بِسم الله الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
قَالَ الشَّيْخ الْفَقِيه الْعَالم الْحَافِظ الْعَلامَة أوحد عصره وفريد دهره شيخ الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين قامع الْبِدْعَة والمبتدعين الشَّيْخ شمس الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الرحمن أبي بكر بن أَيُّوب الزرعي الْمَعْرُوف بِابْن قيم الْمدرسَة الجوزية ﵁ وَغفر لَهُ وأعلا فِي الْجنَّة دَرَجَته آمين
تحمدة وتقدمة
الْحَمد لله الَّذِي أرسل رَسُوله بِالْهدى وَدين الْحق لِيظْهرهُ على جَمِيع الْأَدْيَان وأيده بِالْآيَاتِ الظَّاهِرَة والمعجزات الباهرة وَمن أعظمها الْقُرْآن وأمده بملائكة السَّمَاء تقَاتل بَين يَدَيْهِ مقاتلة الفرسان وَنَصره برِيح الصِّبَا تحارب عَنهُ أهل الزيغ والعدوان كَمَا نَصره بِالرُّعْبِ وقذفه فِي قُلُوب أعدائه وَبَينه وَبينهمْ مسيرَة شهر من الزَّمَان وَأقَام لَهُ جُنُودا من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار تقَاتل مَعَه بِالسَّيْفِ والسهم والسنان
1 / 81
وتصاول بَين يَدَيْهِ فِي ميادين السباق تصاول الأقران وتبذل فِي نصرته من نفوسها وأموالها نفائس الْأَثْمَان تَسْلِيمًا للْمَبِيع الَّذِي جرى عقده على أَيدي الصَّادِق المصدوق وَالْتزم للْبَائِع الضَّمَان ﴿إِن الله اشْترى من الْمُؤمنِينَ أنفسهم وَأَمْوَالهمْ بِأَن لَهُم الْجنَّة يُقَاتلُون فِي سَبِيل الله فيقتلون وَيقْتلُونَ وَعدا عَلَيْهِ حَقًا فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالْقُرْآن﴾ التَّوْبَة ١١١ وتبارك الَّذِي أرسل رسله بِالْبَيِّنَاتِ وَأنزل مَعَهم الْكتاب وَالْمِيزَان وَأنزل الْحَدِيد فِيهِ بَأْس شَدِيد وَمَنَافع تتمّ بهَا مصَالح الْإِنْسَان وَعلم الفروسية وَجعل الشجَاعَة خلقا فَاضلا يخْتَص بِهِ من يَشَاء وكمله لحزبه وأصاره حلية أهل الْإِيمَان فَأوجب محبته للجواد الشجاع وكمله ومقته للبخيل الجبان
وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ رب الْعَالمين وإله الْأَوَّلين والآخرين وقيوم السَّمَاوَات وَالْأَرضين الَّذِي أَفَاضَ على خلقه النِّعْمَة وَكتب على نَفسه الرَّحْمَة وَضمن الْكتاب الَّذِي كتبه أَن رَحمته تغلب غَضَبه تعرف إِلَى عباده بأوصافه وأفعاله وأسمائه وتحبب إِلَيْهِم بنعمته وآلائه وابتدأهم بإحسانه وعطائه فَهُوَ المحسن إِلَيْهِم والمجازي على إحسانه بِالْإِحْسَانِ فَلهُ النِّعْمَة وَالْفضل وَالثنَاء الْحسن الْجَمِيل والإمتنان ﴿يمنون عَلَيْك أَن أَسْلمُوا قل لَا تمنوا عَليّ إسلامكم بل الله يمن عَلَيْكُم أَن هدَاكُمْ للْإيمَان﴾ الحجرات ١٧
وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله وأمينه على وحيه وَخيرته من خلقه وسفيره بَينه وَبَين عباده وحجته على جَمِيع الْإِنْس والجان أرْسلهُ على حِين فَتْرَة من الرُّسُل فهدى بِهِ إِلَى أقوم الطّرق وَأبين السبل وافترض
1 / 82
على الْعباد طَاعَته ومحبته وتعظيمه وَالْقِيَام بحقوقه وسد إِلَى الْجنَّة جَمِيع الطّرق فَلم يفتح لأحد إِلَّا من طَرِيقه فشرح الله لَهُ صَدره وَرفع لَهُ ذكره وَوضع عَنهُ وزره وَبَعثه بِالْكتاب الْهَادِي وَالسيف النَّاصِر بَين يَدي السَّاعَة حَتَّى يعبد سُبْحَانَهُ وَحده لَا شريك لَهُ وَجعل رزقه تَحت ظلّ سَيْفه وَرمحه وَجعل الذلة وَالصغَار على من قَابل أمره بالمخالفة والعصيان وَأنزل عَلَيْهِ من الْكتب أجلهَا وَمن الشَّرَائِع أكملها وَمن الْأُمَم أفضلهَا وهم يُوفونَ سبعين أمة هم خَيرهَا وَأَكْرمهَا على الرَّحْمَن وَخَصه من الْأَخْلَاق بأزكاها وَمن مَرَاتِب الْكَمَال بِأَعْلَاهَا وَجمع لَهُ من المحاسن مَا فرقه فِي نوع الْإِنْسَان فَهُوَ أكمل النَّاس خلقا وَأَحْسَنهمْ خلقا وأشجعهم قلبا وأجودهم كفا وألينهم عَرِيكَة وأوسعهم صَدرا وألطفهم عشرَة وأفصحهم لِسَانا وأثبتهم جنَانًا وأشرفهم بَيْتا ونسبا
فَهُوَ مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هَاشم بن عبد منَاف بن قصي بن كلاب بن مرّة بن كَعْب بن لؤَي بن غَالب بن فهر بن مَالك بن النَّضر بن كنَانَة بن خُزَيْمَة بن مدركة بن إلْيَاس بن مُضر بن نزار بن معد بن عدنان
فصلى الله وَمَلَائِكَته وأنبياؤه وَرُسُله والصالحون من خلقه عَلَيْهِ كَمَا عرفنَا بِاللَّه وأسمائه وَصِفَاته وَوَحدهُ ودعا إِلَيْهِ وآتاه الْوَسِيلَة والفضيلة وَبَعثه الْمقَام الْمَحْمُود الَّذِي وعده فِي دَار السَّلَام وَالسَّلَام عَلَيْهِ وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته
أما بعد فَإِن الله سُبْحَانَهُ أَقَامَ دين الْإِسْلَام بِالْحجَّةِ والبرهان وَالسيف
1 / 83
والسنان فكلاهما فِي نَصره أَخَوان شقيقان وَكِلَاهُمَا شجيع لَا يتم إِلَّا بشجاعة الْقلب وثبات الْجنان وَهَذِه الْمنزلَة الشَّرِيفَة والمرتبة المنيفة مُحرمَة على كل مهين جبان كَمَا حرمت عَلَيْهِ المسرة والأفراح وأحضر قلبه الهموم والغموم والمخاوف وَالْأَحْزَان فَهُوَ يحْسب أَن كل صَيْحَة عَلَيْهِ وكل مُصِيبَة قاصدة إِلَيْهِ فقلبه بالحزن مغمور بِهَذَا الظَّن والحسبان
وَقد علم أَن الفروسية والشجاعة نَوْعَانِ فأكملها لأهل الدّين وَالْإِيمَان وَالنَّوْع الثَّانِي مورد مُشْتَرك بَين الشجعان
وَهَذَا مُخْتَصر فِي الفروسية الشَّرْعِيَّة النَّبَوِيَّة الَّتِي هِيَ من أشرف عبادات الْقُلُوب والأبدان الحاملة لأَهْلهَا على نصْرَة الرَّحْمَن السائقة لَهُم إِلَى أَعلَى غرف الْجنان علقته على بعد من الأوطان واغتراب عَن الْأَصْحَاب والإخوان وَقلة بضَاعَة فِي هَذَا الشَّأْن فَمَا كَانَ فِيهِ من صَوَاب فَمن فضل الله وتوفيقه وَمَا كَانَ فِيهِ من خطأ فَمن الشَّيْطَان وَالله وَرَسُوله مِنْهُ بريئان
فَأَقُول وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَان وَعَلِيهِ التكلان
ثَبت عَن النَّبِي ﷺ أَنه سَابق بالأقدام وَثَبت عَنهُ أَنه سَابق بَين الْإِبِل وَثَبت عَنهُ أَنه سَابق بَين الْخَيل وَثَبت عَنهُ أَنه حضر نضال السِّهَام وَصَارَ مَعَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ فَأَمْسَكت الْأُخْرَى وَصَارَ مَعَ الطَّائِفَتَيْنِ كلتيهما وَثَبت عَنهُ أَنه رمى بِالْقَوْسِ وَثَبت عَن الصّديق أَنه رَاهن كفار مَكَّة على غَلَبَة الرّوم للْفرس وراهنوه على أَن لَا يكون ذَلِك وَوَضَعُوا الْخطر من الْجَانِبَيْنِ وَكَانَ ذَلِك بِعلم النَّبِي ﷺ وإذنه وَثَبت عَنهُ ﷺ أَنه طعن بِالرُّمْحِ وَركب الْخَيل مسرجة ومعراة وتقلد السَّيْف
1 / 84
مسابقته ﷺ بالأقدام
فَأَما مسابقته بالأقدام فَفِي مُسْند الإِمَام أَحْمد وَسنَن أبي دَاوُد من حَدِيث عَائِشَة قَالَت
سابقني النَّبِي ﷺ فسبقته فلبثنا حَتَّى إِذا أرهقني اللَّحْم سابقني فَسَبَقَنِي فَقَالَ هَذِه بِتِلْكَ
وَفِي رِوَايَة أُخْرَى
أَنهم كَانُوا فِي سفر فَقَالَ النَّبِي ﷺ لأَصْحَابه تقدمُوا فتقدموا ثمَّ قَالَ لعَائِشَة سابقيني فسابقها فسبقته ثمَّ سَافَرت مَعَه مرّة أُخْرَى فَقَالَ لأَصْحَابه تقدمُوا ثمَّ قَالَ سابقيني فسبقته وسبقني فَقَالَ (هَذِه بِتِلْكَ)
مسابقة الصَّحَابَة على الْأَقْدَام بَين يَدَيْهِ ﷺ
وتسابق الصَّحَابَة على الْأَقْدَام بَين يَدَيْهِ ﷺ بِغَيْر رهان
فَفِي صَحِيح مُسلم عَن سَلمَة بن الْأَكْوَع قَالَ
1 / 85
بَيْنَمَا نَحن نسير وَكَانَ رجل من الْأَنْصَار لَا يسْبق شدا فَجعل يَقُول أَلا مسابق إِلَى الْمَدِينَة هَل من مسابق فَقلت أما تكرم كَرِيمًا وتهاب شريفا قَالَ لَا إِلَّا أَن يكون رَسُول الله ﷺ قَالَ قلت يَا رَسُول الله بِأبي أَنْت وَأمي ذَرْنِي أسابق الرجل فَقَالَ إِن شِئْت فسبقته إِلَى الْمَدِينَة
فصل
مصارعته ﷺ
وَأما مصارعته ﷺ فَفِي سنَن أبي دَاوُد عَن مُحَمَّد بن عَليّ بن ركَانَة
إِن ركَانَة صارع النَّبِي ﷺ فصرعه النَّبِي ﷺ
1 / 86
وَهَذَا الحَدِيث فِيهِ قصَّة نذكرها أخبرنَا شَيخنَا أَبُو الْحجَّاج الْحَافِظ فِي كتاب تَهْذِيب الْكَمَال قَالَ
ركَانَة بن عبد يزِيد بن هَاشم بن الْمطلب بن عبد منَاف بن قصي بن كلاب بن مرّة بن كَعْب بن لؤَي بن غَالب الْقرشِي المطلبي كَانَ من مسلمة الْفَتْح وَهُوَ الَّذِي صارع النَّبِي ﷺ [فصرعه النَّبِي ﷺ] مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا وَذَلِكَ قبل إِسْلَامه وَقيل [إِن] ذَلِك كَانَ سَبَب إِسْلَامه وَهُوَ أمثل مَا روى فِي مصارعة النَّبِي ﷺ وَأما مَا ذكر من مصارعة النَّبِي ﷺ أَبَا جهل فَلَيْسَ لذَلِك أصل انْتهى كَلَام شَيخنَا
وَقَالَ الزبير بن بكار فِي كتاب النّسَب
وركانة بن عبد يزِيد الَّذِي صارع النَّبِي ﷺ بِمَكَّة قبل الْإِسْلَام وَكَانَ أَشد النَّاس فَقَالَ يَا مُحَمَّد إِن صرعتني آمَنت بك فصرعه النَّبِي ﷺ فَقَالَ أشهد إِنَّك سَاحر ثمَّ أسلم بعد
1 / 87
فصل
مسابقته ﷺ بَين الْخَيل
وَأما مسابقته ﷺ بَين الْخَيل فَفِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث ابْن عمر قَالَ
سَابق رَسُول الله ﷺ بَين الْخَيل فَأرْسلت الَّتِي أضمرت مِنْهَا وأمدها الحفياء إِلَى ثنية الْوَدَاع وَالَّتِي لم تضمر أمدها ثنية الْوَدَاع إِلَى مَسْجِد بني زُرَيْق
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن مُوسَى بن عقبَة
1 / 88
أَن بَين الحفياء إِلَى ثنية الْوَدَاع سِتَّة أَمْيَال أَو سَبْعَة
وَقَالَ البُخَارِيّ قَالَ سُفْيَان من الحفياء إِلَى ثنية الْوَدَاع خَمْسَة أَمْيَال أَو سِتَّة وَمن ثنية الْوَدَاع إِلَى مَسْجِد بني زُرَيْق ميل
وَفِي مُسْند الإِمَام أَحْمد من حَدِيث عبد الله بن عمر أَيْضا إِن النَّبِي ﷺ سبق بَين الْخَيل وأرهن
وَفِي لفظ لَهُ سبق بَين الْخَيل وَأعْطى السَّابِق
وَفِي الْمسند أَيْضا من حَدِيث أنس أَنه قيل لَهُ أَكُنْتُم تراهنون على عهد رَسُول الله ﷺ أَو كَانَ رَسُول الله ﷺ يراهن قَالَ
1 / 89
نعم وَالله لقد رَاهن رَسُول الله ﷺ على فرس لَهُ يُقَال لَهُ (سبْحَة) فَسبق النَّاس فبهش لذَلِك وَأَعْجَبهُ
وَفِي سنَن أبي دَاوُد عَن ابْن عمر
إِن النَّبِي ﷺ سبق بَين الْخَيل وَفضل الْقرح فِي الْغَايَة
فصل
مسابقته ﷺ بَين الْإِبِل
وَأما مسابقته بَين الْإِبِل فَفِي صَحِيح البُخَارِيّ تَعْلِيقا عَن أنس
1 / 90
ابْن مَالك قَالَ
كَانَت (العضباء) لَا تسبق فجَاء أَعْرَابِي على قعُود لَهُ فسابقها فسبقها الْأَعرَابِي وَكَأن ذَلِك شقّ على أَصْحَاب رَسُول الله ﷺ فَقَالَ (حق على الله أَن لَا يرْتَفع شَيْء إِلَّا وَضعه)
وَفِي صَحِيحه أَيْضا عَن حميد عَن أنس بِهَذِهِ الْقِصَّة وَقَالَ إِن حَقًا على الله ﷿ أَن لَا يرفع شَيْئا من الدُّنْيَا إِلَّا وَضعه
قلت تَأمل قَوْله فِي اللَّفْظ الأول أَن لَا يرْتَفع شَيْء وَفِي اللَّفْظ الثَّانِي أَن لَا يرفع شَيْئا من الدُّنْيَا إِلَّا وَضعه فَجعل الْوَضع لما رفع وارتفع لَا لما رَفعه سُبْحَانَهُ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ إِذا رفع عَبده بِطَاعَتِهِ وأعزه بهَا لَا يَضَعهُ أبدا
فصل
تناضل الصَّحَابَة بِالرَّمْي بِحَضْرَتِهِ ﷺ
وَأما تناضل أَصْحَابه بِالرَّمْي بِحَضْرَتِهِ فَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن سَلمَة بن الْأَكْوَع قَالَ مر النَّبِي ﷺ بِنَفر من أسلم ينتضلون بِالسوقِ فَقَالَ
وَارْمُوا بني إِسْمَاعِيل فَإِن أَبَاكُم كَانَ راميا ارموا وَأَنا مَعَ بني فلَان
1 / 91
قَالَ فَأمْسك أحد الْفَرِيقَيْنِ بِأَيْدِيهِم
فَقَالَ رَسُول الله ﷺ مَا لكم لَا ترمون
قَالُوا كَيفَ نرمي وَأَنت مَعَهم
فَقَالَ ارموا وَأَنا مَعكُمْ كلكُمْ
فصل
مراهنة الصّديق للْمُشْرِكين بِعِلْمِهِ وإذنه ﷺ
وَأما مراهنة الصّديق للْمُشْرِكين بِعِلْمِهِ وإذنه فروى التِّرْمِذِيّ فِي جَامِعَة من حَدِيث سُفْيَان الثَّوْريّ عَن حبيب بن أبي عمْرَة عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس فِي قَول الله تَعَالَى ﷿ ﴿الم غلبت الرّوم فِي أدنى الأَرْض وهم من بعد غلبهم سيغلبون﴾ [الرّوم: ١ - ٣] [قَالَ]
كَانَ الْمُشْركُونَ يحبونَ أَن يظْهر أهل فَارس على الرّوم لأَنهم وإياهم أهل أوثان وَكَانَ الْمُسلمُونَ يحبونَ أَن يظْهر الرّوم على فَارس لأَنهم أهل كتاب فذكروه لأبي بكر ﵁ فَذكره أَبُو بكر لرَسُول الله ﷺ فَقَالَ [لَهُ رَسُول الله ﷺ]
أما إِنَّهُم سيغلبون فذكروه لَهُم فَقَالُوا اجعلوا بَيْننَا وَبَيْنك أََجَلًا فَإِن ظهرنا كَانَ لنا كَذَا وَكَذَا وَإِن ظهرتم كَانَ لكم كَذَا فَجعل أجل خمس سِنِين فَلم يظهروا فَذكرُوا ذَلِك للنَّبِي ﷺ فَقَالَ أَلا جعلت إِلَى دون الْعشْر قَالَ سعيد والبضع مَا دون الْعشْر قَالَ ثمَّ ظَهرت الرّوم بعد قَالَ فَذَلِك قَوْله ﴿الم غلبت الرّوم فِي أدنى الأَرْض وهم من بعد غلبهم سيغلبون فِي بضع سِنِين لله الْأَمر من قبل وَمن بعد ويومئذ يفرح الْمُؤْمِنُونَ بنصر الله﴾
1 / 92
) [الرّوم: ١ - ٥]
قَالَ سُفْيَان
سَمِعت أَنهم ظَهَرُوا عَلَيْهِم [يَوْم بدر]
قَالَ التِّرْمِذِيّ
هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح
وَفِي جَامعه أَيْضا عَن نيار بن مكرم الْأَسْلَمِيّ قَالَ
لما نزلت ﴿الم غلبت الرّوم فِي أدنى الأَرْض﴾ إِلَى قَوْله ﴿فِي بضع سِنِين﴾ [الرّوم: ١ - ٣] وَكَانَت فَارس يَوْم نزلت هَذِه الْآيَة قاهرين للروم وَكَانَ الْمُسلمُونَ يحبونَ ظُهُور الرّوم عَلَيْهِم لأَنهم وإياهم أهل كتاب و[فِي] ذَلِك قَوْله تَعَالَى ﴿ويومئذ يفرح الْمُؤْمِنُونَ بنصر الله ينصر من يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيز الرَّحِيم﴾ [الرّوم: ٤ - ٥] وَكَانَت قُرَيْش تحب ظُهُور فَارس لأَنهم وإياهم لَيْسُوا بِأَهْل كتاب وَلَا إِيمَان ببعث فَلَمَّا أنزل الله هَذِه الْآيَة خرج أَبُو بكر الصّديق يَصِيح فِي نواحي مَكَّة ﴿الم غلبت الرّوم فِي أدنى الأَرْض وهم من بعد غلبهم سيغلبون فِي بضع سِنِين﴾
1 / 93
) [الرّوم: ١ - ٤] فَقَالَ نَاس من قُرَيْش [لأبي بكر] فَذَلِك بَيْننَا وَبَيْنكُم بزعم صَاحبك أَن الرّوم ستغلب فَارس فِي بضع سِنِين افلا نراهنك على ذَلِك قَالَ بلَى قَالَ وَذَلِكَ قبل تَحْرِيم الرِّهَان فارتهن أَبُو بكر وَالْمُشْرِكُونَ وتواضعوا الرِّهَان وَقَالُوا لأبي بكر كم نجْعَل الْبضْع وَهُوَ ثَلَاث سِنِين إِلَى تسع سِنِين فسم بَيْننَا وَبَيْنك وسطا ننتهي إِلَيْهِ قَالَ فسموا بَينهم سِتّ سِنِين قَالَ فمضت السِّت سِنِين قبل أَن يظهروا فَأخذ الْمُشْركُونَ رهن أبي بكر فَلَمَّا دخلت السّنة السَّابِعَة ظَهرت الرّوم على فَارس فعاب الْمُسلمُونَ على أبي بكر تَسْمِيَته سِتّ سِنِين لِأَن الله قَالَ ﴿فِي بضع سِنِين﴾ قَالَ وَأسلم عِنْد ذَلِك نَاس كثير
قَالَ التِّرْمِذِيّ
هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح
وَفِي الْجَامِع أَيْضا من حَدِيث ابْن عَبَّاس أَن رَسُول الله ﷺ قَالَ لأبي بكر فِي مناحبته
1 / 94
أَلا أخفضت (وَفِي لفظ أَلا احتطت) فَإِن الْبضْع مَا بَين الثَّلَاث إِلَى التسع
[رَوَاهُ] من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن عبيد الله بن عتبَة عَن ابْن عَبَّاس
وَقَوله فِي الحَدِيث مناحبته فالمناحبة المخاطرة وَهِي الْمُرَاهنَة من النحب وَهُوَ النّذر وَكِلَاهُمَا مناحب هَذَا بِالْعقدِ وَهَذَا بِالنذرِ
وَقَوله أَلا أخفضت يجوز أَن يكون من الْخَفْض وَهُوَ الدعة وَالْمعْنَى هلا نفست الْمدَّة فَكنت فِي خفض من أَمرك ودعة وَيجوز أَن يكون من الْخَفْض الَّذِي هُوَ من الانخفاض أَي هلا استنزلتم إِلَى أَكثر مِمَّا اتفقتم عَلَيْهِ
وَقَوله فِي اللَّفْظ الآخر هلا احتطت هُوَ من الإحتياط أَي هلا أخذت بالأحوط وَجعلت الْأَجَل أقْصَى مَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ الْبضْع فَإِن النَّص لَا يتعداه
وَقَوله وَذَلِكَ قبل تَحْرِيم الرِّهَان من كَلَام بعض الروَاة لَيْسَ من كَلَام أبي بكر وَلَا [من كَلَام] النَّبِي ﷺ
1 / 95
هَل الْمُرَاهنَة على الْمسَائِل الَّتِي فِيهَا ظُهُور أَعْلَام الْإِسْلَام وأدلته وبراهينه مَمْنُوعَة
وَقد اخْتلف أهل الْعلم فِي إحكام هَذَا الحَدِيث ونسخه على قَوْلَيْنِ
فادعت طَائِفَة نسخه بنهي النَّبِي ﷺ عَن الْغرَر والقمار قَالُوا فَفِي الحَدِيث دلَالَة على ذَلِك وَهُوَ قَوْله وَذَلِكَ قبل تَحْرِيم الرِّهَان
قَالُوا وَيدل على نسخه مَا رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد وَأهل السّنَن من حَدِيث أبي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول الله ﷺ
لَا سبق إِلَّا فِي خف أَو حافر أَو نصل
والسبق بِفَتْح السِّين وَالْبَاء وَهُوَ الْخطر الَّذِي وَقع عَلَيْهِ الرِّهَان
1 / 96
وَإِلَى هَذَا القَوْل ذهب أَصْحَاب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَاحْمَدْ
وَادعت طَائِفَة أَنه مُحكم غير مَنْسُوخ وَأَنه لَيْسَ مَعَ مدعي نسخه حجَّة يتَعَيَّن الْمصير إِلَيْهَا
قالواوالرهان لم يحرم جملَة فَإِن النَّبِي ﷺ رَاهن فِي تسبيق الْخَيل كَمَا تقدم وَإِنَّمَا الرِّهَان على الْمحرم الرِّهَان على الْبَاطِل الَّذِي لَا مَنْفَعَة فِيهِ فِي الدّين وَأما الرِّهَان على مَا فِيهِ ظُهُور أَعْلَام الْإِسْلَام وأدلته وبراهينه كَمَا [قد] رَاهن عَلَيْهِ الصّديق فَهُوَ من أَحَق الْحق وَهُوَ أولى بِالْجَوَازِ من الرِّهَان على النضال وسباق الْخَيل وَالْإِبِل أدنى وَأثر هَذَا فِي الدّين أقوى لِأَن الدّين قَالَ بِالْحجَّةِ والبرهان وبالسيف [والسنان] والمقصد الأول إِقَامَته بِالْحجَّةِ وَالسيف منفذ
قَالُوا وَإِذا كَانَ الشَّارِع قد أَبَاحَ الرِّهَان فِي الرَّمْي والمسابقة بِالْخَيْلِ وَالْإِبِل لما فِي ذَلِك من التحريض على تعلم الفروسية وإعداد الْقُوَّة للْجِهَاد فجواز ذَلِك فِي الْمُسَابقَة والمبادرة إِلَى الْعلم وَالْحجّة الَّتِي بهَا تفتح الْقُلُوب ويعز الْإِسْلَام وَتظهر أَعْلَامه أولى وَأَحْرَى.
وَإِلَى هَذَا ذهب أَصْحَاب أبي حنيفَة وَشَيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية
قَالَ أَرْبَاب هَذَا القَوْل والقمار الْمحرم هُوَ أكل المَال بِالْبَاطِلِ
1 / 97
فَكيف يلْحق بِهِ أكله بِالْحَقِّ
قَالُوا وَالصديق لم يقامر قطّ فِي جَاهِلِيَّة وَلَا إِسْلَام وَلَا أقرّ رَسُول الله ﷺ على قمار فضلا عَن أَن يَأْذَن فِيهِ
وَهَذَا تَقْرِير قَول الْفَرِيقَيْنِ
فصل
الْمُسَابقَة بالأقدام بعوض وَبلا عوض
وَأما الْمُسَابقَة بالأقدام فاتفق الْعلمَاء على جَوَازهَا بِلَا عوض
وَاخْتلفُوا هَل يجوز بعوض على قَوْلَيْنِ
أَحدهمَا لَا يجوز وَهُوَ مَذْهَب أَحْمد وَمَالك وَنَصّ عَلَيْهِ
1 / 98
الشَّافِعِي
وَالثَّانِي يجوز وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة
وللشافعية وَجْهَان فحجة من مَنعه حَدِيث أبي هُرَيْرَة لَا سبق إِلَّا فِي خف أَو حافر أَو نصل
وَهَذَا يتَعَيَّن حمله على أحد مَعْنيين
- إِمَّا أَن يُرِيد بِهِ نفي الْجعل أَي لَا يجوز الْجعل إِلَّا فِي هَذِه الثَّلَاثَة فَيكون نفيا فِي معنى النَّهْي عَن الْجعل فِي غَيرهَا لَا عَن نفس السباق
- وَإِمَّا أَن يُرِيد بِهِ أَن لَا يجوز الْمُسَابقَة على غَيرهَا بعوض فَيكون نهيا عَن الْمُسَابقَة بِالْعِوَضِ فِي غير الثَّلَاثَة [فعلى التَّقْدِير الأول يكون الْمَنْع من الْجعل على غير الثَّلَاثَة]
وعَلى الثَّانِي يكون الْمَنْع من العقد الْمُشْتَرط فِيهِ الْجعل [على] غَيرهَا وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ فَهُوَ مُقْتَض للْمَنْع [من الْجعل] فِي غَيرهَا
قَالُوا وَلِأَن غير هَذِه الثَّلَاثَة لَا يحْتَاج إِلَيْهَا فِي الْجِهَاد كالحاجة إِلَى الثَّلَاثَة وَلَا يقوم مقَامهَا وَلَا ينفع فِيهِ نَفعهَا فَكَانَت كأنواع اللّعب الَّذِي
1 / 99
لَا يجوز الْمُرَاهنَة عَلَيْهِ
وَحجَّة من جوز الْجعل فِي ذَلِك قِيَاس الْقدَم على الْحَافِر والخف فَإِن كلا مِنْهُمَا مسابقة فَهَذَا بِنَفسِهِ وَهَذَا بمركوبه
قَالُوا وكما أَن فِي مسابقة الْإِبِل وَالْخَيْل تمرينا على الفروسية والشجاعة فَكَذَلِك الْمُسَابقَة على الْأَقْدَام فَإِن فِيهَا [من] تمرين الْبدن على الْحَرَكَة والخفة والإسراع والنشاط مَا هُوَ مَطْلُوب فِي الْجِهَاد
قَالُوا والْحَدِيث يحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ أَن أَحَق مَا بذل فِيهِ السَّبق هَذِه الثَّلَاثَة لكَمَال نَفعهَا وَعُمُوم مصلحتها فَيكون كَقَوْلِه لَا رَبًّا إِلَّا فِي النَّسِيئَة أَي إِن الرِّبَا الْكَامِل فِي النَّسِيئَة
قَالُوا وَأَيْضًا فَهَذَا مثل قَوْله لَا صَلَاة لِجَار الْمَسْجِد إِلَّا فِي الْمَسْجِد وَلَا صَلَاة بِحَضْرَة طَعَام وَلَا صَلَاة وَهُوَ يدافعه
1 / 100