لقد زعمنا في بداية حديثنا عن الأسلوب أنه يتألف من ثلاثة عناصر أساسية؛ الألفاظ التي يستخدمها الشاعر أو الكاتب، وتركيب هذه الألفاظ في جمل، ثم طريقة السير في موضوع الحديث. وقد فرغنا فيما سلف من البحث في الألفاظ وقيمتها في أداء المعنى، وفرغنا كذلك من البحث في وجه واحد من وجوه تركيب الألفاظ، وأعني به تنسيقها بحيث يكون لوقع أنغامها في الأذن أثر وتعبير. وكان لا بد لنا أن نتناول سائر وجوه التأليف بين الألفاظ في ضروب العبارة المختلفة، ولكن ذلك سيدخل بنا في دقائق البيان والبديع، فلنا أن نتجاوز عنها لنفسح لأنفسنا بعض المجال لبحث العنصر الشعري الثالث في إيجاز، وأعني به طريقة السير في موضوع الحديث. فكيف يعالج الأديب مادته؟
لقد أسلفنا لك فيما مضى كيف يستغل الأديب - والشاعر بصفة خاصة - ما للألفاظ من قوة تعبيرية، بحيث يؤدي بها فضلا عن معانيها العقلية كل ما تحمل في أحشائها من صور مدخرة ومشاعر كامنة لفت نفسها لفا حول ذلك المعنى العقلي. وقلنا إن الألفاظ كالقماقم أغلقت سداداتها على شحنة من تجارب لا حصر لها، اختزنها فيها الإنسان على كر العصور، والشاعر البارع هو الذي يعلم كيف يزيل عن تلك القماقم سداداتها ليفرغ المكنون المدخر فيها. وهذا بعينه هو طريقته في معالجة موضوعه؛ فهو لا يعنيه أن يعرض موضوعه عرضا عقليا، بل يحاول أن يبرز كل ما يحتويه الموضوع من سائر العناصر التي هي قوامه وجوهره. خذ هذين البيتين لمردث:
لا بد لي أن أهوي واجفا
على هذا الصدر الذي يحمل الوردة؟
ويريد بهما الشاعر أن الملحد - الذي يكفر بخلود الروح بعد موت الجسد - لا ينبغي له أن ييأس ما دام مصيره هذه الأرض التي تحمل الورد فوق صدرها، لكن الشاعر لا يقنعه أن يسوق معناه هذا مستقيما واضحا كما عبرنا عنه في النثر؛ لأن المعنى العقلي وحده لا يكفيه ، إنما يريد أن يضيف إليه ألوان المشاعر والعواطف التي ليست من المعنى العقلي في شيء وإن تكن مرتبطة به. «فالصدر الذي يحمل الوردة» هو الأرض، ولكن هل هو الأرض التي تتألف من الكربون والنتروجين وما إلى ذلك من عناصر التربة والصخور؟ كلا، بل إنه ليرى في هذه الأرض أما رءوما تنسل من جوفها الورد الجميل، ويخلع على الأرض عاطفة الأمومة نحو نسلها هذا الجميل، فكل هذه الخواطر تتداعى إلى الذهن حين يقرأ عن الأرض أنها «الصدر الذي يحمل الوردة»، وهو وصف بعيد عن الدقة العقلية كل البعد، فليس الورد أطفالا، وليست الأرض صدرا حنونا يضم إليه هؤلاء الأطفال، ولكن هذا الانحراف نفسه عن الدقة العقلية هو قيمة الصورة التي رسمها الشاعر باستعارته؛ فالمماثلة بين الأرض والورد من ناحية، والأم وأطفالها من ناحية أخرى تشبيه حقيقي صادق، لكنه يخفى عن العين حتى يكشف عنه الشاعر بمثل هذه الصورة التي يرسمها، فكلنا يستطيع أن يرى الوردة نباتا تنتجه الأرض، والشاعر وحده هو الذي يرى الوردة طفلا تلده الأرض. فالشعراء بما يرسمون من صور كهذه يخلعون على الأشياء صفات ليست لها في حكم العقل، لكنها في حقيقة الأمر ترمز لروحها الحق وجوهرها الصحيح. هذه الصور هي إحدى الوسائل الشعورية التي يستخدمها الشعراء في التعبير عما يريدون.
وبديهي أن تحكم للشاعر بالجودة في صوره هذه التي يكونها ليعبر بها عن معانيه بما لها من قوة التأثير والتعبير، فقد تكون الصورة ممتعة في ذاتها مزخرفة مزركشة، لكنها لا تضيف جديدا إلى معاني القصيدة، بل قد تضعف تلك المعاني. ونعود مرة أخرى إلى هذين البيتين اللذين يصف بهما الشاعر السحاب في يوم عاصف، فنتخذهما مثالا موضحا:
تسربل وشيا من حرير تطرزت
مطارفها لمعا من البرق كالتبر
فوشي بلا رقم ونقش بلا يد
ودمع بلا عين وضحك بلا ثغر
صفحه نامشخص