151

فتوحات مکیه

الفتوحات المكية في معرفة الاسرار الملكية

ناشر

دار إحياء التراث العربي

شماره نسخه

الأولى

سال انتشار

1418هـ- 1998م

محل انتشار

لبنان

به ترتب ما في الكون من عجب . . . فكل كون له في علمه أجل لقيت من هؤلاء الطبقة جماعة بإشبيلية من بلاد الأندلس منهم أبو يحيى الصنهاجي الضرير كان يسكن بمسجد الزبيدي صحبته إلى أن مات ودفن بجبل عال كثيرا الرياح بالشرق فكل الناس شق عليهم طلوع الجبل لطوله وكثرة رياحه فسكن الله الريح فلم تهب منالوقت الذي وضعناه في الجبل وأخذ الناس في حفر قبره وقطع حجره إلى أن فرغنا منه وواريناه في روضته وأنصرفنا فعند إنصرافنا هبت الريح على عادتها فتعجب الناس من ذلك ومنهم أيضا صالح البربري وأبو عبد الله الشرفي وأبو الحجاج يوسف الشبربلي فأما صالح فساح أربعين سنة ولزم بإشبيلية مسجد الرطند إلى أربعين سنة على التجريد بالحالة التي كان عليها في سياحته وأما أبو عبد الله الشرفي فكان صاحب خطوة بقي نحوا من خمسين سنة ما أسرج له سراجا في بيته رأيت له عجائب وأما أبو الحجاج الشبربلي من قرية يقال لها شبربل بشرق إشبيلية كان ممن يمشي على الماء وتعاشره الرواح وما من واحد نمن هؤلاء إلا وعاشرتته معاشرة مودة وإمتزاج ومحبة منهم فينا وقد ذكرناهم مع أشياخنا في الدرة الفاخرة عند ذكرنا من انتفعت به في طريق الآخرة فكان هؤلاء الأربعة من أهل هذا المقام وهم من أكابر الأولياء الملامية جعل بأيديهم علم التدبير والتفضيل فلهم الإسم المدبر المفصل وهجيرهم يدبر الأمر يفصل الآيات هم العرائس أهل المنصات فلهم الآيات المعتادة وغير المعتادة فالعلم كله عندهم آيات بينات والعامة ليست الآيات عندهم إلا التي هي عندهم غير معتادة فتلك تنبههم إلى تعظيم الله والله قد جعل الآيات المعتادة لأصناف مختلفين من عباده فمنها للعقلاء مثل قوله تعالى إن في خلق السموات والأرض وإختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون فثم آيات للعقلاء كلها معتادة وآيات للموقنين وآيات لأولي الباب وآيات للسامعين وهم أهل الفهم عن الله وآيات للعالمين وآيات للعالمين وآيات للمؤمنين وآيات للمتفكرين وآيات لأهل التذكر فهؤلاء كلهم أصناف نعتهم الله بنعوت مختلفة وآيات مختلفات كلها ذكرها لنا في القرآن إذا بحثت عليها وتدبرها علمت أنها آيات ودلالات على أمور مختلفة ترجع إلى عين واحدة غفل عن ذلك أكثر الناس ولهذا عدد الصناف فإن من الآيات المذكورة المعتادة ما يدرك الناس دلالتها من كونهم ناسا وجنا وملائكة وهي التي وصف بادرا كها العالم بفتح اللام ومن الآيات ما تغمض بحيث لا يدركها الأمن له التفكر السليم ومن الآيات ما هي دلالتها مشروطة بأولى الأباب وهم العقلاء الناظرون في لب الأمور لا في قشورها فهم الباحثون عن المعاني وإن كانت الألباب والهى العقول فلم يكتف سبحانه بلفظة العقل حتى ذكر الآيات الأولى الباب فما كل عاقل ينظر في لب الأمور وبواطنها فإن أهل الظاهر لهم عقول بلا شك وليسوا بأولي الألباب ولا شك أن العصاة لهم عقول ولكن ليسوا بأولي نهى فاختلفت صفاتهم إذ كانت كل صفة تعطى صنفا من العلم لا يحصل إلا لمن حالة تلك الصفة فما ذكرها الله سدى وكثر الله ذكر الآيات في القرآن العزيز ففي مواضع اردفها وتلا بعضها بعضا وأردف صفة العارفين بها وفي مواضع أفردها فمثل أرداف بعضها على بعض مساقها في سورة الروم فلا يزال يقول تعالى ومن آياته ومن آياته ومن آياته فيتلوها جميع الناس ولا يتنبه لها إلا الأصناف الذين ذكرهم في كل آية خاصة فكانت تلك الآيات في حق أولئك أنزلت آيات وفي حق غيرهم لمجرد التلاوة ليؤجروا عليها ولما قرأت هذه السورة وأنا في مقام هذه الطبقة ووصلت إلى قوله ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله تعجبت كل العجب من حسن نظم القرآن وجمعه ولماذا قدم ما كان ينبغي في النظر العقلي في ظاهر المر أن يكون علىغير هذا النظم فإن النهار لإبتغاء الفضل والليل للمنام كما قال في القصص ومن آياته أن جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه فأعاد الضمير على الليل ولتبتغوا من فضله يريد في النهار فاضمرو إن كان الضميران يعودان على المعنى المقصود فقد يعمل الصانع بالليل ويبيع ويشتري بالليل كما أنه ينام أيضا ويسكن بالنهار ولكن الغالب في الأمور هو المعتبر فلاح لي من خلف ستارة هذه الآية وحسن العبارة عنها الرافعة سترها وهو قوله منامكم بالليل والنهار أمر زائد على مايفهم منه في العموم بقرائن الحوال في إبتغاء الفضل للنهار والمنام لليل ما يذكره وهو أن الله نبه بهذه الآية على أن نشأة الآخرة الحسية لا تشبه هذه النشأة الدنياوية وإنها ليست بعينها بل تركيب آخر ومزاج كما وردت به الشرائع والتعريفات النبوية في مزاج تلك الدار وإن كانت هذه الجواهر عينها بلا شك فإنها التي تبعثر في القبور وتنشر ولكن يختلف التركيب والمزاج بإعراض وصفات تليق بتلك الدار لا تليق بهذه الدار وإن كانت الصورة واحدة في العين والسمع والأنف والفم واليدين والرجلين بكمال النشأة ولكن الإختلاف بين فمنه ما يشعر به ويحس ومنه ما لا يشعر به ولما كانت صورة الإنشاء في الدار الآخرة على صورة هذه لنشأة لم يشعر بما أشرنا إليه ولما كان الحكم يختلف عرفنا أن المزاج إختلف فهذا الفرق بين حظ الحس والعقل فقال تعالى ومن آياته منامكم بالليل والنهار ولم يذكر اليقظة لا تكون إلا عند الموت وأن الإنسان نائم أبدا مالم يمت فذكرأنه في منام بالليل والنهار في يقظته ونومه وفي الخبر الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا ألا ترى أنه لم يأت بالباء في قوله تعالى والنهار وأكتفى بباء الليل ليحقق بهذه المشاركة أنه يريد المنام في حال اليقظة المعتادة فحذفها مما يقوى الوجه الذي أبرزناه في هذه الآية فالمنام هو ما يكون فيه النائم في حال نومه فإذا استيقظ يقول رأيت كذا وكذا فدل أن الإنسان في منام ما دام في هذه النشأة في الدنيا إلى أن يموت فلم يعتبرا الحق اليقظة المعتادة عندنا في العموم بل جعل الإنسان في منام ما دام في هذه النشأة في الدنيا إلى أن يموت فلم يعتبر الحق اليقظة المعتادة عندنا في العموم بل جعل انسان في منام في نومه ويقظته كما أوردناه في الخبر النبوي من قوله صلى الله عليه وسلم نيام فإذا ماتوا انتبهوا فوصفهم بالنوم في الحياة الدنيا والعامة لا تعرف النوم في المعتاد إلا ما جرت به العادة أن يسمى نوما فنبه النبي صلى الله عليه وسلم بل صرح أن الإنسان في منام ما دام في الحياة الدنيا حتى ينتبه في الآخرة والموت أول أحوال الآخرة فصدقه الله بما جاء به في قوله تعالى ومن آياته منامكم بالليل وهو النوم العادي والنهار وهو هذا المنام الذي صرح به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا جعل الدنيا عبرة جسرا يعبر أي تعبر كما تعبر الرؤيا التي يراها الإنسان في نومه فكما إن الذي يراه الرائي في حال نومه ما هو مراد لنفسه إنما هو مراد لغيره فيعبر من تلك الصورة المرئية في حال النوم إلى معناها المراد بها في عالم اليقظة إذا استيقظ من نومه كذلك حال الإنسان في الدنيا ما هو مطلوب للدنيا فكل ما يراه من حال وقول وعمل في الدنيا إنما هو مطلوب للآخرة فهناك يعبر ويظهر له ما رآه في الدنيا كما يظهر له في الدنيا إذا استيقظ ما رآه في المنام فالدنيا جسر يعبر ولا يعمر كالإنسان في حال ما يراه في نومه يعبر ولا يعمر فإنه إذا استيقظ لا يجد شيئا مما رآه من خير يراه أو شر وديار وبناء وسفر وأحوال حسنة أو سيئة فلا بد أن يعبر له العارف بالعبارة ما رآه فيقول له تدل رؤياك لكذا على فكذلك الحياة الدنيا منام إذا انتقل إلى الآخرة بالموت لم ينتقل معه شيء مما كان في يده وفي حسه من دار وأهل ومال كما كان حين استيقظ من نومه لم ير شيئا في يده مما كان له حاصلا في رؤياه في حال نومه فلهذا قال تعالى إننا في منام بالليل والنهار وفي الآخرة تكون اليقظة وهناك تعبر الرؤيا فمن نور الله عين بصيرته وعبر رؤياه هنا قبل الموت أفلح ويكون فيها مثل من رأى رؤيا ثم رأى في رؤياه أنه استيقظ فيقص ما رآه وهو في النوم على حاله على بعض الناس الذين يراهم في نومه فيقول رأيت كذا وكذا فيفسره ويعبر له ذلك الشخص بما يراه في علمه بذلك فإذا استيقظ حينئذ يظهر له أنه لم يزل في منام في حال الرؤيا وفي حال التعبير لها وهو أصح التعبير وكذلك الفطن اللبيب في هذه الدار مع تكونه في منامه يرى أنه استيقظ فيعبر رؤياه في منامه لينتبه ويزدجر ويسلك الطريق الأسد فإذا استيقظ بالموت حمد رؤياه وفرح بمنامه وأثمرت له رؤياه خيرا فلهذه الحقيقة ما ذكر الله في هذه الآية اليقظة وذكر المنام وأضافه إلينا بالليل والنهار وكان إبتغاء الفضل فيه في حق من رأي في نومه أنه إستيقظ في نومه فيعبر رؤياه وهي حالة الدنيا والله يلهمنا رشد أنفسنا هذا من قوله تعالى يدبر الأمر يفصل الآيات فهذا تفصيل آيات المنام بالليل والنهار والإبتغاء من الفضل وجعله آيات لقوم يسمعون أي يفهمون كما قال ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون أراد ألفهم عن الله وقال فيهم صم مع كونهم يسمعون بكم مع كونهم يتكلمون عمى مع كونهم يبصرون فهم لا يعقلون فنبهتك على ما أراد بالسمع والكلام والبصر هنا فهذه الطبقة الركبانية الثانية مآخذهم للأشياء على هذا الحد الذي ذكرناه في هذه الآية وإنما ذكرنا هذا المأخذ لنعرفك بطريقتهم فتبين لك منزلتهم من غيرهم فلطائفهم بالآيات المنصوبة المعتادة قائمة ناظرة إلى نفوس العالم ناظرة إلى الوجوه العرضية التي إليها يتوجهون بسبب أغراضهم ناظرة إلى الحدود الإلهية فيما إليه يتوجهون لا يغفلون عن النظر في ذلك طرفة عين فغلتهم التي تقتضيها جبلتهم إنما متعلقها منهم عما ضمن لهم فهم متيقظون فيما طلب منهم غافلون عما ضمن لهم حتى لا يخرجون عن حكم الغفلة فإنها من جبلة الإنسان وغير هذه الطائفة صرفتها الغفلة عما يراد منها فإن كان الذي يقع إليه التوجه طاعة نظروا في دقائق تحصيلها ونظروا إلى الأمر الإلهي الذي يناسبها والاسم الإلهي الذي له السلطان عليها فيفصل لهم الأمر الإلهي الآية التي يطلبونها فإن كانت الآية معتادة مثل اختلاف الليل والنهار وتسخير السحاب وغير ذلك من الآيات المعتادة التي لا خبر لنفوس العامة بكونها حتى يفقدوها فإذا فقدوها حينئذ خرجوا للإستسقاء وعرفوا في ذلك الوقت موضع دلالتها وقدرها وإنهم كانوا في آية وهم لا يشعرون فإذا جاءتهم وأمطروا عادوا إلى غفلتهم هذا حال العامة كما قال الله فيهم معجلا في هذه الدار هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون وإذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يقول الله لهم يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا وهكذا يقولون في النار يا ليتنا نرد قال تعالى ولو ردوا العادوا لما نهوا عنه كما عاد أصحاب الفلك إلى شركهم وبغيهم بعد إخلاصهم لله فإذا نظرت هذه الطائفة إلىهذه الآيات أرسلوها مع آية رهبة وزجر ووعيد أرسلوها على النفوس وإن طلبها أعني تلك الآية الاسم اللطيف وإخواته فهي آية رغبة ارسلوها وأعطيت التلذذ بالإعمال فقامت فيها بنشاط وتعرت فيها من ملابس الكسل وتبغض إليها معاشرة البطالين وصحبة الغافلين اللاهين عن ذكر الله ويكرهون الملأ والجلوة ويؤثرون الإنفراد والخلوة ولهذه الطبقة الثانية حقيقة ليلة القدر وكشفها وسرها ومعناها ولهم فيها حكم إلهي اختصوا به وهي حظهم من الزمان فانظر ما أشرف إذ حباهم الله من الزمان بأشرفه فإنها خير من ألف شهر فيه زمان رمضان ويوم الجمعة ويوم عاشوراء ويوم عرفة وليلة القدر فكأنه قال فتضاعف خيرها ثلاثا وثمانين ضعفا وثلث ضعف لأنها ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر وقد تكون الأربعة الأشهر مما يكون فيها ليلة القدر فيكون التضعيف في كل ليلة قدر أربعة وثمانين ضعفا فانظر ما في هذا الزمان من الخير وبأي زمان خصت هذه الطائفة والله يقول الحق وهو يهدي السبيل انتهى الجزء الثامن عشر والحمد لله بسم الله الرحمن الرحيم

الباب الثالث والثلاثون في معرفة أقطاب النيات وأسرارهم وكيفية أصولهم

ويقال لهم النياتيون

الروح للجسم والنيات للعمل . . . تحيا بها كحياة الأرض بالمطر

فتبصر الزهر والأشجار بارزة . . . وكل ما تخرج من ثمر

كذاك تحرج من أعمالنا صور . . . لها روائح من نتن ومن عطر

لولا الشريعة كان المسك يخجل من . . . أعرافها هكذا يقضي به نظري

إذا كان مستند التكوين أجمعه . . . له فلا فرق بين النفع والضرر

فالزم شريعته تنعم بها سورا . . . تحلها صور تزهو على سرر

صفحه ۲۷۱