Foundations of Islamic Education and Its Methods in Home, School, and Society
أصول التربية الإسلامية وأساليبها في البيت والمدرسة والمجتمع
ناشر
دار الفكر
شماره نسخه
الخامسة والعشرون ١٤٢٨هـ
سال انتشار
٢٠٠٧م
ژانرها
مقدمة
...
تقديم: الكتابإلى الطفولة الضائعة في هذا العصر
قد يتساءل القارئ لماذا اختار المؤلف هذا العنوان لتقديم كتابه، مع أن المشهور عن القرن العشرين أنه عصر النور والعلم، وأن العلوم الإنسانية ومن بينها التربية، قد نالت حظا وافرا من اهتمام العلماء، وفلاسفة التربية!!
بيد أن الضياع كثيرا ما ينشأ عن المبالغة في الحرص، وهذا ما حصل بالفعل، فلقد أدت مبالغة معظم فلاسفة التربية الحديثة ومؤسسيها، في العناية بالطفولة، إلى استطالتها، كمرحلة من مراحل تطور الإنسان، فمكث الناشئ وراء حدودها ردحا من الزمن لا يتجاوزها، وقد فقد الدوافع التي كانت تحفزه للتشوق إلى المستقبل، وتجعله يعتز بمعاني الرجولة والقوة، تلك المعاني الكامنة في نفس كل طفل، والتي أقام عليها العالم النفسي آدلر مدرسة نفسية، أو فرعا من فروع علم النفس سمي "علم النفس الفردي"، أرجع فيه كل النشاط النفسي إلى هذه النزعة: "نزعة القوة والتغلب على الصعوبات ... ".
ولكن يبدو أن "ظاهر الإباحة والتدليل" هي من أهم النتائج التي أسفرت عنها مبالغة "التربية الحديثة" في رعاية الطفولة، وقد برزت هذه الظاهرة في أمريكا بشكل واضح حيث وصفها الباحث النفسي الأمريكي "بنجامين سبوك"١، حين قال: "أعرف سيدة تدير محلا لبيع ملابس الأطفال، أخبرتني عن موقف يحدث مرارا وتكرارا في عملها، ثمة أم تحضر إلى المتجر تصحب طفلها البالغ من العمر ثلاث سنوات أو أربعا، فإذا أعجبها طراز السراويل الموجودة توجهت إلى ابنها بالسؤال: شارلي: أفلا تظن أنك تحتاج إلى سراويل جديدة؟
فإذا آثر الصبي أن يقول: "كلا"، فإنها تبدأ خطوة في العمل على إقناعه بأنه
_________
١ في كتاب مشكلات الآباء والأمهات ص٤١٧-٤١٨ ترجمة الدكتور محمد علي العريان.
1 / 9
يحتاج حقا إلى سراويل جديدة، فإذا وافق فإنها تسأله: أتحب هذه؟ وهي لا بد أن تحول إقناعه بأنه يفضلها؛ لأنه هذا هو النوع الوحيد الموجود".
ويعلق الطبيب النفسي بنجامين سيوك على هذا بقوله:
"إنه مما يحير الطفل الصغير أن نعرض عليه حشدا من الاختبارات التي لا تخدم أي غرض نافع، ويقينا فإنه مما يأتي بعكس المقصود، أن نشجعه على الاختيار من أبدال إذا كنا نجحده نصفها".
ويتساءل د. سبوك عن السبب: أهو قناعة تربوية؟ ثم يقرر بأنه: "عادة من عادات الذهول "اللاشعور"، وقعت الأم في أسرها"، ويقول: "ولكن وراء العادة في كثير من الحالات، يمكن في قرارة نفس الأم خوف غامض يساورها بأنها تخشى أن تفرض إرادتها عليه "أي على طفلها" فرضا قويا، ولعلها، إذا سئلت فإنها ربما تقول: إنها لا تريد أن تكتم شخصيته وتخمد ذاتيته، وأنها لا تريد أن تجعله ينفر من سلطتها، ويستاء منها".
ونحن نلمح في ثنايا هذا الكلام خوف الأم الأمريكية من مخالفة الآراء التربوية التي أصبحت عواطف لا شعورية تكمن في قرارة نفسها، ولكن نتائج هذا الوازع التربوي، "الذي أصبح خوفا لا شعوريا"، كانت وخيمة على الجيل الأمريكي، يدلنا على ذل قول بنجامين سبوك: "وعندي أن هذا التردد والتذبذب في تربية الأطفال، وهذه المراعاة الوجلة القلقة لرغباتهم ونزواتهم، تعتبر إحدى النواحي لما يشار إليه عادة بـ"ظاهرة التدليل أو الإباحة"، وهي غالبا ما
تواكب النزعة إلى السماح للأطفال بأن يكونوا غير مهذبين، وعصاة لآبائهم
وأمهاتهم، أو نائحين شارقين بالدمع لأقل إثارة، أو مهملين فيما يخصم من أشياء، أو فيما يمتلكه الغير أو شديدي الهياج والعدوان، والإثارة في لعبهم ولهوهم".
ولنقف عند هذا الحد مما نقله لنا عالم متزن من علماء النفس الأمريكيين، ولنربط بين هذه الظواهر التربوية، وبين ما نتج عنها بما نسمعه من جرائم الأحداث
1 / 10
وتعاطيهم المخدرات، ومن تدخين جماعي في معسكرات الأطفال، في بعض دول أوروبا، ومقاطعات أمريكا، ومن جرائم جنسية يندى لها الجبين.
ولنسأل أنفسنا أي ضياع للأطفال، والطفولة يفوق هذا الضياع؟.. اللهم إلا أن يكون ضياع الأطفال غير الشرعيين، وهو بلاء آخر من ثمرات هذا العصر، فقد بلغ عدد هؤلاء في أوائل الخمسينات نصف مليون في إنكلترا وحدها، نصف مليون من الناقمين على الحياة، وعلى المجتمع الذي تركهم قلقين تائهين، لا يعرفون لهم أصلا، ولا انتماء ولا أهلًا.
فأين يجد هؤلاء العطف والتقدير، وكيف نطلب منهم الجود بعطف حرموه في طفولتهم، أو إبداء خلق لم تقدمه لهم تربية الملاجئ ودور الأيتام، أو صدقات المحسنين، ومن ضياع الطفولة عامة يبدو لضياع الإناث من الأطفال أهمية خاصة: فهنا تفقد الطفلة أنوثتها المستقبلية، فيضيع انضباط العلاقات الجنسية، فضلا عن تكليفها فوق طاقتها، ووضعها في مواضع منافية لفطرتها، وبالنتيجة بنهار بناء الأسرة بانهيار ربتها، وحرمان الأبناء من حسن تربية الأمهات.
ذلك أن التربية الحديثة لم تحترم أنوثة المرأة، وما هيأتها إلا كما هيأت الرجل تماما، للمعامل والوظائف، والخدمات العامة، مع إغرائها بمنافسة الرجل في كل الميادين، وجميع ظروف الحياة.
وكانت النتيجة لهذه التربيسة المنحرفة، ولقيام المرأة بأعمال الرجل، ومخالطته في كل عمل، من غير ضابط لمشاعر الجنس، ولا وازع يمنع من ابتذالها، أن ابتذلت المرأة واختفت أنوثتها، وخشن جسدها وغلظ صوتها، وفقدت رقتها المعنوية، فلم يعد الرجل يجد في المرأة ما يشده إليها مع ما يعاني من دوافع غريزي يدعوه إلى إرضائه بأي شكل، وهكذا أراد مخططو انهيار البشرية، وهكذا أطاعت المرأة، واندفعت متعامية وراء الهوى، وهكذا اشترك الجميع في مؤامرة تخريب الجنس البشري، والعلاقات الاجتماعية.
1 / 11
"ولك الآن يا أخي القاريء أن تعلل سر ظهور اللواط في بعض المجتمعات الأوروبية كالمجتمع الإنجليزي الذي أضاعت في المرأة أنوثتها، ففقدت بذلك قيمتها كمطلب سام، فاستغنى الرجال عنها بالرجال، وظهر الانحراف الجنسي وتفشى، وضاع المجتمع البريطاني، المجتمع الذي سيطر على بحار الدنيا في يوم من الأيام، لتصبح بريطانيا من الدرجة الثانية، ومن يدري فقد تصبح من الدرجة الثالثة، ثم الرابعة١.
كذلك من شأن هذه التربية المنحرفة، أعني إعداد الطفلة للاشتغال بأعمال الرجال، وإغراءها بذلك حتى يصبح مثلها الأعلى، أن يقلل عدد النساء المتصفات بالأنوثة الحقة، ويبرز دور الغانيات والمومسات في ملء الفراغ الحادث، ويزيد الطلب عليهم من الرجال حتى يرفعهن المجتمع لمرتبة القديسات، في الوقت الذي تضيع فيه القيمة الحقيقية للمرأة عموما، وهو ما أكد التاريخ حدوثه عند بداية انحدار اليونانيين من قمة حضارتهم، وذلك بعد تحرير المرأة بشكل يشبه دعوة هذا العصر، فانحلت الأسرة، وانطلق الشيطان سعيدا إذا عبد الناس شهواتهم، وانتصرت الغريزة، والدعارة على حسابها.
ولو حاولنا أن نستمر في تعداد مظاهر "الطفولة الضائعة"، وتوقع ما سيترتب عليها في هذا العصر لاحتجنا إلى مجلدات.. ولكن يكفي هذه الأمثلة أن ندرك أن هذه النظم التربوية لم تكن لتؤدي إلى خير الإنسانية وفلاحها، ما دامت قد بنيت على أسس فكرية، وعقائدية زائفة لا تنسجم مع الفطرة السليمة، ولا مع التفكير المنطقي الصحيح، ولما كانت تلك النظم قد انتشرت في عالمنا الإسلامي، وتمكنت من نفوس الشباب والمربين، وعقولهم وأخذت ثمراتها المرة تظهر لنا في الجيل الناشئ الذي فقد القوة والثقة بنفسه، ومال للانحدار والضياع الكاملين، فقد شعر الغيورون على مصلحة هذه الأمة بضرورة وضع منهج موضوعي حي، وفعال للتربية الإسلامية الحقة، عسى أن يرأب الصدع، ويسد الفراغ الذي يحسه الشباب المسلم في دوامة
_________
١ د. عمارة نجيب: مكانة المرأة في الإسلام، عدد غرة ذي الحجة ١٣٩٧، من مجلة الدعوة المصرية.
1 / 12
المدارس التربوية المختلفة، إذ لا يجد نفسه ولا عقيدته فيها، ويضعف تماسك شخصيته الإسلامية، وهو يدور في فلكها، وليعلم شبابنا الذين ذاقوا وبال التربية الحديثة، وما زالوا متعلقين ببهرجها، ومنهم من يتعبد في محرابها "كحالهم في كل ما هو مستورد أجنبي الوجه، واليد واللسان" ليعلم كل هؤلاء أن دونهم والنبع ضربة معول، وأن في ديننا الإسلامي، "لو يعلمون"، أسسا وأصولا لخير مدرسة تربوية عرفتها البشرية أو ستعرفها.
وبعد، فإنني أشكر الله أولًا: أن أتاح لي تدريس هذه المادة: "أصول التربية الإسلامية" في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض كما أشكر العاملين بإخلاص في هذه الجامعة، والذين كان لتقديرهم لأهمية هذه المادة، وإقرارهم بضرورة تدريسها أثر طيب.
وأخص بالشكر أخي في الله الأستاذ "عبد الرحمن الباني" الذي ساهم بهذا المجهود المتواضع بما قدمه لي من معلومات قيمة، ومراجع مفيدة ساعدت على إخراج هذا الكتاب بإذن الله، محققا روح المنهج المذكور وأهدافه.
وقد ضمنته موضوعات ضافية وشروحا وافية، فلم أتقيد حرفيا بمنهج معين، بل جعلته كتابا علميا يحقق هدفه الذي يوحي به اسمه وعنوانه، ويؤدي إلى الأخذ بيد المربين للنهوض بهذا الجيل، وليستعد مجد أمته، وذلك بتحقيق منهج التربية الإسلامية في أنفسهم ومجتمعهم.
ولقد عقدت مقارانات مفيدة بين بعض خصائص التربية الإسلامية، أو أهدافها أو أساليبه، ا
وبين ما اتخذته التربية الغربية من أهداف، أو اتسمت به من خصائص، وأساليب ليكون شبابنا الجامعي، ومربو أجيالنا على بينة من حقيقة التربية الإسلامية وميزاتها، واطلاع مبدئي على ما يحيط بهم في العالم من نظر وأساليب تربوية، قد أخذت بتلابيب معظم الطلاب، والأساتذة والباحثين في التربية، فاستولت مفاهيمها
1 / 13
على مداركهم، حتى ظنهوا أن أي أسلوب، أو نظام تربوي يجب أن يصدر من قريب، أو بعيد عن تلك النظم، والأساليب الغربية.
ولعله ليس بعيدا عنا ذلك اليوم الذي ستغدو فيه التربية الإسلامية منقذة للطفولة الضائعة، والبشرية المتردية إن شاء الله، وهذا الكتاب إن هو إلا غرسة قد لا نجد الآن ثمارها عاجلا، وإن كنا متأكدين من أنها سوف: ﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾ [إبراهيم: ١٤/ ٢٥]، فهي فرع من الشجرة الطيبة التي وصفها الله تعالى: ﴿أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء﴾ [إبراهيم: ١٤/ ٢٤] .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المؤلف.
1 / 14
المحتوى:
الصفحة الموضوع
٥٥ أولا: أثر الشريعة في تربية الفكر
٥٨ ثانيا: أثر الشريعة في تربية الخلق
٦٠ ثالثا: الضروريات الخمس
٦٥ رابعا: العقيدة الإسلامية وأثرها التربوي
٦٧ أركان الإيمان
٨٨ الفصل الرابع: غاية التربية الإسلامية وأهدافها
٨٨ أولا: معنى الهدف
٨٩ ثانيا: أهمية تعيين الهدف وتحديده
٨٩ ثالثا: هدف التربية الإسلامية
١٠١ رابعا: التربية الإسلامية والمواطنة الصالحة
١٠٢ خامسا: التربية الإسلامية، وهدف كسب الرزق
١٠٣ سادسا: مميزات هدف التربية الإسلامية
١٠٥ سابعا: أهمية التربية الدينية في تحقيق هدف التربية الإسلامية
١٠٨ الفصل الخامس: وسائط التربية الإسلامية
١٠٨ أولا: المسجد وأثره التربوي
١٠٨ ١- تمهيد في وظائف المسجد
١٠٩ ٢- الوظيفة التربوية للمسجد
١٠٩ ٣- الوظيفة الاجتماعية للمسجد
١٠٩ ٤- أثر المسجد التربوي، والاجتماعي في حياة الأمة
١١١ ثانيا: الأسرة المسلمة ومهمتها التربوية
١١١ ١- إقامة حدود الله
١١١ - الأثر التربوي لتحقيق هذا الهدف
1 / 5
الصفحة الموضوع
٥٥ أولا: أثر الشريعة في تربية الفكر
٥٨ ثانيا: أثر الشريعة في تربية الخلق
٦٠ ثالثا: الضروريات الخمس
٦٥ رابعا: العقيدة الإسلامية وأثرها التربوي
٦٧ أركان الإيمان
٨٨ الفصل الرابع: غاية التربية الإسلامية وأهدافها
٨٨ أولا: معنى الهدف
٨٩ ثانيا: أهمية تعيين الهدف وتحديده
٨٩ ثالثا: هدف التربية الإسلامية
١٠١ رابعا: التربية الإسلامية والمواطنة الصالحة
١٠٢ خامسا: التربية الإسلامية، وهدف كسب الرزق
١٠٣ سادسا: مميزات هدف التربية الإسلامية
١٠٥ سابعا: أهمية التربية الدينية في تحقيق هدف التربية الإسلامية
١٠٨ الفصل الخامس: وسائط التربية الإسلامية
١٠٨ أولا: المسجد وأثره التربوي
١٠٨ ١- تمهيد في وظائف المسجد
١٠٩ ٢- الوظيفة التربوية للمسجد
١٠٩ ٣- الوظيفة الاجتماعية للمسجد
١٠٩ ٤- أثر المسجد التربوي، والاجتماعي في حياة الأمة
١١١ ثانيا: الأسرة المسلمة ومهمتها التربوية
١١١ ١- إقامة حدود الله
١١١ ٢- الأثر التربوي لتحقيق هذا الهدف
1 / 6
الصفحة الموضوع
١١٢ ٣- تحقيق السكون النفسي والطمأنينة
١١٢ ٤- تحقيق أمر رسول الله ﷺ بإنجاب النسل المؤمن الصالح
١١٢ ٥- إرواء الحاجة إلى المحبة عند الأطفال
١١٤ ٦- صون فطرة الطفل عن الزلل والانحراف
١١٦ ثالثا: المدرسة في التربية الإسلامية
١١٦ ١- تمهيد في أهمية المدرسة ونشأتها
١١٨ ٢- المدرسة في عصر الرسول ﷺ
١١٩ ٣- المدارس في العصر العباسي المتأخر
١٢٠ ٤- المدرسة المعاصرة
١٢٢ ٥- وظائف المدرسة الحديثة:
١٢٢ أ- وظيفة التبسيط والتلخيص
١٢٤ ب- وظيفة التصفية والتطهير
١٢٥ ج- توسيع آفاق الناشئ، وزيادة خبراته بنقل التراث
١٢٩ د- وظيفة الصهر والتوحيد، وإيجاد التجانس، والتأليف بين الناشئين
١٣١ هـ- وظيفة تنسيق الجهود التربوية المختلفة وتصحيحها
١٣١ والتكميل لمهمة المنزل التربوية
١٣٩ رابعا: المربي المسلم
١٣٩ ١- حول أهمية المربي
١٤٠ ٢- صفات المربي المسلم وشروطه
١٤٤ خامسا: المجتمع ومسئوليته التربوية
١٥٠ سادسا: النشاط المدرسي والتربية الإسلامية
١٥٦ سابعا: المنهج التربوي الإسلامي وخصائصه
1 / 7
الصفحة الموضوع
١٦٦ الفصل السادس: أساليب التربية الإسلامية
١٦٧ أولا: التربية بالحوار القرآني والنبوي
١٦٨ ١- الحوار الخطابي أو التعبدي
١٧٧ ٢- الحوار الوصفي وآثاره التربوية
١٧٩ ٣- الحوار القصصي: تعريفه وأمثلته
١٨١ ٤- الحوار الجدلي لإثبات الحجة
١٨٤ ٥- الحوار النبوي
١٨٨ ثانيا: التربية بالقصص القرآني والنبوي
١٨٩ ١- الميزات التربوية للقصص القرآني والنبوي
١٩٠ ٢- القصص النبوي مميزاته، وأغراضه وأنواعه
١٩٨ ثالثا: التربية بضرب الأمثال
٢٠٥ رابعا: التربية بالقدوة
٢١١ خامسا: التربية بالممارسة والعمل
٢١٩ سادسا: التربية بالعبرة والموعظة
٢١٩ ١- التربية بالعبرة
٢٢٦ ٢- التربية بالموعظة
٢٣٠ سابعا: التربية بالترغيب والترهيب
1 / 8
الفصل الأول: الإسلام والتربية
أولا- التربية الإسلامية هي العلاج:
تعاني الإنسانية اليوم من ضياع الطفولة: إما بسبب المبالغة في الإباحة والتدليل، وانعدام الضوابط في معاملة الأطفال، وأما بسبب الإفراط في الشهوات وانعدام ضوابط الغرائز، انعداما أضاع ملايين الأطفال غير الشرعيين، وإما بسبب الإفراط في ابتذال المرأة إفراطا جعلها تخالط الرجال في كل شيء، فتفقد أنوثتها ومكانتها الأولى في تربية الأطفال، ومن كل ذلك نشأ تفكك بنيان الأسرة، وضاعت الطفولة، كما ضاعت الأنوثة والرجولة جميعا، وأصبحت الإنسانية تعيش في بؤس وتيه وشقاء.
وكان للتربية الغربية الحديثة نصيب لا يستهان به من المسئولية عن هذا الضياع والبؤس والشقاء، لذلك لا يجد العاقل بدا من البحث عن بديل لها.
والإسلام يقدم لنا منهجا تربويا متكاملا، سنستقرئه من منابعه إلى أسسه، إلى أساليبه ووسائله، وقضاياه التي يطرحها على الإنسانية، إلى تاريخه وأراء أعلام المربين في إطاره؛ وسنعرض ذلك إن شاء الله عرضا علميا موضوعيا، مؤيدا بالبراهين والوقائع، راجين أن تجد الإنسانية في ذلك علاجا شافيا لمشكلاتها، وأن تكون الحكومات، والشعوب العربية والإسلامية هي السباقة للأخذ بهذا العلاج، لتقدم لنفسها أسباب النصر، والعزة والسعادة، وللإنسانية برهانا تربويا ناصعا، يدلها على طريق الخلاص، والله نسأل أن ينفع بهذه الدراسة.
ولكي يكون بحثنا علميا منهجيا، لا بد من إيضاح معاني الألفاظ، والمصطلحات الأساسية التي نستعملها؛ لأن التباس هذه المعاني يؤدي إلى الخطأ في فهم جميع ما يبنى عليها، والناس اليوم يختلفون في فهم أوسع الألفاظ شمولا كالدين، والتربية، والإسلام، والرب، والإله. وسنعتمد في ذلك على اللغة العربية، والقرآن الكريم؛ لأنه هو المصدر الأول الذي استقيت منه، وتستقي أسس التربية الإسلامية؛ ولأنه نزل بلسان عربي مبين، وسنبدأ بتعريف التربية في اللغة، ثم في عرف بعض علماء الإسلام.
1 / 15
ثانيا: مفهوم التربية
إذا رجعنا إلى معاجم اللغة العربية، وجدنا لكلمة التربية أصولا لغوية ثلاثة:
الأصل الأول: ربا يربو بمعنى زاد ونما، وفي هذا المعنى نزل قوله تعالى: ﴿وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ﴾ [الروم: ٣٠/ ٣٩] .
الأصل الثاني: ربى يربى على وزن خفي يخفى، ومعناها: نشأ وترعرع.
وعليه قول ابن الأعرابي:
فمن يك سائلا عني فإني ... بمكة منزلي وبها ربيت
الأصل الثالث: رب يرب بوزن مد يمد بمعنى أصلحه، وتولى أمره، وساسه وقام عليه ورعاه، ومن هذا المعنى قول حسان بن ثابت كما أورده ابن منظور في لسان العرب:
ولأنت أحسن إذ برزت لنا ... يوم الخروج بساحة القصر
من درة بيضاء صافية ... مما تربب حائر البحر
وقال: يعني الدرة التي يربيها في الصدف، وبين: بأن معنى: تربب حائر البحر: أي مما ترببه، أي رباه مجتمع الماء في البحر.
قال: ورببت الأمر أربه ربا، وربابا: أصلحته ومتنته.
وقد اشتق بعض الباحثين من هذه الأصول اللغوية تعريفًا للتربية، قال الإمام الببيضاوي "المتوفى٦٨٥هـ" في تفسيره "أنوار التنزيل وأسرار التأويل":
"الرب في الأصل بمعنى التربية، وهي تبليغ الشيء إلى كماله شيئا فشيئا، ثم وصف به تعالى للمبالغة".
وفي كتاب مفردات الراغب الأصفهاني "المتوفى٥٠٢هـ": "الرب في الأصل التربية، وهو إنشاء الشيء حالا فحالا إلى حد التمام".
1 / 16
وقد استنبط الأستاذ عبد الرحمن الباني١ من هذه الأصول اللغوية أن التربية تتكون من عناصر:
أولها: المحافظة على فطرة الناشئ ورعايتها.
ثانيها: تنمية مواهبه واستعداداته كلها، وهي كثيرة متنوعة.
ثالثها: توجيه هذه الفطرة، وهذه المواهب كلها نحو صلاحها، وكمالها اللائق بها.
رابعها: التدرج في هذه العملية، وهو ما يشير إليه البيضاوي بقوله: " ... شيئًا فشيئا"، والراغب بقوله: "حالًا فحالًا..".
ثم يستخلص من هذا نتائج أساسية في فهم التربية.
أولاها: أن التربية عملية هادفة، لها أغراضها وأهدافها وغايتها.
النتيجة الثانية: أن المربي الحق على الإطلاق هو الله الخالق: خالق الفطرة وواهب المواهب، وهو الذي سنن سننا لنموها وتدرجها وتفاعلها، كما أنه شرع شرعا لتحقيق كمالها، وصلاحها وسعادتها.
النتيجة الثالثة: أن التربية تقتضي خططا متدرجة تسير فيها الأعمال التربوية، والتعليمية وفق ترتيب منظم صاعد، ينتقل مع الناشيء من طور إلى طور، ومن مرحلة إلى مرحلة إلى مرحلة.
النتيجة الرابعة: أن عمل المربى تال، وتابع لخلق الله وإيجاده، كما أنه تابع لشرع الله ودينه.
وهذا التحليل لمعنى التربية، ونتائجها يؤدي بنا إلى معنى الشرع والدين؛ لأن التربية تستمد جذورها منه، فطبيعة النفس الإنسانية طبيعة متدينة، والإنسان في الحقيقة حيوان متدين كما سنوضح ذلك عند بحث "خصائص التربية الإسلامية".
_________
١ مدخل إلى التربية: محاضرات لطلاب السنة الأولى في كلية العلوم الاجتماعية لسنة ١٣٩٧هـ.
1 / 17
ثالثا: مفهوم الدين ١:
المعنى اللغوي:
تستعمل كلمة "الدين" في كلام العرب بمعان شتى أهمها:
١- القهر والسلطة والحكم والأمر: فيقولون: "دان الناس" أي قهرهم على الطاعة، و"دنته" أي سسته وملكته، وفي هذا المعنى جاء في الحديث النبوي "الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت" أي قهر نفسه، وذللها لطاعة الله، بهذا الاعتبار يصبح معنى اسم المفعول "مدين" أي مقهور ومحكوم، وخاضع قال تعالى:
﴿فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ، تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين﴾ [الواقعة: ٥٦/ ٨٦-٨٧]، أي إن كنتم غير خاضعين لمشيئة الله في الحياة والموت، فهلا أرجعتم الروح إلى الجسد بعد فراقها بالموت.
٢- الطاعة والعبودية، والخدمة، والخضوع تحت غلبته وقهره: تقول العرب: دنتهم، فدانوا أي قدرتهم فأطاعوا.
٣- الشرع والقانون والطريقة، والمذهب والملة، والعادة والتقليد: فيقولون: "ما زال ذلك ديني وديدني" أي دأبي وعادتي.
٤- الجزاء والمكافأة والقضاء والحساب: فمن أمثال العرب: "كما تدين تدان" أي كما تصنع بغيرك يصنع بك وتجازى، ومن هنا تأتي كلمة "الديان" بمعنى القاضي، وحاكم المحكمة.
استعمال كلمة "الدين" في القرآن الكريم:
كانت العرب تستعمل هذه الكلمة كما رأينا، بهذا المعنى مرة، وبذاك تارة أخرى حسب لغاتهم المختلفة، ومواقفهم المتعددة، فكان استعمال كلمة "الدين" مشوبًا بشوائب اللبس والغموض، حتى نزل القرآن، فاستعملها لمعانيه الواضحة المتميزة، وإنما ميز القرآن كلمة الدين وأوضح معناها حين جعلها بمعانيها اللغوية الأربعة تقوم مقام نظام بأكمله، يتألف من أجزاء أربعة هي:
١- الحاكمية والسلطة العليا "الإلهية".
٢- الطاعة والإذعان لتلك الحاكمية والسلطة "من قبل أتباع الدين، أو المخلوقات".
٣- النظام الفكري، والعلمي الذي أوجدته تلك السلطة والحاكمية.
٤- المكافأة التي تكافئ بها السلطة، أو الجزاء الذي تجزي به على أتباع ذلك النظام، والخضوع والإخلاص له، أو على التمرد عليه، والعصيان له.
ثم يورد أبو الأعلى المودودي الآيات التي تدل على هذه المعاني٢، ويحاول أن يجمع ويؤلف من هذه المعاني تعريفا للدين فيقول:
المراد بـ"الدين" في جميع هذه الآيات هو "نظام الحياة الكامل الشامل لنواحيها الاعتقادية، والفكرية والخلقية، والعملية"، فقد بين الله تعالى أن نظام الحياة الصحيح المرضي عند الله هو النظام المبني على إطاعة الله، وإخلاص العبودية له وحده.
قلت: ويمكن تعريف الدين تعريفًا يشمل جميع معانيه اللغوية، والقرآنية كما يلي:
"الدين علاقة خضوع وانقياد، وعبودية من قبل البشر، يشعرون بها نحو خالق
حاكم مسير لأمور الكون، حاكم قهار يحيى ويميت، وإليه النشور، قد وضع لهم نظاما كاملا للحياة بجميع جوانبها، وأمرنا أن نسير عليه، وأخبرنا بالجزاء الذي أعده لجميع المكلفين يوم الحساب"، والله أعلم.
_________
١ أبو الأعلى المودودي: المصطلحات الأربعة في القرآن -من مطبوعات دار القلم.
٢ ﴿هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [غافر: ٤٠/ ٦٥] أي الطاعة والعبادة، والإيمان بقهره وسلطانه وحده، وبهذا جاء لفظ الدين في قوله تعالى: ﴿قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي﴾ [الزمر: ٣٩/ ١٤]، وقوله: ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الزمر: ٣٩/ ١١-١٢] ﴿وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ﴾ [النحل: ١٦/ ٥٢] أي له السلطان.
أما الدين بمعنى النظام فقد ورد في قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [يونس: ١٠/ ١٠٤]
وأما الدين بمعنى الجزاء والحساب: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ، ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ، يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا﴾ [الانفطار: ٨٢/ ١٧-١٩] .
1 / 18
رابعا: مفهوم الإسلام
الإسلام في اللغة والقرآن هو الاستسلام والخضوع، قال تعالى:
﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ [آل عمران: ٣/ ٨٣] .
ثم استعمل اللفظ في القرآن علما على الدين والنظام، الذي أرسل الله به رسوله
_________
محمدًا ﷺ، وبين الله أن كل من يتخذ أو يتبع دينا غيره، ولو كان من الأديان السماوية السالفة، فإن الله لا يقبله منه.
﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ [آل عمران: ٣/ ١٩] ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: ٥/ ٣] ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران: ٣/ ٨٥]، وقد جمع الله بين لفظي الدين، والإسلام في قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الزمر: ٣٩/ ١١-١٢] .
فالإسلام هو النظام الإلهي الذي ختم الله به الشرائع، وجعله الله نظاما كاملًا شاملا لجميع نواحي الحياة، وارتضاه لتنظيم علاقة البشر بخالقهم، وبالكون والخلائق، وبالدنيا والآخرة، وبالمجتمع والزوجة والولد، والحاكم والمحكوم، ولتنظيم كل الارتباطات التي يحتاج إليها الناس، تنظيما مبنيا على الخضوع لله وحده، وإخلاصه العبودية له، وعلى الأخذ بكل ما جاء به الرسول ﷺ.
1 / 19
خامسا: العلاقة بين الإسلام والتربية
١- التربية الإسلامية: فريضة إسلامية
الإسلام شريعة الله للبشر، أنزلها لهم ليحققوا عبادته في الأرض، وإن العمل بهذه الشريعة ليقتضي تطوير الإنسان وتهذيبه، حتى يصلح لحمل هذه الأمانة، وتحقيق هذه الخلافة، وهذا التطوير والتهذيب هو التربية الإسلامية: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب: ٢٣/ ٧٢] .
فلا تحقيق لشريعة الإسلام إلا بتربية النفس، والجيل والمجتمع، على الإيمان بالله ومراقبته والخضوع له وحده، ومن هنا كانت التربية الإسلامية فريضة في أعناق جميع الآباء والمعلمين، وأمانة يحملها الجيل للجيل الذي بعده، ويؤديها المربون للناشئين، وكان الويل لمن يخون هذه الأمانة، أو ينحرف بها عن هدفها أو يسيء تفسيرها، أو يغير محتواها.
إنها تربية الإنسان على أن يحكم شريعة الله في جميع أعماله، وتصرفاته ثم لا يجد حرجا فيما حكم الله ورسوله، بل ينقاد مطيعا لأمر الله ورسوله، قال تعالى:
﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: ٤/ ٦٥] .
والإنسان معرض للشر، والخسران لا ينقذه منهما إلا الإيمان بالله واليوم الآخر، والعمل الصالح، والتعاون، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر على إحقاق الحق ومحاربة الباطل، قال الله تعالى:
﴿وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر: ١٠٣/ ١-٣] .
وفي هذه السورة إشارة إلى أن خلاص الإنسان من الخسران، والعذاب لا يتم إلا بثلاثة ضروب من التربية:
أ- تربية الفرد على الإيمان بالله والاستسلام لشريعته، والإيمان بالغيب.
ب- تربية النفس على الأعمال الصالحة، وعلى منهج الحياة الإسلامية، في الحياة اليومية، والمواسم السنوية والتصرفات المالية، وجميع شئون الدنيا.
ج- تربية المجتمع على التواصي بالحق للعمل به، والتواصي على الشدائد، وعلى عبادة الله، وعلى التزام الحق.
1 / 20
٢- التربية الإسلامية قضية إنسانية، وضرورة مصيرية:
إن المصائب التي تنزل بالمجتمع الإنساني عامة، والكوارث التي تصيب المجتمعات الإسلامية، وظلم الإنسان للإنسان، واحتكار الدول القوية لخيرات الأمم الضعيفة، كل ذلك نتيجة لسوء تربية الإنسان، والانحراف به عن ابتغاء كماله، وعن فطرته، وطبيعته الإنسانية.
ولما كان الإسلام هو المنهج الرباني المتكامل، المواتي لفطرة الإنسان، والذي أنزل الله لصياغة الشخصية الإنسانية صياغة متزنة متكاملة، ليجعل منها خير نموذج على الأرض، يحقق العدالة الإلهية في المجتمع الإنساني، ويستخدم ما سخر الله له من قوى الطبيعة، استخداما نيرا متزنا، لا شطط فيه ولا غرور، ولا أثرة ولا استئثار، ولا ذل ولا خضوع، ولما كنا قد رأينا كيف أخفقت الجهود التربوية، والمدارس التربوية الحديثة، والفلسفات التربوية الغربية، في إنقاذ الطفولة، والإنسانية من ظلم القرون الأوروبية الوسطى، وظلامها في أوروبا، بل نقلتها من الظلم، والظلام إلى الدمار والضياع، وإلى الميوعة والاضمحلال، فكانت البشرية في ذلك "كالمستجير من الرمضاء بالنار".
لما كان ذلك كله وجدنا، بعد الاستقصاء، والبحث والتمحيص، أن التربية الإسلامية أصبحت ضرورة حتمية، وقضية إنسانية.
أ- لتخليص الطفولة في البشرية عموما من التهديد، والضياع بين شهوات الآباء والأمهات، وتهافتهم على المادة، وبين النظم المادية غير الإنسانية، وبين الإباحة والتدليل والميوعة١.
ب- لإنقاذ الطفولة في الشعوب النامية، والضعيفة من الخنوع والذل، وويلات الجوع، والاستسلام لطغيان الظلم والاستبداد.
وذلك بما تغرسه التربية الإسلامية في الإنسان من العزة، والشعور بالكرامة، بل الاستماتة في سبيلها، مهما أحاطت به الشدائد، أو أذهلته عنها المغريات.
﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون: ٦٣/ ٨] .
_________
١ شرحنا ذلك في مقدمة هذا الكتاب "الطفولة الضائعة"، ويمكن الرجوع إلى كتابنا: التربية وطرق التدريس فلي فيه بحث بعنوان "نقد التربية الحديثة" يليه بحث "من حصاد التربية الحديثة في بلادنا"، وسيأتي بيان ذلك في بحث مزالق المدرسة الحديثة.
1 / 21
الفصل الثاني: مصادر التربية الإسلامية
أولًا: القرآن: أثره التربوي في نفس الرسول ﷺ والصحابة
...
الفصل الثاني: مصادر التربية الإسلامية
التربية الإسلامية هي التنظيم النفسي، والاجتماعي الذي يؤدي إلى اعتناق الإسلام، وتطبيقه كليا في حياة الفرد والجماعة.
فالتربية الإسلامية ضرورة حتمية لتحقيق الإسلام كما أراده الله أن يتحقق، وهي بهذا المعنى تهيئة النفس الإنسانية لتحمل هذه الأمانة، وهذا يعني بالضرورة أن تكون مصادر الإسلام هي نفسها مصادر التربية الإسلامية، وأهمها القرآن والسنة.
أولا: القرآن: أثره التربوي في نفس الرسول ﷺ والصحابة:
فالقرآن قد ترك أثرًا لا شك فيه في تربية نفس رسول الله ﷺ، وصحابته وقد شهدت بذلك السيدة عائشة زوج رسول الله ﷺ، فقالت في وصفه: "كان خلقه القرآن"، بل إن شهادة الحق ﷻ قد سبقت كل شهادة قال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ [الفرقان: ٢٥/ ٣٢] .
فهما هنا إشارتان تربويتان: الأولى تثبيت الفؤاد وترسيخ الإيمان، والثانية تعليم الترتيل، في قراءة القرآن، وفيها نزلت توصيات تربوية صريحة من الحق ﷻ إلى رسوله محمد ﷺ، وذلك في قوله تعالى:
﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ [القيامة: ٧٥/ ١٦-١٩] ١.
_________
١ انظر الشرح التربوي لهذه الآيات في كتابنا التربية، وطرق التدريس ١/ ١١٢، عبد الرحمن النحلاوي، عبد الكريم عثمان، محمد خير عرقسوسي، طبعة الرئاسة العامة للكليات، والمعاهد العلمية بالرياض سنة ١٣٩٢هـ.
1 / 23
وحياة الرسول ﷺ في سلمة وحربه، في حله وترحاله، في داره وبين رجاله، كلها تشهد بما شهدت به السيدة عائشة، والمسلمون جميعا من أنه "كان خلقه القرآن"، فأدعيته مستقاة من القرآن تارة باللفظ، وتارة بالمعنى.
أما أصحابه رضوان الله عليهم، فقد أخذوا أنفسهم بتطبيق القرآن مع تعلمه حتى قال قائلهم: "كنا في عهد رسول الله ﷺ لا نجاوز السورة من القرآن حتى نحفظها ونعمل بها، فتعلمنا العلم والعمل جميعا".
وكان القرآن وقع عظيم، وأثر تربوي بالغ في نفوس المسلمين، حتى شغلهم عن الشعر، وكانوا من أشد الناس تعلقا به، وعن الحكم والكهانة، وأخبار الفروسية، وأخبار العرب في جاهليتهم.
أسلوب القرآن التربوي:
والسر في ذلك أن للقرآن أسلوبًا رائعًا، ومزايا فريدة في تربية المرء على الإيمان بوحدانية الله وباليوم الآخر، نذكر منها بعض ما ورد في كتابنا "التربية وطرق التدريس ص٩٦-٩٧"١.
إنه يفرض الإقناع العقلي مقترنا بإثارة العواطب، والانفعالات الإنسانية، فهو بذلك يربي العقل والعاطفة جميعا، متمشا مع فطرة الإنسان في البساطة، وعدم التكلف، وطرق باب العقل مع القلب مباشرة.
يبدأ القرآن من المحسوس المشهو المسلم به: كالمطر، والرياح، والنبات، والرعد، والبرق، ثم ينتقل إلى استلزام وجود الله، وعظمته وقدرته، وسائر صفات الكمال، مع اتخاذ أسلوب الاستفهام أحيانا، إما للتقريع، وإما للتنبيه، وإما للتحبيب والتذكير بالجميل، أو نحو ذلك، مما يثير في النفس الانفعالات الربانية: كالخضوع، والشكر، ومحبة الله، الخشوع له، ثم تأتي العبادات والسلوك المثالي تطبيقا عمليا للأخلاق الربانية.
وهذه لعمري، أفضل طريقة اهتدى إليها علم النفس لتربية العاطفة، إنها تكرار إثارة الانفعالات، مع تجارب سلوكية مشحونة بهذه الانفعالات، مصحوبة
_________
١ تأليف عبد الرحمن نحلاوي، عبد الكريم عثمان، محمد خير عرقسوسي.
1 / 24
بموضوع معين، حتى يصبح عند المرء استعداد لاستيقاظ هذه الانفعالات كلما أثير هذه الموضوع، وهل العاطفة إلا ذلك الاستعداد الوجداني الانفعالي؟ فإذا ربي مع العاطفة سلوك مثالي تتطلبه تلك العاطفة، فقد بلغت التربية ذروتها في توحيد النفس، واستنفاد طاقتها لخير الإنسانية، ولعل أوضح مثال على هذا الأسلوب التربوي القرآني يتضح في "سورة الرحمن"، حيث يذكرنا الله ﷻ بنعمة ودلائل قدرته، بادئا من الإنسان، وقدرته على التعليم، إلى ما سخر الله له من الشمس، والقمر والنجم والشجر، والفاكهة والثمر، وما خلق من السماء والأرض، وعند كل آية أو عدة آيات استفهام يضع الإنسان أمام الحس، والوجدان وصوت القلب والضمير، فلا يستطيع أن ينكر ما يحس به، ويستجيب له عقله وقلبه، وقد تكرر ذلك هذا الاستفهام: ﴿فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن: ٥٥/ ١٣] وما بعدها، إحدى وثلاثين مرة في هذه السورة، وفي كل مرة يثير انفعالا بحسب الآية التي تسبقه.
هذه نبذة عن أسلوب القرآن التربوي، أو منهجه التربوي المتكامل، فهذا ما سنراه في طيات البحث عن منهج الإسلام التربوي، وأسلوب الإسلام في رعاية الطفولة في جميع العصور، ومعالجة أمورها.
وحسبنا هنا أن نبين أن القرآن قد بدأ نزوله بآيات تربوية، فيها إشارة إلى أن أهم أهدافه تربية الإنسان بأسلوب حضاري فكري، عن طريق الإطلاع والقراءة والتعليم، والملاحظة العلمية لخلق الإنسان منذ كان علقة في رحم الأم.
﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق: ٩٦/ ١-٥] .
وأن الله تعالى أقسم أحد عشر قسما ليقرر أن النفس الإنسانية قابلة للتربية١، والتزكية والتسامي.
_________
١ انظر سورة الشمس من قوله تعالى: ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا﴾ إلى قوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشمس: ٩١/ ١-١٠] .
1 / 25