قطعة نسيج من الحرير الإيراني في القرن 10ه/16م.
مقام إيران في تاريخ الفنون
قدر لبعض الشعوب أن يكون لها في تاريخ المدنية شأن خطير، وأن تكون في ميدان الفنون إماما ينسج الآخرون على منواله ويقتفون أثره، وعلى رأس تلك الشعوب الإغريق والإيرانيون وأهل الصين.
أما الإغريق فقد تركزت على يدهم الأساليب الفنية الكلاسيكية التي قامت على أسسها الفنون الغربية، وكذلك امتد نفوذ الأساليب الفنية الصينية في ربوع آسيا، ولم ينج من تأثيرها فن في تلك القارة المترامية الأطراف. بينما كانت إيران ملتقى الفنون القديمة في الشرق الأدنى، ونمت فيها أساليب فنية تأثرت بفنون بابل وأشور ومصر والهند وبلاد اليونان، وانتشرت في العصور القديمة والعصور الوسطى، وأثرت في فنون الأمم الأخرى.
وإنا - إذا استثنينا الفن الإغريقي القديم - لا نكاد نعرف أي فن آخر قدر له أن يمتد امتداد الفن الإيراني، بل إننا نستطيع أن نقول في ثقة واطمئنان إنه ليس هناك فن عظيم لم يأخذ عن الفن الإيراني شيئا من زخارفه أو أساليبه؛ فإن الفن المصري القديم والفنون الإغريقية والرومانية والبيزنطية والصينية والهندية، كلها مدينة للفن الإيراني ببعض أشكال التحف أو أساليب العمارة والزخرفة، أو أسرار الصناعات الفنية الدقيقة.
والواقع أن هذه العظمة الفنية في إيران وليدة السيادة في ميادين الحرب والسياسة والمدنية؛ فقد كان الإيرانيون والإغريق يقتسمون الحكم في العالم القديم حينا من الزمان. ولما فكر الإسكندر الأكبر في تأسيس إمبراطورية تضم بلاد الشرق الأدنى تحت لواء الإغريق، اتجه نظره إلى إيران ليتخذها مركز هذه الإمبراطورية؛ ولكنه مات قبل أن يظفر بتنفيذ مشروعه العظيم، بيد أن حروبه في الشرق الأدنى مهدت السبل لنشر الثقافة الإغريقية فيه؛ فأضحت إيران وأفغانستان حينا من الزمن ملتقى الأساليب الفنية الإيرانية والإغريقية والهندية، بل كان أثر الثقافة الإغريقية غالبا في الأجزاء الإغريقية من الهضبة الإيرانية، وهي الأقاليم التي كان يحكمها الأمراء الإغريق الذين آلت إليهم إمبراطورية الإسكندر.
واستولت على مقاليد الحكم في إيران منذ سنة 224 ميلادية دولة بني ساسان، ووحد ملوكها الشعب الإيراني، وقضوا السنين الطويلة في حروب ومناوشات مع الدولة البيزنطية في الغرب، والأقوام الرحل الذين كانوا يشنون الغارات على الحدود الإيرانية في الشرق أو الشمال. وبين الذين خلدتهم الآثار الفنية من الأباطرة الساسانيين شابور الأول الذي هزم الإمبراطور الروماني فالريان عند مدينة الرها سنة 260 ميلادية، فخلد الإيرانيون هذا النصر في نقوشهم المحفورة في الصخر - ولا سيما في نقش رستم على مقربة من مدينة برسبوليس ومدينة إصطخر الحالية - ورسموا القيصر الروماني راكعا أمام عاهلهم الجبار. كما خلدت الآثار الفنية اسم بهرام جور الذي سارت الركبان بحديث مهارته في الصيد فرسمه الفنانون الإيرانيون في مناظر الصيد المختلفة.
1
ولم تكن تلك الحروب الطويلة في العصر الساساني تمنع الشعب من العناية بالفنون الجميلة، بل كانت من أهم عوامل الاتصال بين الشعبين العظيمين في ذلك الحين: الإيرانيين والإغريق؛ فزاد التبادل الفني رغم أنف الفريقين، وتسرب إلى فنون بيزنطة كثير من الموضوعات الزخرفية الإيرانية، ولم تلبث هذه الموضوعات أن اندمجت في الفنون البيزنطية اندماجا تاما، ثم نقلتها أقاليم البحر الأبيض المتوسط التي كانت تابعة لبيزنطة في ذلك الحين. ويبدو ذلك واضحا في زخارف كثير من المنسوجات التي عثر عليها المنقبون عن الآثار في مصر العليا، كما يظهر أيضا في كثير من الزخارف التي استخدمت في العصر القبطي، ولا سيما الرسوم المحفورة في الحجر والخشب.
على أن الحروب الطويلة بين بيزنطة وإيران، فضلا عن الحالة الاجتماعية والدينية فيهما، أنهكت قواهما؛ فأصبحتا في بداية القرن السابع الميلادي عاجزتين عن صد تيار الجيوش العربية التي جمعتها وحدة الإسلام؛ فسقطت إيران، وفقدت استقلالها السياسي وأصبحت جزءا من الإمبراطورية الإسلامية التي أتيح للعرب تشييدها؛ كما فقدت بيزنطة مستعمراتها في الشرق الأدنى، ولم تنج بنفسها من جيوش المسلمين إلا بفضل البحر الذي كان يفصلها عنهم، والذي لم يكن العرب يحسنون ركوبه في فجر الإسلام.
صفحه نامشخص