ولم أتحدث عن بلاء عمر رحمه الله فيما دبر من أمور المسلمين، حتى فتحوا الأقطار ومصروا الأمصار وأنشئوا هذه الدول العربية الإسلامية الضخمة، فأنا لم أحاول أن أكتب تاريخ عمر ولا أن ألم بحياته إلماما يسيرا، وإنما أردت إلى أن أبين أن السيرة التي سارها النبي واجتهد صاحباه من بعده في أن يتبعاها، إنما كانت سيرة قوامها العدل الخالص المطلق الذي لا يخشى في الحق لومة لائم، والذي يعلم أن الله يراقبه من جهة في كل لحظة من لحظات الليل والنهار، يراقب منه ما ظهر ويراقب منه ما خفي ويسأل منه عن كل شيء، ويعلم من جهة أخرى أن الناس يراقبونه مراقبة شديدة أذن لهم فيها، بل فرضت عليهم فرضا، فهم مكلفون أن يطيعوا الخليفة ما استقام، وأن يقوموه إن اعوج، وأن يسألوه عما يلتبس عليهم من سيرته ليتبعوه عن علم، ويشيروا عليه عن بصيرة ويخالفوه عن عزيمة وإعذار.
فهل كانت هذه السيرة التي سارها النبي، واجتهد صاحباه في أن يسيراها ما استطاعا إلى ذلك سبيلا، ملائمة لما فطر الناس عليه من الأثرة والطمع والحرص على المنافع العاجلة؟ وهل كانت هذه السيرة قادرة على أن تبقى حتى تغير من طباع الناس فترقى بهم إلى المثل العليا التي دعا إليها النبي وصاحباه؟
الفصل الثالث
وأول ما ينبغي أن نتبينه لنستطيع الإجابة عن هذا السؤال هو طبيعة هذه الحكومة التي حكمت المسلمين منذ أسست الدولة حين هاجر النبي وأصحابه إلى المدينة إلى أن قتل عمر واستخلف عثمان، فقد يظن بعض الذين تخدعهم ظواهر الأمور أن هذه الحكومة، أو بعبارة أدق أن نظام الحكم في هذا العهد القصير، قد كان نظاما ثيوقراطيا يعتمد قبل كل شيء وبعد كل شيء على الدين. ولما كان الدين في هذه البيئة الخاصة دينا سماويا منزلا، فقد يظن أصحاب هذا الرأي أن الحكومة التي كانت تحكم المسلمين في هذا العهد إنما كانت تستمد سلطانها من الله، ومن الله وحده، لا ترى أن للناس شأنا في هذا السلطان، ولا ترى أن من حقهم أن يشاركوا فيه، أو يعترضوا عليه، أو ينكروا منه قليلا أو كثيرا . وقد يخيل إلى الذين يذهبون هذا المذهب أن من أصرح الدلائل على ذلك وأصدقها، أن النبي هو الذي أسس هذه الدولة بأمر من الله عز وجل، فالله أمره أن يهاجر إلى المدينة، والله دعا المسلمين من أهل مكة إلى أن يهاجروا معه، والله أوحى إلى النبي بمجملات ومفصلات من الحكم، والله قال في سورة النجم:
ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى .
والله أمر المسلمين أن يطيعوا الله ورسوله، وبين لهم أنهم لن يؤمنوا حتى يحكموا النبي فيما شجر بينهم، وقد يضيفون إلى ذلك أن أبا بكر كان خليفة رسول الله، وأن عمر كان خليفة أبي بكر؛ فقد تنزل الحكم إذن من النبي إلى هذين الإمامين الراشدين، والنبي إنما تلقى السلطان من الله عز وجل؛ فنظام الحكم إذن في هذا العهد إنما هو النظام التيوقراطي الإلهي لا أكثر ولا أقل. ولا أشك في أن هذا الرأي أبعد الآراء عن الصواب؛ فقد كان الإسلام وما زال دينا قبل كل شيء وبعد كل شيء، وجه الناس إلى مصالحهم في الدنيا وفي الآخرة بما بين لهم من الحدود والأحكام التي تتصل بالتوحيد أولا، وبتصديق النبي ثانيا، وبتوخي الخير في السيرة بعد ذلك، ولكنه لم يسلبهم حريتهم ولم يملك عليهم أمرهم كله، وإنما ترك لهم حريتهم في الحدود التي رسمها لهم، ولم يحص عليهم كل ما ينبغي أن يفعلوا، وكل ما ينبغي أن يتركوا، وإنما ترك لهم عقولا تستبصر، وقلوبا تستذكر، وأذن لهم في أن يتوخوا الخير والصواب والمصلحة العامة والمصالح الخاصة ما وجدوا إلى ذلك سبيلا.
وقد أمر الله نبيه أن يشاور المسلمين في الأمر، ولو قد كان الحكم متنزلا من السماء لأمضى النبي كل شيء بأمر ربه لم يشاور فيه أحدا ولم يؤامر فيه وليا من أوليائه، فكيف والله يقول له:
ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر . ومن قبل هذه الآية التي نزلت فيما نزل من القرآن بعد محنة أحد، قبل النبي مشورة أصحابه في غزوة بدر حين نزل بهم منزلا فسأله بعضهم: أعن أمر من الله نزل بهم هذا المنزل، أم هو الرأي والمكيدة؟ فقال: بل هو الرأي والمكيدة. فأشير عليه حينئذ أن يمضي بالمسلمين عن هذا المنزل الذي لم يكن يلائم خطط الحرب حتى ينزل بهم في المنزل الملائم قريبا من الماء. ثم قبل رأي أصحابه بعد وقعة بدر فيما كان من أمر الأسرى، وتعرض في ذلك لما أصابه من اللوم الذي نزل به القرآن في قول الله عز وجل:
ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة . وكان النبي يرى حين بلغه سير قريش إليه في وقعة أحد أن يقيم في المدينة ولا يخرج بأصحابه للقاء قريش بالعراء، وأن يذود قريشا إن هاجمت المدينة، ولكن أصحابه، والأنصار منهم خاصة، ألحوا في الخروج إلى عدوهم، فنزل النبي عند رأيهم، ثم دخل ليلبس لأمته، وندم المسلمون أثناء ذلك لأنهم استكرهوا رسول الله على ما لم يحب، فلما خرج إليهم في سلاحه اعتذروا إليه واستأذنوه في الرجوع إلى رأيه، فأبى ومضى على عزيمته. ولو كان الحكم إلهيا يتنزل دائما من السماء لما استطاع المسلمون أن يستكرهوا رسول الله على ما لا يريد، ولما قبل النبي منهم ذلك مهما تكن الظروف. وعن المشورة والاعتماد على رأي أصحابه صدر النبي حين أمر بحفر الخندق في غزوة الأحزاب.
ففي هذه المواطن كلها وفي مواطن أخرى شاور النبي أصحابه وقبل رأيهم عن رضا، أو نزل عند رأيهم إيثارا لرضاهم، فلما كان يوم الحديبية شاور النبي أصحابه بعد أن عرضت عليه قريش ما عرضت من الرجوع عن مكة عامه ذاك دون أن يزور البيت، فكره أصحابه إجابة قريش إلى ما طلبت، وألح النبي في ذلك، وضاق بعض أصحابه بهذا الإلحاح، حتى قال له عمر: لم نعطي الدنية في ديننا؟! هنالك ظهر الغضب في وجه النبي، وقال: أنا رسول الله وعبده. فعلم المسلمون أن الأمر ليس أمر مشورة ومفاوضة، وإنما هو أمر قد نزل به الوحي من السماء، فتابوا إلى الله وثابوا إلى نبيهم، وأنزل الله في ذلك:
صفحه نامشخص