3
الفصل التاسع عشر
على أن معارضة هؤلاء النفر من أصحاب الشورى لعثمان لم تكن إلا أيسر المعارضة؛ فقد كان له معارضون آخرون من أصحاب النبي، بل من أعلام الصحابة، وكانت بينه وبينهم خطوب حفظها التاريخ، وتكلم فيها الناس فأكثروا الكلام، واختلفوا فأكثروا الاختلاف. من هؤلاء المعارضين عبد الله بن مسعود الهذلي حليف بني زهرة. وكان عبد الله حين لقي النبي لأول مرة غلاما يرعى غنما لعقبة بن أبي معيط، فأتاه النبي وأبو بكر ذات يوم فاستسقياه . قال الغلام: لا أسقيكما، فإني مؤتمن. قال النبي: فهل عندك شاة لم ينز عليها الفحل؟ فدفع الغلام إليه شاة، فمسح النبي على ضرعها فاحتفل، وجاءه أبو بكر بصخرة متقعرة، فاحتلب منه وشرب وشرب أبو بكر. ثم قال النبي للضرع: اقلص، فعاد كما كان. ومنذ ذلك الوقت أسلم ابن مسعود ولزم النبي. وكان أحفظ أصحابه للقرآن وأرواهم له وأشدهم له إظهارا بمكة. وهاجر ابن مسعود إلى بلاد الحبشة ثم إلى المدينة، فآخى النبي بينه وبين الزبير بن العوام من المهاجرين، وآخى بينه وبين معاذ بن جبل من الأنصار. وشهد ابن مسعود بدرا وأحدا والمشاهد كلها مع النبي. وهو الذي احتز رأسه أبي جهل بعد أن صرع يوم بدر. ولزم ابن مسعود النبي لزوما متصلا في سفره وإقامته، حتى كاد يعد من أهل بيته. فكان أثناء إقامة النبي صاحب إذنه، وكان إذا قام النبي ليخرج ألبسه نعليه ومشى بين يديه بالعصا، فإذا بلغ مجلسه خلع نعليه فوضعهما في كمه ودفع إليه العصا وقام على إذنه.
وكان في السفر صاحب فراش النبي وصاحب وضوئه. وكان النبي يحبه حبا شديدا ويوصي بحبه. ورآه أصحاب النبي يرقى شجرة ذات يوم، فضحكوا من دقة ساقيه. فقال النبي: «إنهما لأثقل في الميزان يوم القيامة من جبل أحد.» ولما توفي النبي ودفع المسلمون إلى الفتح خرج ابن مسعود غازيا إلى الشام ورابط في حمص، فنقله عمر إلى الكوفة، وأوصى أهل الكوفة أن يأخذوا عنه، وقال: «إني آثرتكم به على نفسي.»
وقد شهد ابن مسعود مقتل عمر والبيعة لعثمان، ثم أسرع إلى الكوفة. فلما بلغها خطب الناس فقال: إنا اخترنا خير من بقي ولم نأل، ثم حثهم على البيعة لعثمان.
وتولى ابن مسعود بيت المال في الكوفة حين كان سعد بن أبي وقاص واليا عليها. فلما عزل سعد عن الكوفة ظل ابن مسعود على بيت المال صدرا من أيام الوليد بن عقبة. ثم استقرض الوليد شيئا من بيت المال فأقرضه ابن مسعود، وكان هذا شيئا مألوفا. فلما حل الأجل طلب ابن مسعود إليه الأداء، فالتوى، فألح عليه. فكتب الوليد إلى عثمان يشكو ابن مسعود. وكتب عثمان إلى ابن مسعود: «إنما أنت خازن لنا، فلا تعرض للوليد فيما أخذ من بيت المال.» فغضب ابن مسعود وألقى مفاتيح بيت المال، وأقام في داره يعظ الناس ويعلمهم. ومنذ ذلك الوقت بدأت معارضة ابن مسعود لعثمان في أمور السياسة وفي أمور المال، ثم ازدادت معارضته تعقدا حين وحد عثمان المصحف وجعل كتابته إلى نفر من المسلمين عليهم زيد بن ثابت، وتقدم في إحراق غيره من المصاحف. فأنكر ابن مسعود وأنكر معه كثير من الناس ما كان من تحريق المصاحف. واشتد نقد ابن مسعود لعثمان، وكان يخطب الناس يوم الخميس من كل أسبوع، وكان يقول فيما يقول: «إن أصدق القول كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد
صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.» فكتب الوليد بذلك إلى عثمان وقال: إنه يعيبك ويطعن عليك. فكتب إليه عثمان يأمره بإشخاصه إلى المدينة. فأشخص إليها، وخرج معه أهل الكوفة مشيعين ومودعين أحسن التشييع وأحر التوديع. وبلغ ابن مسعود المدينة، فدخل المسجد وعثمان يخطب على منبر النبي. فلما رأى مدخله قال: ألا إنه قد قدمت عليكم دويبة سوء من يمشي على طعامه يقيء ويسلح. فقال ابن مسعود: لست كذلك، ولكني صاحب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يوم بدر ويوم بيعة الرضوان. ونادت عائشة: أي عثمان، أتقول هذا لصاحب رسول الله
صلى الله عليه وسلم ! ثم أمر عثمان به فأخرج من المسجد إخراجا عنيفا، وضربت به الأرض فدقت ضلعه. وقام علي فلام عثمان في ذلك وقال: تفعل هذا بصاحب رسول الله
صفحه نامشخص