لم يكن نظام الحكم إذن أيام النبي تيوقراطية مقدسة، وإنما كان أمرا من أمور الناس، يقع فيه الخطأ والصواب، ويتاح للناس أن يعرفوا منه وأن ينكروا وأن يرضوا عنه ويسخطوا عليه.
ويظن آخرون أن نظام الحكم أيام النبي وصاحبيه قد كان نظاما ديمقراطيا، وهذا تجوز في الألفاظ وخروج بها عن الدقائق من معانيها. وقد ينبغي أن نتبين معنى الديمقراطية بالدقة قبل أن نقول إن نظام الحكم هذا كان أو لم يكن ديمقراطيا. والديمقراطية لفظ يدل به على حكم الشعب بالشعب وللشعب، أي على أن يختار الشعب حكامه اختيارا حرا، ويراقبهم مراقبة حرة؛ ليتبين أنهم يحكمونه لمصلحته هو لا لمصلحتهم هم، ويعزلهم إن لم يرض عن حكمهم ولم يطمئن إلى الثقة بهم.
كذلك فهمت الديمقراطية في العصور القديمة عند اليونان، وكذلك تفهم الديمقراطية في العصور الحديثة عند الأمم التي تصطنع هذا النظام، على اختلاف مع ذلك في فهم كلمة الشعب؛ فهذه الكلمة كانت تضيق في أيام اليونان مثلا، حتى لا تدل إلا على جماعة ضئيلة من المواطنين لهم وحدهم جميع الحقوق يستوون فيها أمام القانون، على حين لا تستمتع الكثرة الكثيرة من هذه الحقوق بشيء ولا تساهم من أمور الحكم بنصيب. وكان هذا اللفظ يتسع بعد الثورة الفرنسية إلى حيث يشمل عددا ضخما من المواطنين يكون لهم الاستمتاع بالحقوق السياسية، ولكنه لا يشملهم جميعا؛ فهو محدد بملك مقدار من المال، أو أداء مقدار معين من الضرائب، أو تحصيل قدر معين من الثقافة. ثم اتسع في آخر القرن الماضي حتى شمل المواطنين جميعا من الرجال منذ يبلغون الرشد، ثم اتسع في هذا القرن حتى شمل المواطنين من الرجال والنساء منذ يبلغون الرشد. وللديمقراطية بعد ذلك، سواء أكانت ضيقة أم واسعة، نظم مقررة تكفل استمتاع الشعب بحقوقه واختياره لحكامه ومراقبته لهؤلاء الحكام.
فإذا فهمت الديمقراطية على هذا المعنى الدقيق، فليس من شك في أن نظام الحكم في الصدر الأول من حياة المسلمين لم يكن ديمقراطيا؛ فالشعب لم يكن يختار حكامه بهذا المعنى الدقيق، وليس الشعب هو الذي اختار النبي ليبلغه رسالات ربه وليقيم الأمر فيه بالقسط والعدل، ولكن الله أرسل رسوله فاتبعه من اتبعه وخالف عنه من خالف عنه، وإذا قلنا إن الذين اتبعوا النبي من أصحابه قد اختاروه ليكون لهم حاكما، فهم لم يختاروه على النحو الذي يختار عليه الحكام في النظام الديمقراطي، وهم لم يكونوا يراقبونه ولا يحاسبونه، وإنما كان النبي يستشيرهم فيشيرون عليه، وكانوا يشيرون عليه حسبة أحيانا، وكان يقبل منهم أو لا يقبل. وليس من الدقة في شيء أن يقال إن حكم أبي بكر وعمر قد كان حكما ديمقراطيا بالمعنى التدقيق، فليس كل المسلمين قد اختاروا أبا بكر وعمر لأمر الخلافة، وإنما اختارهما فريق بعينه من المسلمين، وهم أولو الحل والعقد من المهاجرين والأنصار، على ما كان بينهم في ذلك من اختلاف أول الأمر.
ولم يستأمر العرب الذين مات النبي وهم مسلمون من أهل مكة والطائف والبادية في اختيار أبي بكر أو عمر، وإنما اختارهما أهل المدينة فسمع لهما سائر المسلمين وأطاعوا؛ ولذلك لم يكن غريبا قول من قال من أصحاب الردة:
أطعنا رسول الله ما كان بيننا
فيا لعباد الله ما لأبي بكر
ثم لم يكن للشعب، بل لم يكن لهذا الفريق من المهاجرين والأنصار، نظام معين مقرر محدد يراقبون به سيرة الخلفاء ويحاسبونهم على ما يأتون وما يدعون، وإنما كان الخلفاء يستشيرونهم فيشيرون عليهم؛ يستشيرونهم مجتمعين حينا ومتفرقين حينا آخر. وكان لمن شاء من المهاجرين والأنصار أن يشير على الخليفة حسبة، فيقبل الخليفة منه أو لا يقبل؛ وإذن فلم يكن نظام الحكم في ذلك الصدر من حياة المسلمين نظاما ديمقراطيا بمعناه الدقيق في الفقه الدستوري عند القدماء أو المحدثين.
فإذا أطلق لفظ الديمقراطية على هذا المعنى العام الذي يفهم منه حاجة الحكام إلى رضا الشعب عنهم وثقة الشعب بهم، وأخذ الحكام أنفسهم بأن يسيروا في الشعب سيرة تقوم على العدل والمساواة، وتبرأ من التسلط والاستعلاء؛ فأنت تستطيع أن تقول: إن نظام الحكم في الصدر الأول للإسلام قد كان نظاما ديمقراطيا بهذا المعنى العام الذي ليس له مقاييس ولا معايير ولا حدود، وسترى أثر ذلك فيما عرض للمسلمين من أمور الفتنة أيام عثمان.
وقوم آخرون قد يظنون أن نظام الحكم في ذلك الصدر من الإسلام قد كان نظام السلطان الفردي العادل، فلم يكن للنبي ولا لصاحبيه من بعده شركاء في الحكم، وإنما كان لهم من أصحابهم مشيرون لا يلزمون بمشورتهم أحدا. ولكن النبي وصاحبيه كانوا على ذلك يتوخون العدل ولا يتوخون غيره. وهذا النحو من التفكير يقرب نظام الحكم إلى حد ما من النظام الذي عرفه الرومان أيام الملوك والقياصرة؛ فقد كان ملوك روما وقياصرتها لا يتوارثون الحكم حتما، وإنما ينتخب أكثرهم له انتخابا، وكان أحدهم إذا انتخب ولي الأمر حياته كلها إلا أن تخلعه منه ثورة أو انتقاض. وكل ما يكون من الفرق بين هذا النظام الروماني وبين النظام الإسلامي أيام النبي وصاحبيه، هو أن العدل كان وحده قوام الحكم فيما عرف المسلمون من هذا النظام؛ على حين كان ملوك الرومان وقياصرتهم يتجاوزون العدل والقسط في كثير من الأحيان. وليس هذا الرأي أكثر دقة من الرأيين السابقين.
صفحه نامشخص