وعدا هذا يشاهد في المظالم الكبرى أن الأمور التي تبتلي الصبر تحد الشجاعة والجرأة في الوقت نفسه، وليس الأمر في الخوف والتوجس كذلك.
ولا يخطرن للملوك أن يأمنوا الاستياء؛ لأنه تكرر أحيانا وطال في أحيان أخرى دون أن تنجم عنه الفتنة، فإنه لصحيح ولا ريب أن الزوبعة لا تأتي من كل دخان أو بخار ، ولكنه صحيح كذلك ولا ريب أن الزوبعة تأتي في النهاية وإن تبدد الدخان حينا بعد حين، وصدق الأسبان إذ يقولون في أمثالهم: «إن الحبل ينقطع أخيرا بأضعف شدة!»
أما أسباب الفتن وبواعثها فهي البدع في الدين والضرائب، وتبديل الشرائع والعادات، وانتهاك الحقوق وحرمات الامتيازات، والظلم الشامل، والوفيات، وتسريح الجيوش واستيئاس الطوائف والأحزاب، وكل ما كان من شأنه الإساءة إلى الناس أن يجمعهم ويقرب بينهم في قضية عامة.
ولعلاج الفتن أصول عامة يمكن الكلام فيها، أما الشفاء الحق فلا مناص من الرجوع فيه إلى المرض الخاص، الذي يحسن تركه للبحث والمشورة، ولا توضع له الأصول والقواعد العامة.
وأول علاج أو وقاية هو أن تزال بجميع الوسائل الميسورة مادة الفتنة، وهي الضنك والفاقة، ويعتمد في ذلك على حسن الموازنة في التجارة وإحياء الصناعة، ومحاربة الكسل والبطالة، ومنع التبديد والإسراف بالقوانين الحازمة، وتحسين التربة الزراعية واستصلاحها، وتنظيم أسعار السلع المتداولة، والاعتدال في الضرائب والإتاوات وما إليها.
وتجب الحيطة أولا لعدد السكان في المملكة - وبخاصة تلك الممالك التي لم تستنفدها الحروب - لكيلا يتجاوز طاقة الإنتاج في البلد الذي يحتويهم، وليس المعول في ذلك على إحصاء العدد وحده؛ لأن العدد القليل الذي ينفق الكثير قد يستنفد الموارد قبل العدد الكثير الذي ينفق القليل، وازدياد النبلاء وذوي المكانة على القدر الملائم للعامة وسواد الشعب وشيك أن يصيب الدولة بالفاقة، ويقال مثل ذلك في زيادة الكهان ورجال الدين الذين لا يضيفون إلى إنتاج الأمة، وعلى هذا النحو زيادة المشتغلين بالعلم والدراسة على القدر الصالح للمنفعة.
ولا يغب عن الذاكرة أيضا أن الزيادة في ثروة بلد إنما تؤخذ من الأجنبي عنه، ولا توجد مع هذا إلا ثلاثة أصناف تباع بين أمة وأخرى، وهي الثمرات كما تخرجها الطبيعة والمصنوعات وجهد العمل والتوصيل، فإذا انتظمت هذه الموارد فاضت الثروة كما يفيض الجدول من الينبوع، ولا يندر أن يكون جهد العمل وتوصيله مربيا في القيمة على المادة نفسها وأجلب منها لغنى الدولة، كما يشاهد في الأمة الهولندية التي لها من المناجم فوق الأرض ما لا نظير له في الأرض كلها.
والسياسة الحسنة مقدمة في هذا الصدد على كل شيء، فلا يصح أن تجمع ثروات الدولة وأموالها في أيد قليلة، فيتفق في هذه الحالة أن تجوع الأمة ولديها الوفرة من الزاد، ومن صفة المال أنه كالسماد أصلج ما يكون إذا انتشر، وسبيل الوصول إلى ذلك أن تبسط يد الرقابة على الربا الفاحش والضياع الواسعة، التي تحول من الزرع إلى المرعى، وما جرى مجراها.
وإزالة أسباب السخط يرجع فيها إلى عاملين في كل دولة، وهما العلية وسواد الناس.
فحيثما يكون السخط مقصورا على فريق منهما دون فريق فالخطر غير عظيم؛ لأن سواد الناس بطيئون إلى الحركة ما لم يستنفرهم العلية؛ ولأن العلية قليلون لا يستقلون بحركة، اللهم إلا أن يكون سواد الناس على استعداد للحركة بغير تحريض من غيرهم، فهنالك الخطر الذي لا يملك فيه العلية إلا أن يتربصوا حتى تتدفق الأمواج الثائرة، ثم يتجهوا بعد ذلك وجهتهم.
صفحه نامشخص