فتنه کبری: علی و بنوه
الفتنة الكبرى (الجزء الثاني): علي وبنوه
ژانرها
ومهما يكن من شيء فقد اتفق الفريقان على أن يحكموا هذين الحكمين، يحكمون عمرا من قبل معاوية ويحكمون أبا موسى من قبل علي، وأبى أصحاب علي على إمامهم أن يختار ابن عباس؛ لأنه شديد القرب منه، وأبوا عليه أن يختار الأشتر لأن اجتهاده في الحرب كان عظيما وحرصه على الغلب كان شديدا، ولم يستطع علي أن يقبل ما عرضه عليه الأحنف بن قيس من أن يكون مندوبه في الحكم، بل لم يستطع أن يجعله ثانيا لأبي موسى؛ لأن أصحابه أبوا إلا أن يندبوا أميرهم القديم الذي كره لهم الفتنة والذي لم يشترك في الحرب مع هذا الخصم أو ذاك، ولم يذكروا أن عمرو بن العاص قد شارك في الحرب برأيه ولسانه وسيفه، بل لعلهم ذكروا ذلك ولكنهم لم يقفوا عنده ولم يلتفتوا إليه.
واجتمع المفوضون من الفريقين فكتبوا صحيفة سجلوا فيها ما اتفق عليه الخصمان من وضع الحرب وإيثار الحكومة واختيار الحكمين وتحديد الزمان والمكان لاجتماعهما، وتأمينهما على أنفسهما وأموالهما مهما يكن حكمهما، واستنصار الأمة كلها على من خالف عما في هذه الصحيفة.
حددوا هذا كله تحديدا دقيقا، ولكن شيئا واحدا أطلقوه إطلاقا ولم يحددوه تحديدا قريبا أو بعيدا، وهو موضوع القضية التي يجب أن يفصل فيها الحكمان، واقرأ أولا نص هذه الصحيفة كما رواه البلاذري: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، قاضى علي على أهل العراق ومن كان من شيعتهم من المؤمنين والمسلمين، وقاضى معاوية على أهل الشام ومن كان من شيعتهم من المؤمنين والمسلمين: أنا ننزل عند حكم الله، وبيننا كتاب الله فيما اختلفنا فيه من فاتحته إلى خاتمته، نحيي ما أحيا ونميت ما أمات، فما وجد الحكمان في كتاب الله فإنهما يتبعانه، وما لم يجداه مما اختلفا فيه في كتاب الله نصا أمضيا فيه السنة العادلة الحسنة الجامعة غير المفرقة، والحكمان عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص، وأخذنا عليهما عهد الله وميثاقه ليحكمان بما وجدا في كتاب الله نصا، فما لم يجداه في كتاب الله مسمى، عملا فيه بالسنة الجامعة غير المفرقة، وأخذا من علي ومعاوية ومن الجندين كليهما وممن تأمرا عليه من الناس عهد الله ليقبلن ما قضيا به عليهما، وأخذا لأنفسهما الذي يرضيان به من العهد ومن الثقة بالناس أنهما آمنان على أنفسهما وأهليهما وأموالهما، وأن الأمة لهما أنصار على ما يقضيان به على علي ومعاوية، وعلى المؤمنين والمسلمين من الطائفتين كلتيهما، وأن على عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه أن يصلحا بين الأمة ولا يرداهم إلى فرقة ولا حرب، وأن أجل القضية إلى شهر رمضان، فإن أحبا أن يعجلاها دون ذلك عجلا، وإن أحبا أن يؤخراها عن غير ميل منهما أخراها، وإن مات أحد الحكمين قبل القضاء فإن أمير كل شيعة وشيعته يختارون مكانه رجلا، لا يألون عن أهل المعدلة والنصيحة والإقساط، وأن يكون مكان قضيتهما التي يقضيانها فيه مكان عدل بين الكوفة والشام والحجاز، لا يحضرهما فيه إلا من أرادا، فإن رضيا مكانا غيره فحيث أحبا أن يقضيا، وأن يأخذ الحكمان من كل واحد من شاءا من الشهود، ثم يكتبا شهادتهم في هذه الصحيفة أنهم أنصار على من ترك ما فيها: اللهم نستنصرك على من ترك ما في هذه الصحيفة وأراد فيها إلحادا أو ظلما ...
وشهد من كل جند على الفريقين عشرة، من أهل العراق: عبد الله بن عباس، والأشعث بن قيس، وسعد بن قيس الهمداني، وورقاء بن سمي، وعبد الله بن طفيل، وحجر بن عدي الكندي، وعبد الله بن حجل الأرحبي البكري، وعقبة بن زياد، ويزيد بن حجبة التميمي، ومالك بن كعب الأرحبي.
ومن أهل الشام: أبو الأعور عمرو بن سفيان السلمي، وحبيب بن مسلمة الفهري، والمخارق بن الحارث الزبيدي، وزمل بن عمرو العذري، وحمزة بن مالك الهمداني، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد المخزومي، وسبيع بن يزيد الحضرمي، وعلقمة بن يزيد الحضرمي، وعتبة بن أبي سفيان، ويزيد بن الحر العبسي.»
وقد رويت هذه الصحيفة من غير طريق البلاذري على شيء من الاختلاف في اللفظ ليس بذي خطر، وعلى شيء من التقديم والتأخير ليس بذي خطر أيضا، ولكن الخطير كما قدمنا هو أن الفريقين قد حددا في صحيفتهما كل شيء إلا هذا الموضوع الذي اختلفا فيه والذي يجب أن يقضي فيه الحكمان.
ففيم كانا يختلفان بالفعل؟ كان معاوية يطلب بدم عثمان ويريد أن يسلم إليه علي قتلة الخليفة المظلوم، وكان علي لا يعرف لعثمان قاتلا بعينه ولا يقدر على أن يسلم إلى معاوية جميع من ثاروا بعثمان حتى قتل. أفكان الفريقان يريدان من الحكمين أن يفصلا في هذه القضية؟ وإذن فما بالهما لم ينصا عليها بل لم يذكرا عثمان وقتلته في الصحيفة أصلا؟
وكان معاوية يرى بعد مقتل طلحة والزبير، وبعد أن استحصد أمره واشتد بأسه أن يكون أمر الخلافة شورى بين المسلمين، وكان علي يرى أنه قد بويع كما بويع الخلفاء من قبله، بايعه أهل الحرمين وهم أصحاب الحل والعقد، وبايعه أهل الأمصار إلا الشام، فقد اجتمعت له إذن بيعة الكثرة الكثيرة من المسلمين عامة، ومن المهاجرين والأنصار خاصة، ولم يبق لمعاوية إلا أن يدخل فيما دخل فيه الناس، ويدخل معه أصحابه من أهل الشام، فإن لم يفعلوا فهم الفئة الباغية التي أمر المسلمون بقتالها إن أبت الصلح وكرهت العافية حتى تفيء إلى أمر الله. وإذن فما بال الفريقين لم ينصا على ذلك في صحيفتهما؟! بل لم يذكرا الخلافة ولا الشورى في الصحيفة أصلا! والغريب أن هذه الصحيفة التي رواها المؤرخون قد أرضت الفريقين المختصمين، لم ينكرا فيها غموضا ولا عموما ولا إبهاما، مع أنها من أشد ما كتب المسلمون غموضا وعموما وإبهاما فيما يتصل بموضوع القضية الذي كان يجب أن يحدد تحديدا لا لبس فيه!
وأكبر الظن أن الذين كتبوا الصحيفة من الفريقين لم يحفلوا بدقة ولا بتحديد، وإنما كرهوا الحرب وسئموا القتال وتعجلوا السلم، وكان أصحاب معاوية يكفيهم أن تنحسر الحرب عنهم وأن يختلف أهل العراق، وكانت عامة أهل العراق يكفيهم أن يثوبوا إلى السلم، وكان الماكرون منهم - إن استقام الفرض الذي افترضته آنفا - يعنيهم أن تكون القضية غامضة غير بينة الحدود، يرون ذلك أنفع لمعاوية وأضر لعلي، وأحرى أن ينيلهم من السلطان ومتاع الدنيا ما يريدون.
وهذا كله يفسر لنا ما كان بعد أن كتبت هذه الصحيفة من الاختلاف في صفوف أهل العراق، والائتلاف في صفوف أهل الشام، وأكبر الظن أن عليا ضاق بأصحابه حين رأى أنهم يعصونه في كل ما يأمرهم به أو يشير عليهم فيه، فخلى بينهم وبين ما أرادوا، وتمثل قول دريد بن الصمة:
صفحه نامشخص