لقد لحظته ذلك اليوم.
وفي البيت الثاني دلالة كبرى؛ فهو في ألفاظه وتركيبه كاللغة الدارجة على الألسن في الحديث السائر، وليست فيه محسنات الشعر وزخارفه. وكان في مقدور شاعر مثل «براوننج» أن يتأنق لك في العبارة كيف شئت، وأن يرسم لك من الصور المطرزة ما يخطف السمع والبصر، لكنه لم يرد في هذا الموضع إلا هذا القول البسيط؛ لتشم منه رائحة الحياة الجارية المألوفة بما تعهده فيها من لغو بين المحبين. إنه يريد أن يعيد إلى ذهنك حياة الحبيب مع حبيبته كل يوم، فلقد لبث العاشقان أمدا طويلا يجولان في الطرق المحيطة بالبيت، يلغو كل منهما للآخر لغوا مرحا طروبا بما يراه من ظواهر الطبيعة البهيجة من حوله؛ فلطالما لاحظا وتحدثا عن الحشرة تزحف فوق الأرض، والفراشة تنشر جناحها فتبدي ألوانه الزاهية، وجذوع الأشجار وقد حزت فيها علامات وإشارات، وأوراق الأشجار وقد بدت إحداها في وضع رشيق ... تلك كانت أحاديث اليوم بين الحبيبين. وفي مثل هذه الحياة يكون اليوم الذي تسقط فيه أول قطرات الثلج في الشتاء يوما مشهودا له عند الحبيبين علامته التي تميزه، وربما ظلا يرقبانه أمدا بعيدا وقد ملأهما المرح والفرح والنشاط، فإذا ما قدم احتفلا به، في إقبال طروب على الحياة. هكذا كانت حياة الحبيبين معا؛ دورة متجددة تسري فيها عاطفة يخف لها قلباهما. فلما سمع صاحبنا مناغاة العصفور عند المساء، انطلق خياله إلى مظهر آخر في الطبيعة لحظة ذاك النهار، وربما احتفظ به في واعيته ليكون موضوع السمر بينه وبين حبيبته، بل ربما كانت تلك البراعم الزاغبة على أوراق الكرم ظاهرة أخذا يرقبانها معا ليبتهجا بها عند أول ظهورها، فطبيعي أن ترد على خاطر الرجل حلقة أولى في سلسلة الخواطر التي أثارها تغريد العصفور. هكذا ترى الرجل غير مدفوع بتدبير من العقل الواعي، بل يفيض عنه التعبير فيضا وينبثق انبثاقا، كما يتفجر الينبوع بالماء والشمس بالضياء، فيصور لنا نفسه على سجيتها في تعبيره البسيط الذي جاء على نفس الصورة التي كان سيحدث بها حبيبته عن براعم الأوراق في كرمة العنب. فأما وقد طفت براعم أوراق الكرم من اللاشعور الدفين إلى الشعور الواعي - فوردت في القصيدة - فكيف تراه يتأثر بها؟ لقد أحدث تغريد العصفور في نفسه إحساسا باستمرار الحياة واتصال الوجود، فماذا عسى أن تحدث هذه الصورة الجديدة في نفسه؟ لقد أحدثت فيه أثرا قويا ناصعا، لا بمجرد استمرار الحياة كما فعل العصفور، بل بناموس طبيعي آخر يدفع الكائنات الطبيعية كلها دفعا نحو حياة أكمل خلقا وأتم نضجا. فكيف لرجل تتردد في خاطره هذه الأحاسيس أن يفهم أو يسيغ ما قالته له الحبيبة وما استهل به القصيدة «إن كل شيء قد انتهى»؟ إنه في هذه اللحظة المعينة، وفي هذا الموقف المعين، يستحيل عليه أن يصدق ذلك عن عقيدة وإيمان، فيمضي قائلا:
وإذن فسوف نلتقي غدا كما كنا نلتقي يا حبيبة الفؤاد!
لقد حملته مشاعره إلى عالم آخر لا يعرف اتصاله انقطاعا، فتراه قد نسي الآن نسيانا تاما أن «كل شيء قد انتهى» بينه وبين حبيبته، وأخذ يتوقع أن يتم اللقاء بينه وبين حبيبته غدا كما كان يتم كل يوم، ولكنه لم يكد يخرج هذا الأمل الذي يجري به خاطره عن غير وعي، لم يكد يخرجه في ألفاظ فيعيه عقله الذاكر اليقظان حتى أيقن من فوره أن اللقاء لن يكون غدا كما كان، ومع ذلك فهو لا ييأس كل اليأس، ويستخرج من الموقف كل ما في مستطاعه ليشبع عاطفته. فلئن استحال أن يكون اللقاء غدا كما كان كل يوم، فلا ينفي ذلك أن يتم ذلك اللقاء على أي وجه من الوجوه:
هل لي أن أضع يدك في يدي؟
صديقين ولا شيء غير صديقين؛ ففي الصداقة العابرة
كثير مما نفضت عنه رجائي.
فقد استدرك ها هنا أنهما إذا التقيا غدا فلن يكونا حبيبين، ولكنها لا شك ستأذن له أن يضع يدها في يده. وهل تحرمه لذة تهبها أصدقاءها العابرين؟ فبعد أن يهدهد عاطفته على هذا النحو، ويبعث فيها الطمأنينة بالآمال الكاذبة، يفيق من غفوته ويواجه الموقف كما هو، فيتبين له في جلاء فقد الحبيبة إلى الأبد، فليس في غد لقاء بين الحبيبين ولا بين الصديقين، فتحتد فيه العاطفة وتشتد حتى تنقلب انفعالا مضطرما محتدما، ويبدأ الجزء التالي من القصيدة بنبرات أقوى:
فكل لمحة من عين بهذا البريق وهذا السواد
سأحفظها في النفس والقلب جاهد
صفحه نامشخص