فتنه کبری: علی و بنوه
الفتنة الكبرى (الجزء الثاني): علي وبنوه
ژانرها
وليس غريبا كذلك أن يكتب إلى ابن عباس بما كتب، فهو لم يتعود الرفق في أمر المال ولا الإدهان في أمر من أمور المسلمين، ولكن الغريب هو أن يتلقى ابن عباس هذا الكتاب فلا يزيد على أن يكتب إلى علي: «أما بعد، فإن الذي بلغك باطل، وأنا لما تحت يدي أضبط وأحفظ، فلا تصدق علي الأظناء، رحمك الله، والسلام .»
كتاب لا يبرئ صاحبه ولا يرضي قارئه، وإنما يدل على غلو في الثقة بالنفس واستخفاف بغيره من الناس، وابن عباس بعد ذلك قد صحب عمر وعرف سيرته وتشدده في حساب العمال، وهو قد صحب ابن عمه وعرف أنه لا يرق في أمر المال ولا يلين، ومن أجل ذلك لم يقنع علي بهذا الكتاب الذي لا يغني عنه ولا عن صاحبه شيئا، فكتب إلى ابن عباس يتشدد في مطالبته برفع حسابه إليه مفصلا ما يريد من ذلك: أما بعد، فإنه لا يسعني تركك حتى تعلمني ما أخذت من الجزية، ومن أين أخذته، وفيما وضعت ما أنفقت منه؟ فاتق الله فيما ائتمنتك عليه واسترعيتك حفظه؛ فإن المتاع بما أنت رازئ منه قليل، وتبعة ذلك شديدة، والسلام.
والغريب أن ابن عباس تلقى هذا الكتاب فلم يكد يقرؤه حتى خرج عن طوره، فلم يصنع صنيع العامل الذي يرفع إلى أمير المؤمنين حساب ما كلف حفظه وضبطه من أموال المسلمين، ولم يصنع صنيع ابن العم الذي يرعى لابن عمه حق القرابة وإخاء الصديق، ولم يصنع صنيع الراعي الذي يعرف للإمام حقه في أن يستقصي أمر ما اؤتمن عليه من أموال الأمة ومصالحها، فيعينه على ما يريد من ذلك، ويذكره به إن نسيه، ويعظه فيه إن قصر في ذاته. لم يصنع صنيع أحد من هؤلاء، وإنما جعل نفسه ندا لإمامه وكفئا لخليفته، ورأى أنه أكبر من أن يسأله إمامه عن شيء أو يحاسبه في شيء، فضلا عن أن يتهمه أو يتظنن فيه، وابن عباس كان أعلم الناس بأن سنة الشيخين قد جرت على أن يكون لكل مسلم الحق في أن يحاسب الإمام ويسأله عما يأتي وما يدع. وجرت كذلك على أن من حق الإمام، بل من الحق عليه أن يحاسب الولاة والعمال عن كل ما يأتون ويدعون، وأن يشتد في ذلك ليعصم عماله وولاته من التقصير، وليجعلهم بمأمن من أن يسوء بهم ظن الرعية ويفسد فيهم رأي الضعفاء الذين لا يستطيعون أن يتقوا ظلمهم أو يأمنوا غوائلهم إذا خلي بينهم وبين السلطان يصرفونه كما يحبون.
وكان ابن عباس يعلم حق العلم أن سنة عمر جرت على أن يسمع من الرعية كل ما يعيبون على ولاتهم وعمالهم بمشهد من هؤلاء الولاة والعمال أو بغيب منهم، وكان يحقق كل ما يرفع إليه من ذلك تحريا للعدل وإبراء لذمته أمام الله والناس، وكان يعلم أن عمر كثيرا ما قاسم الولاة أموالهم بعد اعتزالهم عمله، وأنه كان يحصي عليهم أموالهم حين يوليهم ويحصيها عليهم بعد أن يعزلهم، وكانوا يقبلون منه ذلك في غير إنكار له أو ضيق به أو إكبار لأنفسهم عنه، وكان فيهم نفر من خيرة أصحاب النبي، ثم كان ابن عباس يعلم أن كثيرا من المسلمين - وعسى أن يكون منهم - قد أنكروا على عثمان إسرافه في الأموال العامة، وأنكروا على ولاته وعماله ما أظهروا من الأثرة وما تورطوا فيه من العبث بهذه الأموال العامة، وأن عثمان قتل في سبيل هذا كله، وأن ابن عمه إنما قام ليحي سنة النبي والشيخين، فهو لم يتجاوز حده ولم يعد قدره حين طلب إلى أحد عماله - وإن كان ابن عباس - أن يقدم إليه حساب ما عنده من الأموال العامة.
وكان ابن عباس بعد هذا كله أعرف الناس بابن عمه وأقدرهم على أن يخاطبه الخطاب الذي يبلغ من نفسه الرضى، دون أن يسوءه أو يحفظه أو يشق عليه، كان يستطيع أن يكتب إليه في رفق ليبين له أنه لم يأخذ من الجزية لنفسه شيئا، ولم يضع منها شيئا في غير حقه، وكان يستطيع أن يلم به في الكوفة ويظهره على الجلي من أمره، ولكنه أعرض عن هذا كله وأنف أن يسير معه علي سيرته مع غيره من العمال، فاعتزل عمله، ولكنه مع ذلك لم يستعف إمامه، ولم ينتظر أن يعفيه، وإنما أعفى نفسه وترك المصر، ثم لم يتركه ليعود إلى الكوفة أو ليقيم في العراق، أو في حيث يستطيع الإمام أن يأخذه بتقديم الحساب ويسأله عن عمله قبل أن يعتزله، وإنما ترك المصر ولحق بمكة حيث لا يبلغه سلطان الإمام، وحيث لا يقدر الإمام على أن يناله بالعقاب، إن تبين استحقاقه للعقاب، وإنما أقام بالحرم آمنا بأس إمامه علي وبأس خصمه معاوية.
ثم لم يكتف بهذا الخطأ كله وإنما صرح لابن عمه عما يؤذي نفسه ويترك في قلبه وضميره حزنا لاذعا وألما ممضا، فأعلن إليه أنه يؤثر أن يلقى الله وفي ذمته شيء من أموال المسلمين، على أن يلقى الله وفي ذمته تلك الدماء التي سفكت يوم الجمل، والتي سفكت في صفين، والتي سفكت في النهروان، ثم يضيف إلى ذلك ما هو أمض منه وأشد إيذاء، فيزعم لابن عمه أنه سفك ما سفك من دماء المسلمين في سبيل الملك؛ فهو إذن لم يكن يعتقد أن عليا إنما قاتل في سبيل الحق، وقاتل قوما كان يجب عليه أن يقاتلهم.
كتب هذا كله إلى ابن عمه ولم ينس إلا شيئا يسيرا جدا خطيرا جدا، وهو أنه شارك ابن عمه في سفك هذه الدماء، فشهد الجمل، وشهد صفين، وقاد جيوش ابن عمه في هاتين الموقعتين، فهو إذن لن يلقى الله بما قد يكون في ذمته من أموال المسلمين فحسب، ولكنه سيلقاه بما في ذمته من هذه الدماء التي شارك في سفكها، مع الفرق بينه وبين علي؛ لأن عليا سفكها وهو مؤمن بأنه يقاتل في سبيل الحق، وهو سفكها وهو يعتقد أنه يقاتل في سبيل الملك.
ولذلك قرأ علي كتاب ابن عمه، فلم يزد على أن قال هذه الجملة التي تصور الحزن اللاذع واليأس الممض من الصديق والعدو: «وابن عباس لم يشاركنا في سفك هذه الدماء!»
واقرأ كتاب ابن عباس إلى ابن عمه وإمامه لترى مقدار ما فيه من الغلظة والقسوة، وجحود ما مضى من إخائه لعلي قبل الخلافة ونصحه له بعد الخلافة: «أما بعد، فقد فهمت تعظيمك علي مرزئة ما بلغك أني رزأته أهل هذه البلاد، ووالله لأن ألقى الله بما في بطن هذه الأرض من عقيانها ولجينها وبطلاع ما على ظهرها أحب إلي من أن ألقاه وقد سفكت دماء الأمة لأنال بذلك الملك والإمارة، فابعث إلى عملك من أحببت.»
وإلى هنا جرت الأمور على نحو من المغاضبة بين الخليفة وبين عامله، ثم بين رجل وابن عمه، على نحو من العنف كان خليقا أن يجتنب لو ذكر ابن عباس سيرة الشيخين وسيرة علي، ولو نسي ابن عباس نفسه قليلا، ولكنه لم ينس نفسه قليلا ولا كثيرا، ولم يضعها بحيث كان يجب عليه أن يضعها منذ قبل أن يكون واليا لعلي على مصر من أمصار المسلمين، وبعد أن بايع عليا على العمل بكتاب الله وسنة رسوله والعدل بين الرعية.
صفحه نامشخص