فن المقالة
فن المقالة
ناشر
دار صادر بيروت
شماره نسخه
الأولى
سال انتشار
١٩٩٦
محل انتشار
دار الشروق عمان
ژانرها
مقدمة:
تصدر هذه الطبعة من هذا الكتاب، على كره مني. فقد كنت أتمنى أن تتاح إعادة النظر فيه، بعد أن مضي على طبعته الأولى زهاء أربعين سنة. وكم كنت أود أن أرى لزملائي من الباحثين، في الجامعة وخارجها، دراسات تسند هذه الدراسة وتضيف عليها، وتوسع بعض جوانبها. على أن ذلك لم يحدث لا في بلادنا العربية، ولا في الخارج.
ولعل انصراف النقد العربي عن هذا الموضوع هو جزء من انصرافه العام عن العناية بفنون الأدب الحديثة، من قصة وأقصوصة ومسرحية، وإيثاره الترجمة على التأليف. أما النقد الغربي فلم تصدر فيه في السنوات الأخيرة، فيما أعلم، دراسة بوسعها أن تصحح رأيا أو تضيف جديدا. وأكثر عناية مدرسي الأدب وفنونه في الجامعات الغربية، وخاصة الأمريكية، منصبة على قراءة النصوص وتحليلها واستخراج القيم الفنية من داخلها. يضاف على هذا كله أن المقالة لم تعد في هذا القرن فنا من الفنون الأدبية التي تتجلى فيها قدرة الأديب على الإبداع؛ إذ تحولت إلى أداة سريعة في يد الصحافة، أو غدت وسيلة من وسائل الباحث؛ يعرض فيها رأيا في موضوعه، أو يبسط نتيجة من النتائج التي توصل إليها خلال دراساته، مما لا يمتد ويتفرع ليشغل كتابا بكامله. ولذا أصبح البحث في فن المقالة اليوم، لا يدخل في نطاق دراسة النثر الفني، بل أصبحت قواعده وشروطه ادخل في قواعد المباحث العلمية. ونحن نرى اليوم العديد من الكتب يصدر
1 / 5
ليعالج وسائل الباحث الحديث ومناهجه، والباحث هنا هو مؤلف الكتاب أو الدراسة المطولة، ومؤلف المقالة العلمية أيضا على ما فيها من إيجاز واحتجاز. ولذا بقيت دراسة المقالة، باعتبارها فنا أدبيا، مقصورة على دراسة أعلامها السابقين ابتداء من مونتين، ومرورا بكتاب مقالة المجلات في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ومثل هذه الدراسات وإن كانت تجلو جوانب كانت خفية في ذلك التاريخ، أو تبسط أمورا كانت موجزة فيه، فإنها لا تضيف على دراسة هذا الفن إلا القليل.
محمد يوسف نجم
1 / 6
القسم الأول: المحاولات المقالية قبل مونتين
تمهيد
...
القسم الأول: المحاولات المقالية قبل مونتين
١- تمهيد:
تجمع مراجع التاريخ الأدبي على أن الكاتب الفرنسي ميشيل دي مونتين، هو رائد المقالة الحديثة في الآداب الأوروبية. ولهذا يقسم مؤرخو الأدب تاريخ المقالة إلى طورين متباينين، يقف مونتين حدا فاصلا بينهما. والطور الأول هو الذي ظهرت فيه المحاولات المقالية في صورتها البدائية الفجة، حين كانت تجارب مضطربة لا يحكمها ضابط ولا يحدها قانون، وذلك قبل أن تتطور إلى صورتها الحديثة حين أخذت طريقها نحوالنضج والتكامل، واتخذت لها قالبا أضحى مقررا معروفا فغدت فنامن فنون الأدب المعترف بها، كالملحمة والقصيدة الغنائية والمسرحية والقصة والسيرة وما إلى ذلك.
ولما كانت غايتنا في القسمين الأولين، أن نؤرخ بإيجاز لتطور هذا الفن الكتابي، رأينا أن نلم بتاريخ المحاولات البدائية التي تمت في الطور الأول، ثم نتقدم إلى تأريخ أدب المقالة، في طورها الحديث، الطور المونتيني، لكي يلمس القارئ بنفسه مدى التطور الذي لحق هذا الفن الأدبي في الطورين السابقين.
1 / 9
٢- بذور المقالة في الآداب الشرقية القديمة:
ظهرت بذور الأدب المقالي، بأنواعه المختلفة، في الآداب القديمة قبل القرن السادس عشر. وهذا الأمر ليس مظنة الاستغراب، فالمقالة في حقيقتها، شأن سائر فنون الأدب الأخرى، تقوم على ملاحظة الحياة وتدبر ظواهرها وتأمل معانيها. وهذه ظاهرة نفسية رافقت الانسان منذ ظهوره على وجه الأرض؛ إذ هي مركبة في طبيعته، بل هي جوهر جبلته التي فطر عليها. وقد عبر عنها منذ فجر التاريخه في تهاويل السحر ورسوم الكهوف، ووجدت في أحاديثه ومسامراته قبل عهد التدوين متنفسا ومراحا، وأصبح من عادة هذا الإنسان المتأمل فيما بعد، أن يدون نتيجة تأملاته وخاطراته على صورة ساذجة تتسم بالبساطة والعفوية دون أن يشق على نفسه في خلق قالب فني محدد، أو لعله لم يكن من الفطنة والحذق بحيث يتيسر له ذلك. وهذا ما نجده في أمثال الأمم وجوامع كلمها وللعرب حظ عظيم منها يرجع إلى عهود موغلة في القدم، وعليها يعتمد الباحثون في دراسة تطورهم العقلي، والمرتبة التي بلغوها في تمرسهم بالحياة واختيارهم لها وتأملهم معانيها. ثم إن لها فائدة أخرى في نظر الباحثين، فهي تختلف عن الشعر بصدورها في الأكثر عن عامة أبناء الشعب وأوشابهم، بينما يصدر الشعر عن طبقة ترتفع بعقليتها عن مستوى العوام، وتلتمس لفنها ألوانا من الصقل والتهذيب، لا يأبه لها أصحاب الأمثال الذين اعتادوا أن يلقوا بها في المناسبات التي تعرض لهم، تعبيرا ساذجا سريعا عن إحساس فطري تلقائي. وهذا هو شأن الأمم جمعاء في أطوار بداوتها. والمثل قريب بطبيعة وضعه وصياغته من فن المقالة، التي أراد لها مونتين أن تكون صورة صادقة عن إحساسه بالحياة وتأمله لها، لا يلحقها أي تشذيب أو تصنع.
وخير صورة نقع عليها لمثل هذه الحكم الشعبية، ما نجده في بعض أسفار العهد القديم، وخاصة في أسفار الحكمة وهي "الأمثال" و"الجامعة" و"سفر يشوع بن سيراخ". فهذه الأسفار الثلاثة، توضح لنا المراحل الثلاث، التي تجتازها الملاحظات العابرة، حتى تغدو نوعا من الأدب المقالي. ففي المرحلة الأولى تظهر على صورة الأمثال والأقوال
1 / 10
السائرة، وجوامع الكلم التي لا تنتظمها وحدة شاملة١..وفي المرحلة الثانية تستقطب هذه الأمثال والأقوال الحكمية، حول فكرة واحدة، هي فكرة الملك والجاهل، وهذه الفكرة الموحدة، أو الموضوع العام، هي البداية الحقيقية لفكرة وضع عنوان لكل مقالة٢. وفي المرحلة الثالثة، نجد أن هذه الأمثال التي دارت حول فكرة واحدة، قد اتسع نطاقها حتى شملت مجموعة من الأفكار التي تنتظمها وحدة موضوعية. فأصبح المثل الموجز المركز موضوعا عاما يتيح للكاتب أن يحيل قلمه في حديث مسهب، وأن يفيض في عرض أفكاره وبسط نظراته، وهنا نقع على الصورة الموجزة للمقالة الحديثة٣.
ويعكس لنا الأدب الصيني القديم الذي يدور حول الموضوعات الدينية والفلسفية مثل هذه المراحل أيضا، وخاصة في الأقوال المأثورة التي تنسب إلى كونفوشيوس "حوالي ٥٠٠ ق. م"، وكذلك في آثار تسي زي في ذلك العهد، ثم في كتابات منشيوس "حوالي ٣٠٠ ق. م"، أكبر أتباع كونفوشيوسي، وخاصة في تلك الفصول التي كتبها عن الحب الكوني. ثم في تعاليم لاووتس، في أوائل القرن السابع ب. م. التي ضمنها كتابه "الطريق".
_________
١ سفر الأمثال: الإصحاح ١٠-٢٢، وسفر الجامعة، الإصحاح العاشر.
٢ سفر الجامعة: من الآية التاسعة من الإصحاح الرابع حتى الآية التاسعة من الإصحاح الخامس.
٣ سفر يشوع بن سيراخ الإصحاح الثالث، الآية ١-١٦ والإصحاح الثاني عشر "باطل الأباطيل" من سفر الجامعة.
1 / 11
٣- في أدب الإغريق والرومان:
بيد أننا نعثر في آثار الإغريق والرومان الأدبية أيضا، على صورة متطورة لهذه المحاولات البدائية، حيث نقع على تباشير المقالة الحديثة على أنواعها. والأدب الإغريقي قبل الفتح الروماني، لا يقدم لنا الكثير مما نستطيع أن نعتبره نماذج ساذجة للمقالة الحديثة، مع ما بلغه من تقدم في الفنون الأدبية الأخرى كالملاحم والمآسي والملاهي. ولكن تلك الفترة التي تنتهي حوالي منتصف القرن الثاني قبل الميلاد، كانت المعين الثر الذي استقى منه أدباء الإغريق المتأخرون، وكذلك أدباء الرومان، الذين قدموا بين يدي المقالة الحديثة آثارا فذة، أتيح لهم أن يوفقوا إلى إنتاجها بسبب الظروف المواتية التي أحاطت بهم آنذاك. ولعل أجدرها بالذكر، تلك الفترة الطويلة من السلم والازدهار، وما هيأته لهم من الفراغ والدعة والطمأنينة، وما شملهم فيها من رعاية أولى الأمر وحدبهم وتقديرهم.
وهذا لا ينفي أن تباشير المقالة قد ظهرت في آثار بعض كتاب الإغريق أمثال فيثاغورس وهيردوتس وثيوكديدس وأكزينوفون وديموسثنيس وأبيقور وبوليبيوس وديونيزيوس ولوسيان ولونجينوس وأثينايوس وسواهم، ممن عاشوا في الفترة التي امتدت من القرن السابع قبل الميلاد حتى القرن الثالث بعده.
كما أن أساليب بعض الفلاسفة والكتاب أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطوطاليس وثيوفراسطوس وفلوطارخوس، كانت ذات أثر مباشر في أساليب بعض أنواع المقالة الحديثة. فأسلوب الحوار ظهر مشرقا بارعا في آثار سقراط وأفلاطون وأرسطوطاليس. وقد امتاز أفلاطون فضلا عن ذلك، بالحرية في التعبير والانطلاق في الحديث، وهاتان الميزتان ظهرتا
1 / 12
فيما بعد بجلاء في مقالات مونتين رائد المقالة الحديثة. كما أن كتابات أرسطوطاليس التي تميزت بالتركيز والشمول ودقة المنطق، كانت ذات أثر بالغ في مقالات باكون. زد على ذلك أنه قدم لنا أول مقالة نقدية تمتاز بعمق في التفكير ودقة في التحليل، وذلك في فصل المأساة من "كتاب الشعر".
ويعتبر ثيوفراسطوس، تلميذ أرسطوطاليس، رائدا لمقالة الشخصيات وقد جال في كتابه "شخصيات"، جولات موفقة في تصوير بعض النماذج البشرية الشريرة، وهو بهذا يعتبر الكاتب الإغريقي الوحيد الذي استطاع أن يشق الطريق لهذا النوع من المقالة، وأن يضع خطوطها الأولى جلية موحية.
أما فلوطارخوس فقد وضع أسس المقالة التأملية في كتابه "أخلاقيات" "Moralia" وخاصة في فصله الذي سماه "تأخير الطعام".
وهو أقوى الكتاب القدامى، باستثناء سنيكا، أثرا في رائدي المقالة الحديثة: مونتين وباكون.
وكذلك الشأن في الأدب اللاتيني، فإننا نجد آثار بعض أعلامه بذورا لبعض أنواع المقالة الحديثة، كالمقالة الوصفية والنقدية والتأملية. ونذكر منهم كانوا الأكبر يوليوس قيصر وسالوست وليفي وبليني الأكبر وتاكتوس وديوجينس ومرسيلينوس وكلوديان الشاعر. وهؤلاء جميعا عاشوا في الفترة الممتدة من القرن الثاني قبل الميلاد، إلى القرن الرابع بعده. إلا أن هنالك بعض الكتاب الذين تركوا أثرا أبلغ، ومنهم هوارس الذي تعتبر رسالته "فن الشعر" مقالة نقدية كتبت نظما. وكونتليان "في القرن الأول ب. م" الذي عالج في كتابه "قواعد الخطابة"، ووسائل تدريب الخطيب، وطرفا من تاريخ الأدبين الإغريقي واللاتيني، وكان له بذلك
1 / 13
قيمة تربوية وتاريخية. وكذلك تلميذه بليني الأصغر، الذي تعتبر رسائله نوعا من مقالات الرسائل. ومنهم الإمبراطور ماركوس أوريليوس "في القرن الثاني ب. م" الذي يعكس كتابه "التأملات" صفات المفكر المتأمل الذي يفيض خواطره على القرطاس بأسلوب متدفق حر طليق، وهو الأسلوب الذي كتب به المقالة فيما بعد.
ولكن أهمهم دون شك، وأشدهم اتصالا بموضوعنا، شخصيات ثلاث تألقت في سماء الأدب اللاتيني وهم: شيشرون "١٠٦-٤٣ ق. م" وسنيكا "توفي ٦٥ ب. م" وأولوس جيليوس "في القرن الثاني بعد الميلاد". وقد قدم شيشرون لرواد المقالة الحديثة، وخاصة في مقالتيه "الشيخوخة" و"الصداقة"، مثلا يحتذى من حيث الصورة والمضمون. ولكن سنيكا تفوق عليه في ذلك إذ كانت رسائله إلى لوسيليوس، كما قفال باكون، نوعا من المقالات أو "المحاولات". وهي تعكس لنا مدى تحضره وعمق تأملاته الرواقية، وسموه عن مستوى العامة في التفكير، وبراعته في التحليل بأسلوب بليغ يجمع بين القوة والسلالة، وبهذا كانت معينًا ثرًّا نهل منه كتاب المقالة الأول في القرنين السادس عشر والسابع عشر، بل إن مونتين نفسه نظر إلى أسلوبها في عدد من مقالاته.
و"الليالي الأتيكية" لجيليوس، من أقرب المحاولات الأدبية إلى صورة المقالة الشخصية التي عرف بها مونتين. وهي تحتوي تعليقات موجزة حرة، تتناول بعض الموضوعات التي عبر بها الكاتب أثناء مطالعته.
1 / 14
٤- في العصور الوسطى:
وعندما طويت صحفة الرومان في سجل التاريخ، وقامت على أنقاضهم المسيحية مسيطرة عصفت بالوثنية والإشراك، تردى الأدب في هوة لا قرار لها، واستمر في ترديه هذا فترة نيفت على قرون عشرة. وانتهت مقاليد الأدب إلى أيدي فئة من الوعاظ كان همهم الأول خلاص الإنسان من سجن الجسد وتحرره من ربقة الشهوات التي كان يرسف فيها سادرا في غية لا يثنيه رادع من اخلاق أو دين.. فكانت هذه الفترة مرحلة ركود اندثر فيها هذا النوع من الكتابة الأدبية أو كاد، كما اندثر غيره من الأنواع إلى أن قيض له الانتعاش ثانية على أيدي رجال النهضة.
إلا أن نوعا واحدا من أنواع المقالة البدائية، التي بذرت بذورها في عهد الرومان، كتب له أن يوفق ويزدهر في هذه الفترة، وهو المقالة التأملية الفلسفية. فطبيعة الحياة آنذاك كانت تقتضي وجود مثل هذا النوع الذي كان يصطنع في أكثر الأحيان لجلاء العقيدة والذب عنها ورد كيد خصومها ومقارعتهم الحجة بالحجة. ثم إن منابر الوعظ ومحافل العبادة، كانت تهيئ الفرص للتنافس، وتغري بالاتقان والتجويد.
ولعل "اعترافات القديس أغسطين" "حوالي ٤٠٠ ب. م"، هي أبرع استهلال لهذا النوع. ثم تلتها "مباهج الفلسفة" لبوثيوس "حوالي ٥٠٠ ب. م"، وبعد ذلك نستطيع أن نرصد تطور هذا النوع في كتابات بيد وألفرد الكبير وتوما الأكويني وجيرالدوس كمرنس وسواهم، حتى أواخر القرن الرابع عشر.
ويدخل في نطاق هذه الفترة أيضا بعض المترسلين الفرس أمثال نظامي الكنجوي "في القرن الثالث عشر"، وسعدي الشيرازي "في القرن الثالث عشر" الذي اشتهر بكتابه "الكلستان" وبرسائله، وكذلك مندفيل وشوسر من الكتاب الإنكليز، وقد عكسا في كتاباتهما بعض سمات المقالة الوصفية، والمقالة القصصية.
1 / 15
٥- عصر النهضة:
وكان الانقلاب الذي رافق عصر النهضة، مدعاة إلى وصل ما انقطع من التقاليد الأدبية عند الإغريق والرومان. وهكذا عاد فلوطارخوس وسنيكا وشيشرون ثانية إلى تبوء مكان الصدارة. وظهر في هذه الفترة بعض الأعلام الذين مهدوا السبيل أمام ازدهار هذا الفن الأدبي.. نذكر منهم على سبيل المثال، لا الحصر، دانتي وبترارك ومكيافيلي وسانسوفدو وسافونا رولا وأرازمس ولوثر ومرغريت النافارية ورابليه. وهؤلاء جميعا عاشوا بين القرنين الرابع عشر والسادس عشر. وسارت المقالة في إنكلترا خلال ذلك، على مثل هذه الوتيرة، وظهرت بذورها في آثار بعض كبار الأدباء أمثال توماس أليوت، وروبرت أشام، وتوماس ولسون، وفيليب سدني، وجون ليلي، وروبرت جرين، وجورج غاسقوينه وصمويل دانيال، وتوماس مور، ووالتر رالي.
1 / 16
٦- في الأدب العربي القديم:
آثرت تأخير الحديث عن بذور المقالة في الأدب العربي، لكي أتناولها في شيء من التفصيل. فقد ظهرت المقالة في أدبنا منذ القرن الثاني للهجرة. وتمثلت على أحسن صورها في الرسائل، وخاصة الإخوانية والعلمية. فلو نحينا جانبا الرسائل الديوانية التي كانت تتحجر في كل عصر، في قوالب معينة يرثها الخلف عن السلف، والتفتنا إلى الإخوانيات، وما تدور عليه من مسامرات ومناظرات وأوصاف وعتاب، وإلى الرسائل التي كانت تتناول الموضوعات التي تفرد بها الشعر كالغزل والمديح والهجاء والفخر والوصف، لوجدنا أنها تعكس خصائص المقالة، لا كما عرفت في طورها الأول الذي استمر حتى القرن السادس عشر، بل كما عرفت عند رائديها في فرنسا وإنكلترا. ولولا أنها تطورت هذا التطور المرذول الذي طبعها بطابع الصنعة الثقيلة الممجوجة، في الأسلوب الإنشائي وفي الصور البديعية والبيانية، لكانت المثل البكر لفن المقالة كما عرفتها الآداب الأوروبية الحديثة. وإذا تصفحنا كتب الأدب ومصادر التاريخ وجدنا أمثلة كثيرة تدعم هذا الرأي الذي نذهب إليه.
فصفة الإمام العادل، للحسن البصري، مثل جيد على المقالة الأخلاقية. وفيها يقول:
"اعلم يا أمير المؤمنين أن الله جعل الإمام العادل قوام كل مائل وقصد كل جائر، وصلاح كل فاسد وقوة كل ضعيف، ونصفة كل مظلوم ومفزع كل ملهوف. والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالراعي الشفيق على إبله الرفيق، الذي يرتاد لها أطيب المراعي ويذودها عن مراتع المهلكة ويحميها من السباع ويكنفها من أذى الحر والقر.
والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالقلب بين الجوانح، تصلح الجوانح بصلاحه وتفسد بفساده. هو القائم بين الله وبين عباده، يسمع كلام الله ويُسمعهم، وينظر إلى الله ويريهم، وينقاد إلى الله ويقودهم، فلا تكن يا أمير المؤمنين فيما ملكك الله كعبد ائتمنه سيده واستحفظه ماله وعياله،
1 / 17
فبدد المال وشرد العيال فأفقر أهله وفرق ماله. واعلم يا أمير المؤمنين أن الله أنزل الحدود ليزجر بها عن الخبائث والفواحش، فكيف إذا أتاها من يليها. وأن الله أنزل القصاص حياة لعباده، فكيف إذا قتلهم من يقتص لهم. واذكر يا أمير المؤمنين الموت وما بعده. وقلة أشياعك عنده وأنصارك عليه، فتزود له ولما بعده من الفزع الأكبر. واعلم أن لك منزلا غير منزلك الذي أنت فيه، يطول فيه ثواؤك ويفارقك أحباؤك، يسلمونك في قعره فريدا وحيدا، فتزود له ما يصحبك يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه. فالآن يا أمير المؤمنين وأنت في مهل قبل حلول الأجل وانقطاع الأمل، لا تحكم يا أمير المؤمنين في عباد الله بحكم الجاهليين ولا تسلط المستكبرين على المستضعفين فإنهم لا يرقبون في مؤمن إلًّا ولا ذمة، فتبوء بأوزارك وأوزار مع أوزارك. وتحمل أثقالك وأثقالا مع أثقالك".
ففي هذه القطعة صورة دقيقة للإمام العادل كما يراه الحسن البصري، تتصل باتجاه الحسن الأخلاقي الوعظي أشد اتصال، وتعكس لنا حرصه على التشخيص وإخراج الصور من دائرة الرمز إلى دائرة الواقع المشرق لتكون أقوى دلالة وأكثر جدوى في إبراز الموعظة الحسنة.
ورسالة عبد الحميد إلى الكُتَّاب، التي تضع دستورا للكتابة الديوانية ولأخلاق الكُتَّاب، قريبة الشبة بالمقالة النقدية الحديثة، من حيث الموضوع والأسلوب. وكذلك رسالته إلى ولي العهد، التي تدور حول ما يجب أن تكون عليه أخلاقه في سيرته الخاصة وفي علاقاته مع أفراد حاشيته من القواد والموظفين، وحول تنظيم الجيوش، تعتبر مقالة في السياسة وتدبير الحاشية. وكذلك رسالتاه عن الشطرنج والصيد تقتربان، إلى حد ما، من أسلوب المقالة الحديثة، ورسالة سهل بن
1 / 18
هارون إلى بني عمه في مدح البخل وذم الإسراف، مثل على المقالة الفكاهية وهي شديدة الشبه بمقالات أديسون وستيل. ورسالة الصحابة لابن المقفع، مقالة في سياسة الدولة وتدبير الرعية، وفي نقد نظام الحكم ووجوه إصلاحه، ورسائل الجاحظ، وفصول كتبه التي كادت تلم بكل موضوع، وما فيها من فكاهة عذبة، وانطلاق في التعبير وتحرر من القيود، وتدفق في الأفكار وتلوين في الصور، وتنويع في موسيقى العبارات، خير مثل على النموذج المقالي في الأدب القديم. وقد وصفها المسعودي في مروج الذهب، وصفا يدعم هذا الرأي، فقال:
"وكتب الجاحظ مع انحرافه المشهور تجلو صدأ الأذهان وتكشف واضح البرهان لأنه نظمها أحسن نظم ورصفها أحسن رصف وكساها من كلامه أجزل لفظ. وكان إذا تخوف ملل القارئ وسآمة السامع خرج من جد إلى هزل ومن حكمة بليغة إلى نادرة ظريفة١.
وحسبنا مثلا على مقالاته التصويرية، كتاب "البخلاء"، الذي صور فيه حياة البصرة وبغداد في عصره، أحسن تصوير وأدقه، وعرض نماذج رائعة من البخل، في أشخاص بعض معاصريه، وبعض من أبدعتهم مخيلته منهم، على غير نسق موجود، وبأسلوب تفرد به وأصبح علما عليه.
وفي القرن الرابع خطت الرسائل المقالية خطوة ذميمة نحو التكلف والرهق، فغدت، وإن تنوعت موضوعاتها، متحجرة الأسلوب، مما يبعدها في نظر النقد عما يقتضيه أسلوب المقالة الحديثة من تدفق وحرية وانطلاق. ولا نجد في هذا القرن كاتبا يعادل أبا حيان التوحيدي في طلاقة تعبيره وغزارة معانيه وبراعة تصويره. فرسائله -على ما يتسم به
_________
١ مروج الذهب ٢: ٣٤٤.
1 / 19
بعضها من الطول- شديدة الشبه بالمقالات الموضوعية الحديثة. وفي فصول مقابساته مشابه من المقالات التأملية والفلسفية، وفي "الإمتاع والمؤانسة" صور شخصية بارعة، ولعل أصلحها للتمثيل في معرض الحديث عن المقالة، وصف الصاحب بن عباد، فهي مقالة هجائية بارعة، التزم فيها أسلوبا هادئا رصينا، خاليا من التهجم المفضوح والسباب البذيء، حتى لا يفوت على نفسه الغرض الذي رمى إليه. وما أقرب روحها من روح مقالات أديسون وستيل الهجائية الساخرة، التي كانا يصطنعان لها أسلوبا مبطنا لا يتورطان فيه بالتهكم الصارخ والضحك المجلجل، قال:
"إن الرجل كثير المحفوظ حاضر الجواب فصيح اللسان، قد نتف من كل أدب خفيف أشياء وأخذ من كل فن أطرافا. والغالب عليه كلام المتكلمين المعتزلة وكتابته مهجنة بطرائقهم ومناظرته مشوبة بعبارة الكتاب. وهو شديد التعصب على أهل الحكمة والناظرين في أجزائها كالهندسة والطب والتنجيم والموسيقى والمنطق والعدد، وليس عنده بالجزء الإلهي خبر ولا له فيه عين ولا أثر. وهو حسن القيام بالعروض والقوافي ويقول الشعر وليس بذاك. وفي بديهته غزارة، وأما رويته فخوارة، وطالعه الجوزاء والشعرى قريبة منه، ويتشيع لمذهب أبي حنيفة ومقالة الزيدية، ولا يرجع إلى الرقة والرأفة والرحمة. والناس كلهم محجمون عنه لجرأته وسلاطته واقتداره وبسطته. شديد العقاب طفيف الثواب طويل العتاب بذيء اللسان يعطي كثيرا قليلا "أعني يعطي الكثير القليل". مغلوب بحرارة الرأس، سريع الغضب بعيد الفيئة قريب الطيرة حسود حقود حديد، وحسده وقف على أهل الفضل وحقده سار إلى أهل الكفاية. أما الكُتَّاب والمتصرفون فيخافون سطوته، وأما المنتجعون
1 / 20
فيخافون جفوته وقد قتل خلقا وأهلك ناسا ونفى أمة، نخوة وتعنتا وتجبرا وزهوا وهو مع هذا يخدعه الصبي، ويخلبه الغبي؛ لأن المدخل عليه واسع والمأتى إليه سهل، وذلك بأن يقال: مولانا يتقدم بأن أعار شيئا من كلامه ورسائل منثورة ومنظومة، فما جبت الأرض إليه من فرغانة ومصر وتفليس إلا لأستفيد كلامه وأفصح به وأتعلم البلاغة منه. لكأنما رسائل مولانا سور قرآن، وفقره فيها آيات فرقان، واحتجاجه من ابتدائها إلى انتهائها برهان فوق برهان. فسبحان من جمع العالم في واحد، وأبرز جميع قدرته في شخص. فيلين عند ذلك ويذوب ويلهى عن كل مهم له، وينسى كل فريضة عليه، ويتقدم إلى الخازن بأن يخرج إليه رسائله مع الورَق والوَرِق ويسهل له الإذن عليه والوصول إليه والتمكن من مجلسه، فهذا هذا.
ثم يعمل في أوقات كالعيد والفصل شعرا، ويدفعه إلى أبي عيسى بن المنجم ويقول: قد نحلتك هذه القصيدة، امدحني بها في جملة الشعراء، وكن الثالث من الهمج المنشدين. فيفعل أبو عيسى -وهو بغدادي محكك قد شاخ على الخدائع وتحنك- وينشد، فيقول له عند سماعه شعره في نفسه ووصفه بلسانه ومدحه من تحبيره: أعد يا أبا عيسى، فإنك والله مجيد، زه يا أبا عيسى، والله قد صفا ذهنك وزادت قريحتك وتنقحت قوافيك، ليس هذا من الطراز الأول حين أنشدتنا في العيد الماضي، مجالسنا تخرّج الناس وتهب لهم الذكاء، وتزيد لهم الفطنة، وتحول الكودن عتيقا والمحمر جوادا، ثم لا يصرفه عن مجلسه إلا بجائزة سنية وعطية هنية. ويغيظ الجماعة من الشعراء وغيرهم. لأنهم يعلمون أن أبا عيسى لا يقرض مصراعا ولا يزن بيتا ولا يذوق عروضا"١.
_________
١ الإمتاع والمؤانسة ج١ ص٥٤-٥٦.
1 / 21
فأي صورة أبلغ في الإزراء بصاحبها، والغض من شأنه، والإضحاك منه، على شهرته بين معاصريه، من صورة هذا المدعي الذي ينظم الشعر في مدح نفسه ثم ينحله الناس ليقولوه فيه. إنها مقالة رائعة في تصوير المساوئ والكشف عن المعايب، صاغها أبو حيان على غرار صور أستاذه الجاحظ التي ابتدعها في "البخلاء"، وفي "رسالة التربيع والتدوير".
وبعد، فقد عرضت بعض المحاولات المقالية عند العرب، على مقاييس النقد الحديث، في تحديده للمقالة. ولعمري إن الفنون الأدبية تمر في أطوار من النمو والتطور والتنقيح، فينأى اللاحق منها عن السابق، حتى ليتباينان أشد التباين. وفي الأمثلة القليلة التي ذكرتها، دليل على أن العرب، في نطاق فهمهم للتعبير الأدبي، قدموا بعض الرسائل والفصول الأدبية الممتعة، التي يصح أن ندرجها تحت الأدب المقالي، مع شيء من التجاوز والاعتدال في التحديد، شأنهم في ذلك شأن أكثر الأمم التي سبقتهم أو عاصرتهم.
1 / 22
القسم الثاني: المقالة في طورها الحديث
مونتين "١٥٣٣-١٥٩٢"
...
القسم الثاني: المقالة في طورها الحديث
١- مونتين "١٥٣٣-١٥٩٢":
يجمع مؤرخو الآداب الغربية، على أن المقالة الأدبية الحديثة، عرفت سبيلها إلى الحياة على يد الكاتب الفرنسي ميشل دي مونتين. وقد بدأت بذورها تتكون في نفسه عندما اعتزل الحياة العامة، حيث كان يعمل في المحاماة، وترك بوردو إلى مزارعه الريفية سنة ١٥٧٠، وذلك ليعيش حياة يرف عليها الهدوء، وتخصبها القراءة، على حد قوله.
ويمثل مونتين في ثقافته وذوقه، رجل النهضة الفرنسي أحسن تمثيل، وقد ألهبته حماسة أبيه وشغفه بالثقافة الإيطالية الإنسانية، فاتجه هو بدوره إلى دراسة اللاتينية، قبل أن يشدو في الفرنسية، وقد تتلمذ فيها لبعض المشاهير من علماء الكلاسيكيات في عصره.
وهكذا استقطبت ثقافته حول اللاتينية. ومن خلالها استطاع أن يقرأ روائع الأدب الإغريقي، أما عنايته بالأدب الفرنسي، فقد اقتصرت على بعض المؤلفين وخاصة في حقل التاريخ.
وعندما تقدمت به السن أخذ يعنى بمشكلات عصره الفكرية والاجتماعية التي انبثقت من نهضة الأدب الكلاسيكي والفلسفة القديمة، ومن اكتشاف العالم الجديد، وطغت موجتها حتى عمت أوروبا كلها. ولكنه بعد ذلك كله، آثر أن يلجأ إلى مكتبته في مقاطعته الخاصة باسمه. ولم يمض عليه فيها طويل وقت، حتى دفعته الرغبة في تخليد اسمه وجلاء أفكاره، إلى الكتابة والتسجيل.
وأدار مونتين عينيه فيما حوله من أنواع الأدب المقروء والمسموع، فرأى سيلا طاغيا من الحكم والأمثال وجوامع الكلم، التي تحدرت إلى
1 / 25
أوروبا عن الآداب القديمة. وأخذ كتّاب عصر النهضة يختارون منها، ويزيدون عليها، ما يلائم ثفافة العصر وذوقه وروحه. ولهذا وجدناهم يجمعون الحكم والأقوال السائرة، التي تدور حول الحياة والموت، وحول بعض العادات الغريبة، وذكاء الحيوان وقوة الخيال، ولم يكن لهم فيها سوى فضل الاختيار والجمع والتنسيق، أما شخصياتهم فلم تظهر في هذه المجموعات، ولم يكن طبيعيا أن تظهر.
وعندما بدأ مونتين الكتابة، حوالي سنة ١٥٧١، استوحى كتّاب هذه المواعظ والدروس الخلفية. ولم يكن شاذا ولا منحرفا في هذا الاستحياء؛ إذ إن الدافع الذي استحثه على الكتابة كان في طبيعته أخلاقيا تهذيبيا. ولم يكن يطمح آنذاك إلى أن يأتي بعمل فذ جديد، بل كان كل ما يطمح إليه، هو أن يضفر ضميمه من تلك العبارات والأفكار الجميلة الرائعة التي يعبر بها أثناء قراءته. وتبعا لذلك كانت آثاره الأولى لا تختلف اختلافا بينا عن آثار هؤلاء الجماع "المؤلفين"؛ فهي عبارات ملتقطة من هنا وهناك، تدور حول بعض المشكلات الخلقية والمعاشية. وكان كلما مضى في كتابته قدما، يضيف عبارة هنا أو تعليقا هناك. إلا أن هذه الآثار عامة كانت تخلو من العنصر الذاتي خلوا يكاد يكون تاما. وهذه المرحلة التجريبية تمثل الطور الأول من نمو مونتين الأدبي، وقد استغرقت العامين الأولين من أعوام عزلته.
ولكنه ما عتم عقب ذلك، أن أخذ يشق طريقه نحو إبداع فن جديد، يبتعد فيه عن تلك الدروس الخلفية التي احتذى فيها آثار سابقية. وقد حدث ذلك حوالي سنة ١٥٧٤م، وكانت النتيجة التي خلص بها في هذا الطور، هي إبداع هذا الفن الأدبي الجديد، الذي سجل له التاريخ فيه فضل الريادة، وكان ذلك قبل أن تظله سنة ١٥٨٠م.
1 / 26
ولعل السبب الأول الذي أدى إلى هذا التطور هو مزاجه الخاص، والظروف التي أحاطت به آنذاك. فقد استغرق مونتين أثناء عزلته في بعض التأملات، وأخذ ينظر إلى مجتمعه بعين ناقدة، ويستبطن أعماق نفسه بعقل ممحص، وخاصة في فترة المرض الذي انتابه حوالي ١٥٧٨. ولكن هذا كله لا يعلل هذا الاكتشاف الذي توصل إليه، بل كانت ثمة تيارات أدبية قوية، رفدت هذا المجرى الصغير في نفسه، واعدته للاضطلاع بهذه المهمة خير إعداد وأتمه.
تنبئنا المصادر، أنه وقع في سنة ١٥٧٢ تحت تأثير كتابات فلوطارخوس؛ وقد وجد فيها، وخاصة في "الأخلاقيات"، بعض النماذج الأدبية الحية التي تختلف اختلافا بينا عن تلك الشذور الجافة التي كانت عينه تقع عليها في آثار معاصريه، فتكون زادا لقلمه الغض الناشئ. ولم تكن كتابات فلوطارخوس تخلو من الأمثال والأوابد والأقوال السائرة، إلا أن هذه لم تكن قوام فنه الأدبي، بل كانت تمر عرضا أثناء تأملاته وتكتسي بحلة من بيانه الرائع، وتطفو إلى السطح بعد أن تنقحها آراؤه الشخصية، وتخلصها من شوائب الفتور والجمود التي تخالط الحِكم الشعبية عندما تنبت عن مناسباتها الأولى التي ألقيت فيها. وقد تأثر مونتين أيما تأثر بمسحة الطلاقة واليسر التي تلف كتابات فلوطارخوس فتخرج سليمة من التكلف والرهق. وقضى مدة طويلة عاكفا على هذه الآثار الممتعة يستنطقها فتجيب ويستلهمها فينهمر عليه وحيها، والعملية الأدبية سائرة في نفسه سيرتها الطبيعية، تصقل ذوقه وتنقح تعبيره وتمده بصور جديدة وأحاسيس مبتكرة.
وسيرة هذا التحول تتضح في بعض كتاباته التي خطها ببراعه بين سنتي ١٥٧٨ و١٥٨٠، وخاصة في "تربية الأولاد" و"حب الآباء
1 / 27
للأبناء" و"الكتب" و"القسوة" و" من أشبه أباه فما ظلم". وهي تظهرنا على أن مونتين لم يعد قانعا بجمع تلك الفرائد والأقوال المأثورة، التي كانت تسقط في ساحته أثناء تمرسه بعملية القراءة والاقتباس، بل انتقل إلى مرحلة جديدة قوامها التأمل العميق في الموضوعات الخلقية والنفسية. إلا أنه لم يتنازل عن الأمثال وجوامع الكلم مرة واحدة، بل أخذ يختار منها ما كان صالحا للتضمين في كتاباته، ولجمع شتات أفكاره، ثم يرصع بها بعض الصور والحوادث التي يستمدها من ملاحظاته الخاصة وتجاربه الشخصية. ونحن نجد مصداق ذلك في مقالته عن "تربية الأولاد"، فقد استهلها بمبدأ عام يحدد القاعدة الأساسية التي ينبغي أن يستند إليها في تربية الأولاد. ثم انتقل إلى الحديث عن تربيته الخاصة، وعن بعض الأحداث التي مرت به أثناءها.
وهكذا أخذ مونتين يغلب العنصر الشخصي في كتاباته على العناصر التي كانت ترفده من قراءاته المختلفة. ولكنه في معرض حديثه عن تجاربه الخاصة، لا ينسى أن يدعم أفكاره ببعض الأقوال المأثورة، والحكم الجارية مجرى المثل. وتمتاز مقالاته في الطور الثاني بأنها كانت أطول من سابقاتها، وبأنه لم يكن فيها حريصا على التصميم المحكم والتنسيق الدقيق، شأنه في محاولاته الأولى؛ لأنه أصبح يحس الآن بأنه امتلك ناصية الفن، وشق طريقه الخاصة فيه، فله أن يجيل قلمه في شتى الموضوعات بحرية وانطلاق وتدفق.
وفي سنة ١٥٨٠ جمع تلك الفصول التي كان قد كتبها، وعدتها أربعة وتسعون، ونشرها تفي بوردو في جزأين، وسماها "محاولات". وقد نبه القارئ في مقدمته التي كتبها، بأنه إنما يصور نفسه أو شرائح منها، في هذه الشذرات التي يعنى بنشرها على الناس.
1 / 28