وأكثر من ذلك أن ترى الملحدين يسعون في جمع المريدين حولهم، كما ينبغي للطوائف المؤمنة، وأكثر من هذا وذاك أنهم يحتملون التضحية في سبيل الإلحاد ولا ينكصون عنه. فما بالهم يشقون أنفسهم إن كانوا يحسبون حقا أن لا إله؟
ويعزى إلى أبيقور أنه كان يتوخى المصانعة بما لا يعيبه حين قرر ما قرر عن الطبائع المباركة، التي تستوفي متعتها دون التفات إلى حكومة العالم العليا، ويزعمون أنه كان يداور ويراوغ وهو في سريرته لا يؤمن بوجود الله، ولكنه على التحقيق مظلوم فيما اتهم به؛ لأن كلماته نبيلة قدسية إذ يقول: «ليس من الرجس أن تنكر أرباب العامة، وإنما الرجس أن تعزو أقوال العامة إلى الأرباب.»
فلو كان أفلاطون قائل هذه الكلمات لما زاد، وإنه وإن بلغت به الثقة أنه ينكر التدبير لم تبلغ به القوة أن ينكر الطبيعة.
وقد اتخذ أقوام كهنود أمريكا الأسماء لأربابهم الخاصة، وإن لم يتخذوا اسما واحدا لله. فهم على ديدن الوثنيين الأقدمين، حيث كانوا يدعون من أربابهم جوبيتر وأبولو ومارس، ولا يدعون اسم الله الأعظم، ويؤخذ من ذلك أنه حتى القبائل البربرية تدرك الفكرة وإن لم تصل إلى متسع آفاقها، فكأنما اجتمع على إدحاض الملحدين أعرق الناس في الهمجية وأقدر الفلاسفة على الفهم والنفاذ إلى الحقيقة.
وإن الملحدين المفكرين لقليلون، تلقى منهم دياجوراس وبيون ولوسيان وواحدا هنا أو هناك، ولكنهم مبالغ في أمرهم ... إذ كان الناس يحسبون كل من ينكر ربا خاصا أو عقيدة خاصة من الملحدين.
أما كبار الملحدين فمنافقون لا يزالون يمسون القدسيات بغير شعور، حتى ينتهي بهم الأمر إلى فساد الضمير.
ومن دواعي الإلحاد كثرة الشيع في الأديان، فإن شيعة من الشيع الكبيرة عسية أن تلهب حماسة العقيدة في قلوب الشيعة الأخرى. أما الشيع الكثيرة فمجلبة للشك والإلحاد.
ومن دواعيه فضائح رجال الدين، حين يبلغ من سوء حالهم أن يقال فيهم كما قال القديس برنارد: «كانوا في القديم يقولون: كيفما يكون الشعب يكون قسيسوهم. أما اليوم فليس هذا مما يقال لأن الشعب خير من القسيسين.»
وداع ثالث للإلحاد تعود بعض الناس ألا يتورعوا عن التهزئة بالشعائر المقدسة، فلا يزال ذلك دأبا لهم حتى يعصف في نفوسهم بهيبة الدين.
وإذا شاع التعلم - ولا سيما في أيام الرغد والرخاء - فذلك داع آخر من دواعي الإلحاد؛ لأن أيام العسر والمحنة تلوذ بعقول الناس إلى حظيرة الدين.
صفحه نامشخص