع شاف لمن عزم على طريق النجاة ورغب في سمو الدرجات ، | وترك العلوم التي تورد عليها الشبه والشكوك فيضيع الوقت ويخاف المقت ، إذ المنتحل لتلك الطريقة قلما ينجو من | التشغيب أو يشتغل برياضة نفسه وتهذيبها ، فإنه مستغرق الأوقات في إرداع الخصوم الذين لم يوجد لهم عين ، ودفع شبه | يمكن إن وقعت للخصم ويمكن إن لم تقع ، فقد تقع وقد ولا تقع ، وإذا وقعت فسيف الشريعة أردع وأقطع .
' أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وحتى يؤمنوا بي وبما جئت به ' هذا قوله [ & ] . ولم يدفعنا | لمجادلتهم إذا حضروا إنما هو الجهاد والسيف إن عاند فيما قيل له ، فكيف بخصم متوهم نقطع الزمان بمجادلته وما رأينا | له عينا ولا قال لنا شيئا ، وإنما نحن مع ما وقع لنا في نفوسنا ونتخيل أنا مع غيرنا ، ومع هذا فإنهم رضي الله عنهم اجتهدوا | وخيرا قصدوا ، وإن كان الذي تركوا أوجب عليهم من الذي شغلوا نفوسهم به والله ينفع الكل بقصده ، ولولا التطويل | لتكلمت على مقامات العلوم ومراتبها ، وأن علم الكلام مع شرفه لا يحتاج إليه أكثر الناس ، بل شخص واحد يكفي منه في | البلد مثل الطبيب والفقهاء العلماء بفروع الدين ليسوا كذلك ، بل الناس محتاجون إلى الكثرة من علماء الشريعة ، وفي | الشريعة بحمد الله الغنية والكفاية ، ولو مات الإنسان وهو لا يعرف اصطلاح القائلين بعلم النظر مثل الجوهر والعرض | والجسم والجسماني والروح والروحاني لم يسأله الله تعالى عن ذلك ، وإنما يسأل الله الناس عما أوجب عليهم من | التكليف خاصة والله يرزقنا الحياء منه . |
( وصل ) :
صفحه ۷۴