Fiqh Lessons - Suleiman Al-Laheimid
دروس فقهية - سليمان اللهيميد
ژانرها
دروس فقهية
بقلم
سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية - رفحاء
الموقع/ رياض المتقين
www.almotaqeen.net
1 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد
وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد
فهذه دروس فقهية مرتبة على كتب الفقه، جمعتها ورتبتها مع ذكر أدلتها
لعلها أن تكون عونًا - بعد الله - على تعلم الفقه وفهمه
واخترت المتن من كتب المتون العلمية في مذهب الحنابلة
(زاد المستقنع - عمدة الفقه - عمدة الطالب - دليل الطالب - أخصر المختصرات).
اللهم إنا نسألك علمًا نافعًا، وعملًا صالحًا، ورزقًا طيبًا.
أخوكم
سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية - رفحاء
1 / 2
كتاب الطهارة
يبدأ العلماء مؤلفاتهم الفقهية بكتاب الطهارة:
أولًا: لأن الطهارة شرط لصحة الصلاة لقوله تعالى (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا …).
ثانيًا: أن الطهارة تخلية وتنظيف والتخلية قبل التحلية.
ثالثًا: لأجل أن يتذكر المتعلم بتطهير بدنه تطهير نيته وقلبه لله ﷿.
• تعريف الطهارة:
الطهارة لغة: النظافة والنزاهة عن الأقذار الحسية والمعنوية.
فالأقذار الحسية: كالبول ونحوه، والمعنوية: كالشرك والحسد والبغض وأمراض القلوب وكل خلق ذميم.
واصطلاحًا: ارتفاع الحدث وما في معناه وزوال الخبث.
الحدث: هو الوصف القائم بالبدن من المانع من الصلاة ونحوها مما يشترط له الطهارة، ويدخل في هذا الوصف البول والريح وأكل لحم الإبل.
وما في معناه: أي وارتفاع ما في معنى ارتفاع الحدث، كتجديد الوضوء، فهو طهارة، وكذا الأغسال المسنونة.
وزوال الخبث: أي النجاسة، فإذا وقعت على ثوبه نجاسة فطهرها، هذه تسمى طهارة.
فالطهارة: ارتفاع الحدث، وزوال الخبث.
فائدة: الحدث أمر معنوي؛ لذا يعبَّر معه بالرفع، أما الخبث فأمر حسي؛ لذا يعبر معه بالإزالة.
1 / 3
باب المياه
يبدأ الفقهاء بأحكام بالمياه، لأن الماء هو الأصل في التطهير.
(خُلقَ الماءُ طَهورًا).
أي: أنه طاهر في نفسه، مطهر لغيره، فالأصل في الماء الطهارة.
فإذا وجد عندنا ماء ولا نعلم هل هو طاهر أو نجس، فالأصل الطهارة.
قال تعالى (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا).
وقال تعالى (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ).
وقال ﷺ في البحر (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) رواه أبو داود.
وقال ﷺ (إن الماء طهور لا ينجسه شيء) رواه أبو داود.
• تعريف الماء الطهور: هو الماء الطهور هو الماء الذي لم يتغير بنجاسة أو بطاهر ينقله عن اسم الماء المطلق.
(يطهرُ من الأحداثِ والنجاسَاتِ).
لأنه كما تقدم أن الطهارة قسمان: طهارة من حَدَث، وطهارة من خبث.
الأحداث: جمع حدث: وهو الوصف القائم بالبدن من المانع من الصلاة ونحوها مما يشترط له الطهارة، ويدخل في هذا الوصف البول والريح وأكل لحم الإبل، وهو ينقسم إلى حدث أكبر، وإلى حدث أصغر.
الحدث الأكبر: هو ما يوجب الغسل، كالحيض، والجنابة، والنفاس.
الحدث الأصغر: هو ما يوجب الوضوء، كالبول، والغائط، وسائر نواقض الوضوء.
والنجاسات: جمع نجاسة، وهي كل عين مستقذرة شرعًا، فإذا وقعت على ثوب إنسان نجاسة فطهرها، هذه تسمى طهارة.
فالماء يطهر من الحدث، ويطهر من النجاسات.
1 / 4
• الفرق بين طهارة الحدث وإزالة النجاسة:
أولًا: طهارة الحدث تشترط لها النية على الصحيح بخلاف إزالة النجاسة. (رجل جاء على ثوبه بول، ثم جاءت الأمطار ونظفته، وهو لم ينوي فانه يطهر).
ثانيًا: طهارة الحدث لا تسقط بالجهل والنسيان، لأنه من باب الأوامر، بخلاف طهارة الخبث لأنه من باب التروك.
فلو أن رجلًا أكل لحم جزور - وهو لا يعلم - ثم صلى، وبعد الصلاة علم، فإنه يجب أن يعيد الصلاة.
ثالثًا: طهارة الحدث طهارة تعبدية غير معقولة المعنى، بخلاف طهارة الخبث فإنها طهارة معللة بوجود النجاسة الحسية.
رابعًا: طهارة الحدث لابد من الماء بخلاف طهارة الخبث على القول الراجح كما سيأتي إن شاء الله.
• فتجوز طهارة الحدث والنجس بالماء المطلق على أيّ صفة كان من أصل الخلقة.
قال ابن قدامة: وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، إلَّا أَنَّهُ حُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّهُمَا قَالَا فِي الْبَحْرِ: التَّيَمُّمُ أَعْجَبُ إلَيْنَا مِنْهُ.
هُوَ نَارٌ.
وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ.
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى:
أ-لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا) وَمَاءُ الْبَحْرِ مَاءٌ، لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ إلَى التَّيَمُّمِ مَعَ وُجُودِهِ.
ب- وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ (سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ، وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنْ الْمَاءِ، فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا، أَفَنَتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْبَحْرِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
ج-وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ ﵁ أَنَّهُ قَالَ (مَنْ لَمْ يُطَهِّرْهُ مَاءُ الْبَحْرِ فَلَا طَهَّرَهُ اللَّهُ).
د-وَلِأَنَّهُ مَاءٌ بَاقٍ عَلَى أَصِلْ خِلْقَتِهِ، فَجَازَ الْوُضُوءُ بِهِ كَالْعَذْبِ.
وَقَوْلُهُمْ (هُوَ نَارٌ) إنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ نَارٌ فِي الْحَالِ فَهُوَ خِلَافُ الْحِسِّ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ يَصِيرُ نَارًا، لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ الْوُضُوءَ بِهِ حَالَ كَوْنِهِ مَاءً. … (المغني).
1 / 5
قال النووي: وأما ماء البحر فجمهور العلماء من الصحابة فمن بعدهم على أنه لا يكره كمذهبنا: وحكى الترمذي في جامعه وابن المنذر في الإشراف وغيرهما عن عبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو بن العاص ﵄ أنهما كرها الوضوء به، وحكاه أصحابنا أيضًا عن سعيد بن المسيب.
واحتج لهم بحديث روى عن ابن عمرو عن النبي ﷺ (تحت البحر نار وتحت النار بحر حتى عد سبعة وسبعة). رواه أبو داود في سننه
واحتج أصحابنا بحديث (هو الطهور ماؤه) وبحديث (الماء طهور).
ولأنه لم يتغير عن أصل خلقته فأشبه غيره.
وأما حديث (تحت البحر نار) فضعيف باتفاق المحدثين، وممن بين ضعفه أبو عمر بن عبد البر، ولو ثبت لم يكن فيه دليل ولا معارضة بينه وبين حديث هو الطهور ماؤه. (المجموع).
• قوله (والنجاسات) المراد بالنجاسة هنا الطارئة، لأن النجاسة تنقسم إلى قسمين:
أ- نجاسة عينية: وهي التي تكون عين الشيء وذاته نجسة، مثل: العذرة، مثل البول، العذرة ذاتها نجسة، عينها نجسة، البول: ذاته نجس، روث الحمار ذاته نجسة، الكلب: عينه نجس، ذاته نجسة.
ب- نجاسة طارئة: هي التي وردت على محل طارئ، مثلًا: عندك ثوب طاهر ثم وقعت عليه نجاسة، فهذه النجاسة تسمى الطارئة، ويسميها العلماء أيضًا حكمية.
فالماء لا يرفع إلا النجاسة الطارئة، أما النجاسة العينية: هذه ما يطهرها الماء، ولو جئت بالكلب وغسلته بماء البحر ما طهر، لكن
النجاسة العينية تطهر في الاستحالة: إذا انقلبت من عين إلى عين أخرى طهرت.
1 / 6
(فَلَا تحصُلُ الطهَارَةُ بمائعٍ غيْرِهِ).
أي: فلا تحصل الطهارة من الأحداث والنجاسات إلا بالماء.
أما الحدث (سواء كان حدثًا أكبر أو أصغر) لا يرتفع إلا بالماء، وهذا قول جماهير العلماء.
أ- لقوله تعالى (فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ).
قال ابن قدامة: وهذا نص في الانتقال إلى التراب عند عدم الماء.
ب- ولقوله ﷺ (الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين).
وأما النجاسة: فقد اختلف العلماء، هل يشترط الماء لإزالة النجاسة أم لا على قولين (كأن يصيب ثوبه بول أو دم مسفوح هل يشترط الماء أم لا)؟
القول الأول: أنه لابد من الماء.
وهذا مذهب مالك، والشافعي، والحنابلة، واختاره ابن المنذر.
أ- لقوله تعالى (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ).
وجه الدلالة: ذكره سبحانه امتنانًا، فلو حصل بغيره لم يحصل الامتنان.
ب-لحديث أنس. قال (جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي طَائِفَةِ الْمَسْجِدِ، فَزَجَرَهُ النَّاسُ، فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ ﷺ، فَلَمَّا قَضَى بَوْلَهُ أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ، فَأُهْرِيقَ عَلَيْهِ) متفق عليه.
وجه الدلالة: أن النبي ﷺ حينما أراد التطهير من بول الأعرابي أمر بالماء، وهذا دال على الوجوب وعلى اختصاص الماء بالتطهير.
ج- ولحديث أَسْمَاء قَالَتْ (جَاءَتِ امْرَأَةٌ النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَتْ أَرَأَيْتَ إِحْدَانَا تَحِيضُ فِي الثَّوْبِ كَيْفَ تَصْنَعُ قَالَ تَحُتُّهُ، ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ، وَتَنْضَحُهُ وَتُصَلِّى فِيهِ) متفق عليه.
وجه الدلالة: أن الرسول ﷺ أرشد في تطهير الثوب من دم الحيض بالماء، ولم يرشد إلى غيره، فتعين الماء في إزالة نجاسة الثوب من دم الحيض لكونه هو المنصوص عليه، وباقي النجاسات مقيسة عليه.
د- قالوا: إذا كانت طهارة الحدث لا تكون إلا بالماء مع وجوده، فكذلك إزالة النجاسة لا تكون إلا بالماء.
1 / 7
القول الثاني: أنه لا يشترط الماء.
وهذا قول الحنفية، واختاره ابن تيمية.
قال ابن تيمية ﵀:. . . فإن العلماء اختلفوا في النجاسة إذا أصابت الأرض وذهبت بالشمس أو الريح أو الاستحالة، هل تطهر الأرض على قولين: أحدهما: تطهر، وهو مذهب أبي حنيفة .. وهو الصحيح في الدليل.
أ-لحديث ابن عمر (أن الكلاب كانت تقبل وتدبر وتبول في مسجد رسول الله ﷺ لم يكونوا يرشون شيئًا من ذلك) رواه البخاري دون ذكر (البول).
ب- ولحديث أَبِي سَعِيد الْخُدْرِي، قَالَ (بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ ﷺ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ إِذْ خَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْقَوْمُ أَلْقَوْا نِعَالَهُمْ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ ﷺ صَلَاتَهُ، قَالَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى إِلْقَاءِ نِعَالِكُمْ، قَالُوا: رَأَيْنَاكَ أَلْقَيْتَ نَعْلَيْكَ فَأَلْقَيْنَا نِعَالَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: إِنَّ جِبْرِيلَ ﷺ أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرًا - أَوْ قَالَ: أَذًى -وَقَالَ: إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلْيَنْظُرْ: فَإِنْ رَأَى فِي نَعْلَيْهِ قَذَرًا أَوْ أَذًى فَلْيَمْسَحْهُ وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا) رواه أبو داود.
وجه الدلالة: أن الرسول ﷺ أرشد إلى تطهير النعلين بالتراب، وهو غير الماء.
ب- وقالوا: إن النجاسة عين خبيثة، فإذا زالت زال حكمها.
وهذا القول هو الراجح.
• وأما الجواب عن أدلة الجمهور:
أما الآية (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ) فالجواب أن يقال: إن امتنان الله ﷾ بطهورية الماء، وكونه مطهرًا للأشياء، لا يعني قصر هذا الحكم عليه. (أحكام النجاسات).
1 / 8
وأما الجواب عن الحديثين:
فيقال: إن المقصود بذلك تعجيل تطهير المسجد، إذ لو تركه حتى تطهره الشمس لتأخر تطهيره، فليس في الحديث حصر التطهير بالماء. [ابن تيمية].
وأيضًا يقال: إن هذا فيه دلالة أن الماء يزيل النجاسة فهذا لا إشكال فيه لكن لا يدل على أن النجاسة لا تزال إلا بالماء.
• وقد سئل الشيخ محمد صالح العثيمين ﵀: هل تطهر النجاسة بغير الماء؟ وهل البخار الذي تغسل به الأكوات مطهر لها؟
فأجاب: إزالة النجاسة ليست مما يتعبد به قصدًا، أي أنها ليست عبادة مقصودة، وإنما إزالة النجاسة هو التَّخلي من عين خبيثة نجسة، فبأي شيء أزال النجاسة، وزالت وزال أثرها، فإنه يكون ذلك الشيء مطهرًا لها، سواء كان بالماء أو بالبنزين، أو أي مزيل يكون، فمتى زالت عين النجاسة بأي شيء يكون، فإنه يعتبر ذلك مطهرًا لها، حتى إنه على القول الراجح الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، لو زالت بالشمس والريح فإنه يطهر المحل، لأنها كما قلت: هي عين نجسة خبيثة، متى وجدت صار المحل متنجسًا بها، ومتى زالت عاد المكان إلى أصله، أي إلى طهارته، فكل ما تزول به عين النجاسة وأثرها - إلا أنه يعفى عن اللون المعجوز عنه - فإنه يكون مطهرًا لها. ("مجموع فتاوى ابن عثيمين).
(وهو ثلاثة أنواع).
أي: أن الماء ثلاثة أنواع: طهور، وطاهر، ونجس.
وهذا هو المذهب، وهو قول مالك، والشافعي.
أ- لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ ﷺ فِي اَلْبَحْرِ: (هُوَ اَلطُّهُورُ مَاؤُهُ، اَلْحِلُّ مَيْتَتُهُ) رواه أبو داود.
وجهُ الدَّلالةِ: أنَّ الصَّحابة يعلمونَ أنَّ ماءَ البَحرِ طاهِرٌ وليس نَجِسًا- بلا شكٍّ- فسؤالُهم إنَّما كان عن تطهيرِ ماءِ البَحرِ لا عن طهارَتِه، وهذا يدلُّ على أنَّ هناك ماءً طاهرًا ليس بطَهور.
1 / 9
ب- وعنه. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ ﷺ (لَا يَغْتَسِلُ أَحَدُكُمْ فِي اَلْمَاءِ اَلدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ) أَخْرَجَهُ مُسْلم.
ج- وَعَنْه. قال: قال ﷺ (إِذَا اِسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسُ يَدَهُ فِي اَلْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدَهُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
وجهُ الدَّلالة: أنَّه قد ورد النَّهيُ عن الاغتسالِ في هذه المياهِ، مع عدم نجاسَتِها، فدلَّ ذلك على وجودِ نَوعٍ مِنَ الماءِ ليس بنَجِسٍ، ولا يمكِنُ التطهُّرُ به، وهو الطَّاهِرُ.
د- وقالوا: إن هذا التقسيم معروف بالاستقراء، فإنه لا يخلو الماء: إما أن يجوز الوضوء به أو لا؟ فإن جاز فهو الطهور، وإن لم يجز فلا يخلو إما أن يجوز شربه أو لا؟ فإن جاز فهو الطاهر وإلا فهو النجس.
وذهب بعض العلماء: إلى أن الماء ينقسم إلى قسمين: طهور، ونجس.
وهذا قول أبي حنيفة، واختار هذا القول ابن تيمية، ومحمد بن عبد الوهاب، والسعدي، وابن عثيمين.
أ-لقولُه تعالى (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا)، ولقوله تعالى (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ).
وجهُ الدَّلالةِ مِنَ الآيتينِ: أنَّ اسمَ الماءِ مُطلقٌ في الكتابِ والسُّنةِ، ولم يرِدْ فيهما تقسيمُه إلى: طَهورٍ وطاهرٍ، فهذا التَّقسيمُ مخالفٌ للكتابِ والسُّنةِ، ولا أصلَ له في الشَّريعةِ؛ إذ لو كان القِسمُ الطَّاهِرُ ثابتًا بالشَّرع، لكان أمرًا معلومًا مفهومًا، تأتي به الأحاديثُ البيِّنةُ الواضِحةُ؛ لأنَّ الحاجةَ تدعو إلى بيانِه، وليس بالأمرِ الهيِّنِ؛ إذ يترتَّبُ عليه: إمَّا أن يتطهَّرَ بماءٍ أو يتيمَّم
ب- ولحديث أبي سعيد. قال: قال ﷺ (إِنَّ اَلْمَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ) رواه أبو داود.
فهذا الحديث يحكم للماء بالطهورية، وأن الماء طهور، وهذا العموم خص منه بالإجماع: إذا وقعت فيه نجاسة فغيرت لونه أو طعمه أو ريحه فإنه نجس بالإجماع.
1 / 10
أو بمعنى آخر: أن هذا الحديث أثبت قسمًا من الماء وهو الماء الطهور، وثبت الماء النجس بالإجماع، فهذان قسمان من الماء، أحدهما ثبت بحديث أبي سعيد، والآخر ثبت بالإجماع، وبقي الماء الطاهر لا دليل على ثبوته، فيكون الماء قسمين: طهورًا ونجسًا ولا ثالث لهما.
قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الماء القليل أو الكثير إذا وقعت فيه نجاسة فغيرت النجاسة الماء طعمًا أو لونًا أو ريحًا أنه نجس ما دام كذلك.
وهذا القول هو الراجح.
(طهور: وهو الباقي على خلقتهِ).
هذا النوع الأول: الطهور: وهو الباقي على خلقته حقيقة أو حكمًا.
حقيقة: بحيث لم يتغيَّر شيء من أوصافه، كماء البحار، والماء الذي نخرجه من البئر على طبيعته ساخنًا لم يتغيَّر.
والماء النَّازل من السَّماء.
أو حُكْمًا: كالماء المتغيِّر بغير ممازج، أو المتغيِّر بما يشقُّ صون الماء عنه، فهذا طَهور لكنه لم يبقَ على خلقته حقيقة، وكذلك الماء المسخَّن فإِنه ليس على حقيقته؛ لأنَّه سُخِّن، ومع ذلك فهو طَهور؛ لأنَّه باقٍ على خلقته حكمًا. (الشرح الممتع).
• وهذا الماء الطهور (لا يرفعُ الحدث ولا يزيل النجس الطارئ غيرهُ) وقد تقدم شرح ذلك قبل قليل.
(فَإِنْ تَغَيَّرَ بغير مُمَازجٍ كَقِطَع كَافُور، أو دُهْنٍ، أوْ سُخِّن بنَجَسٍ كُرهَ).
هذه أنواع يكون فيه الماء طهورًا لكن يكره استعماله:
الأول: إِنْ تَغَيَّرَ بغير مُمَازجٍ كَقِطَع كَافُور: أي: إن تغير الماء بشيء لا يمازجه كقطع الكافور، فإنه يكون طهور مكروه.
يكون طهورًا: لأن هذا التغير ليس عن ممازجة، ولكن عن مجاورة، فالماء هنا لم يتغير، لأن هذه القطع مازجته، ولكن لأنها جاورته.
ويكون مكروهًا: خروجًا من الخلاف، لأن بعض العلماء يقول: إنه طاهر غير مطهر.
والصواب أنه طهور بلا كراهة، لعدم الدليل على الكراهة.
1 / 11
الثاني: أو دُهْنٍ: هذا يكره، لو أتيت بدهن وصبيت في الماء فالدهن لا يمازج الماء بل يطفو على الماء.
والصحيح أنه لا يكره.
الثالث: أوْ سُخِّن بنَجَسٍ كُرهَ: أي: ومن الماء الطهور الذي يصح استعماله مع الكراهة: الماء الذي يُسخّن بنجاسة كروث حمار.
لأنه لا يسلم غالبًا من صعود أجزاء لطيفة إليه.
وفي الحديث (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك).
وذهب بعض العلماء: إلى عدم الكراهة.
وهو قول الجمهور.
لأنه غير متردد في نجاسته.
وهذا الصحيح.
قال النووي: وعن أحمد كراهة المسخن بنجاسة، وليس لهم دليل فيه روح، ودليلنا النصوص المطلقة ولم يثبت نهي.
فائدة: محل الخلاف في المسخّن بالنجاسة إذا لم يُحتج إليه، فإن احتيج إليه زالت الكراهة.
(وإنْ استُعمِلَ في طهارةٍ مستحبة كتجديد وضوءٍ، وغُسل جمعةٍ كرِه).
(وإن استعمل) أي: الماء الطهور.
والمراد بالاستعمال: أن يمر الماء على العضو ويتساقط منه، وليس المراد أن يغترف منه.
أي: وإن استعمل الماء الطهور في طهارة مستحبة فإنه يكره.
مثال: تجديد الوُضُوء سُنَّة، فلو صَلَّى إنسان بوُضُوئه الأول ثم دخل وقت الصَّلاة الأُخرى، فإنه يُسنُّ أن يجدِّدَ الوُضُوء - وإِن كان على طهارة - فهذا الماء المستعمل في هذه الطَّهارة طَهُور لكنه يُكره.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يكره.
لعدم الدليل على الكراهة.
وهذا القول هو الراجح.
1 / 12
(وإِنْ تَغَيَّر بمكثِهِ، أو بما يَشقُّ صَوْنُ الماءِ عنه من نابتٍ فيه، وَوَرَقِ شَجَرٍ، أو بمُجَاوَرَةِ مَيْتةٍ، أو سُخِّنَ بالشَّمس، أو بطَاهر؛ لم يُكْرَه).
هذه مسائل: يكون الماء فيها طهورًا بلا كراهة.
الأولى: (وإِنْ تَغَيَّر بمكثِهِ) وهو الآجن لم يكره.
فالماء الذي بقي في بمكانه مدة طويلة ولم يحصل فيه نوع من التغيير فهو باقٍ على طهوريته، لأن تغيره من غير مخالطة النجاسة.
قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه أن الوضوء بالماء الآجن جائز، سوى ابن سيرين.
وقال ابن تيمية: أما ما تغير بمكثه ومقره فهو باق على طهوريته باتفاق العلماء.
وأما ما رواه ابن أبي شيبة عن ابن سيرين أنه كان يكره الوضوء بالماء الآجن.
فلعل المقصود أن نفسه تكرهه، لأنه منتن الرائحة، لا أنها كراهة شرعية. (موسوعة الطهارة).
الخلاصة: أن المتغير بمكثه طهور:
أ- للإجماع.
ب- لأن تغيره جاء من غير مخالطة، فلم يخالطه شيء لا طاهر ولا نجس، والماء طهور في نفسه حتى تخالطه الأخباث العارضة.
الثانية (أو بما يَشقُّ صَوْنُ الماءِ عنه من نابتٍ فيه، وَوَرَقِ شَجَرٍ) لم يكره.
مثال: ماء نابت بجواره أشجار كثيرة، فإذا حركت الرياح الأشجار تساقطت الأوراق، فتقع تلك الأوراق في الماء فيتغير بها.
أو نبت في الماء طحلب فتغير بسببه، فهذا طهور من غير كراهة.
وهذا قول جماهير العلماء.
لأن التحرز منه يشق، فعفي عنه، وقد قال تعالى (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ).
1 / 13
قال ابن قدامة: الثاني: ما لا يمكن التحرز منه، كالطحلب والخز وسائر ما ينبت في الماء، وكذلك ورق الشجر الذي يسقط في الماء، أو تحمله الريح فتلقيه فيه، وما تجذبه السيول من العيدان والتبن ونحوه، فتلقيه في الماء، وما هو في قرار الماء كالكبريت والقار وغيرهما، إذا جرى عليه الماء فتغير به، أو كان في الأرض التي يقف فيها الماء فهذا كله يعفى عنه؛ لأنه يشق التحرز منه. (المغني)
الثالثة: (أو بمُجَاوَرَةِ مَيْتةٍ) لم يكره.
فإذا تغيرت رائحته بسبب مجاورته لميتة فإنها لا تنجسه لأن الميتة غير ممازجة للماء.
قال في الشرح: لا نعلم في ذلك خلافًا.
وقال النووي: لو تغير الماء بجيفة بقربه، يعني: جيفة ملقاة خارج الماء قريبة منه، ففي هذه الصورة لا تضر الجيفة قطعًا، بل الماء طهور بلا خلاف.
ولأن هذا التغير حصل بالمجاورة، ولم يحصل عن ممازجة.
الرابعة: (أو سُخِّنَ بالشَّمس) لم يكره.
لأن الكراهة حكم شرعي يقوم على دليل شرعي، أو نظر صحيح، ولا يوجد شيء من ذلك في هذه المسألة.
وذهب بعض العلماء - وهو مذهب الشافعي - إلى كراهته.
وقد جاء في ذلك أحاديث، لكن لا يصح منها شيء.
أ-كحديث عائشة ﵂ قالت (دخل علي رسول الله ﷺ وقد سخنت ماء في الشمس، فقال: لا تفعلي يا حميراء، فإنه يورث البرص) رواه الدارقطني. (ضعيف جدًا).
قال النووي: هذا الحديث المذكور ضعيف باتفاق المحدثين، وقد رواه البيهقي من طرق، وبين ضعفها كلها ومنهم من يجعله موضوعًا.
ب- عن جابر. (أن عمر كان يكره الاغتسال بالماء المشمس، وقال: إنه يورث البرص) ضعيف جدًا.
قال النووي: وهذا ضعيف أيضًا باتفاق المحدثين.
وقال العقيلي: لا يصح في الماء المشمس حديث مسند. (نصب الراية)
وذكر الشوكاني أحاديث الماء المشمس في كتابه الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة.
1 / 14
فائدة: قال ابن قدامة: ولا يكره الوضوء بالماء المسخن بطاهرٍ، إلا أن يكون حارًا يمنع إسباغ الوضوء لحرارته.
(أو بطَاهر؛ لم يُكْرَه) كخشب، أو غاز، فإنه لا يكره.
(وإن تغير لونُه أو ريحه أو طعمه بطبخٍ أو ساقط فيه، أو رفع بقليله حدث، أو غُمس فيه يد قائم من نوم ليل فطاهر).
هذا هو القسم الثاني من أقسام المياه على المذهب: وهو الطاهر، وهو الطاهر في نفسه غير مطهر لغيره.
(وإن تغيّر) الضمير يعود إلى الماء الطهور.
(بطبخ) كأن توضع فيه ورق شاي أو حب قهوة أو نحو ذلك.
(أو ساقط فيه) كأن تسقط فيه ثمرة أو يسقط فيه ورق أو نحو ذلك أو يسقط فيه زعفران وغيره مما قد يسقط في الماء.
فهو إذن ماء طهور في الأصل لكنه قد تغير وتكدر بشيء ليس بنجس بل هو طاهر سقط فيه فغيّر طعمه أو لونه أو ريحه، فما حكمه؟
(فطاهر) أي: طاهر غير مطهر، فهو طاهر في نفسه ليس بنجس لكنه ليس بمطهر.
وهذا هو المذهب وهو مذهب جمهور أهل العلم.
وأن الماء إذا وقع فيه شيء من الطاهرات فغيّر رائحته أو طعمه أو لونه فإن الماء طاهر وليس بطهور، فهو طاهر في نفسه وليس بمطهر لغيره، فعلى ذلك: لا يزيل النجس ولا يرفع الحدث.
قالوا: لأن الماء ليس بماء مطلق بل هو ماء أضيف إليه شيء فهو ليس ماء مطلقًا بل ماء مضاف إليه مادة أخرى.
وذهب بعض العلماء: وهو مذهب أبي حنيفة وأحد الروايتين عن الإمام أحمد أنه طهور.
وهذا هو اختيار شيخ الإسلام، وابن القيم، ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهم من المحققين.
قالوا: الماء طهور، فكما أنه طاهر في نفسه فهو مطهر لغيره ما دام باقيًا على مسماه.
1 / 15
ويتضح قولنا: (ما دام باقيًا على مسماه) بضرب مثالين:
المثال الأول: وهو ما كان فيه الماء باقيًا على مسماه، كأن يوضع في إناء شيء من أوراق الشاي أو شيء من الطعام فيتغير لونه فيأخذ من لون هذا الشيء الواقع فيه.
المثال الثاني: وهو ما تغير فيه مسمى الماء، كأن يوضع في إناء أوراق شاي ثم يطبخ على النار، فإنه يسمى شايًا فهو لم يبق على مسماه بل تغيّر.
أما هذه الحال الثانية: فالراجح أنه ليس بماء فلا يحل لأحد أن يتطهر به، ومثله لا ينبغي الخلاف فيه لأنه ليس بماء، والشارع إنما
خصص الماء بالطهارة عند وجوده، فإذا ثبت ذلك وهو أنه ليس بماء فلا يحل لأحد أن يتطهر به.
أما الحال الأولى: فهو المختلف فيها وهي ما إذا كان الماء قد تغير بهذا الشيء الطاهر لكنه لم يتغير مسماه بل بقي ماءً على مسماه.
فحينئذ ذهب من تقدم إلى أنه طهور، وهذا هو الراجح، والأدلة على ذلك ما يلي:
أ- قوله تعالى (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءًا فَتَيَمَّمُوا).
ولفظه (ماء) نكره في سياق النفي، والقاعدة الأصولية أن النكرة في سياق النفي تفيد العموم، فهذا يعم كل ماء.
فكل ماء يتطهر به قبل اللجوء إلى التراب (أي إلى التيمم) فإذا وقع فيه شيء من الورق أو شيء من الثمر أو غير ذلك فتغيرت رائحته أو طعمه أو لونه مع بقائه على مسماه فهو ماء فيدخل في عموم الآية (فلم تجدوا ماء).
ب- ما ثبت في الصحيحين أن النبي ﷺ قال للنساء المغسلات لابنته (إغسليها بماء وسدر)، وقال ﷺ فيمن وقصته راحلته فمات (اغسلوه بماء وسدر).
ومعلوم أن السدر يؤثر في الماء ويغير منه، ومع ذلك فإنه يتطهر به هنا.
فالشريعة قد دلت على التطهر به كما في هذا الحديث.
1 / 16
ج- ما رواه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجة بإسناد صحيح أن أم هانئ، قالت: (اغتسل النبي ﷺ وميمونة من إناء واحد في قصعة فيها أثر عجين).
والشاهد قوله (في قصعة فيها أثر عجين) ومعلوم أن العجين يغيِّر الماء ويؤثر فيه، ومع ذلك اغتسل النبي ﷺ به وميمونة.
(أو رفع بقليله حدث).
(أو رفع بقليله حدث) القليل تقدم أنه ما دون القلتين.
أي: استعمل في رفع حدث أكبر أو أصغر فتساقط الماء من أعضائه فاجتمع في إناء، فهذا هو الماء المستعمل في رفع حدث سواء كان الحدث أصغر أو أكبر، فهذا الماء طاهر غير مطهر.
قال الشيخ الطيار: الماء المستعمل، المراد به المتساقط حال الوضوء أو الغسل، وليس المراد به الماء الذي يغترف منه.
فالماء المستعمل في طهارة واجبة طاهر غير مطهر.
وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة.
لحديث أبي هريرة. قال: قال رسول الله ﷺ (لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب) رواه مسلم.
وجه الدلالة: أنه دليل على أن الماء المستعمل لرفع الحدث غير مطهر، إذ لو كان الغسل فيه يجزئ، ولا يغيّر الماء لم ينْه عنه، فالمراد بنهيه لئلا يكون مستعملًا فيسلبه الطهورية.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه طهور تصح الطهارة به.
واختاره ابن المنذر، ورجحه ابن حزم، واختاره ابن تيمية.
أ- لأن الأصل بقاء الطهورية للأدلة الدالة على أن الماء طهور، فلا يُعدل عن ذلك إلا بدليل شرعي.
قال ﷺ (إن الماء طهور لا ينجسه شيء) فهذا دليل على طهارة الماء المستعمل، لأنه لم يتغير بعد استعماله، فهو على عمومه إلا ما خصه الدليل.
1 / 17
ب-أن الله سبحانه إنما أوجب التيمم على من لم يجد الماء، قال تعالى (فلم تجدوا ماء فتيمموا) فكيف يقال بالتيمم مع وجود ماء باق على صفته التي خلقه الله عليها.
ج- وكان ﷺ إذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه. رواه البخاري.
والجواب عن دليل القول الأول (لا يغتسل أحدكم …) أن علة النهي عن التطهر فيه ليست كون ذلك الماء مستعملًا، وإنما نهيَ عنه لئلا يقذره، وقد يؤدي تكرار ذلك إلى تغيّره.
(أو غُمس فيه يد قائم من نوم ليل فطاهر).
أي: ومن الماء الطاهر غير المطهر، إذا غمس فيه - أي في هذا الماء القليل - يد قائم من نوم الليل.
مثاله: رجل قام من النوم في الليل، وعنده قِدْرٌ فيه ماء قليل، فغمس يده فيه، فهذا الماء يكون طاهرًا غير مطهر.
وهذا مذهب الحنابلة، وهو من المفردات.
لحديث أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ (إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا فَإِنَّهُ لَا يَدْرِى أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ) متفق عليه.
قالوا: إن الحديث نهى عن غمس اليد في الإناء قبل غسلها، ولولا أن غمسها يؤثر في الماء لم ينه عنه، فإذا نهى عنه دل ذلك على تحول الماء إلى طاهر غير مطهر، وإنما قلنا: طاهر، لأن اليد ليست نجسة.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه طهور.
وهذا مذهب جماهير العلماء، واختاره ابن تيمية، وابن القيم، والسعدي.
قال ابن تيمية: وهو قول أكثر الفقهاء.
وهذا القول هو الصحيح.
القول الثالث: أنه نجس.
وبه قال الحسن البصري، وداود.
وهذا القول ضعيف جدًا.
قال النووي: وهو ضعيف جدًا.
وقال ابن القيم: القول بنجاسته من أشذ الشاذ.
1 / 18
• فائدة: قال شيخ الإسلام ابن تيمية في جواب له: والحكمة في غسل اليد، فيها ثلاثة أقوال:
الأول: خوف النجاسة، مثل أن تمرَّ يده على موضع الاستجمار، لاسيما مع العرق ونحو ذلك.
الثاني: أنه من باب التعبد؛ فنسلم به، ولو لم نعقل معناه.
الثالث: أن ذلك لشيء معنوي، وهو أن الشيطان يبيت على يد النائم ويلامسها، كما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال (إذا استيقظ أحدكم من منامه فتوضأ، فليستنثر ثلاثا؛ فإن الشيطان يبيت على خيشومه) فعلم أن ذلك الغسل ليس مسبَّبًا عن النجاسة، بل هو مُعَلَّلٌ بمبيت الشيطان على خيشومه. فتكون هذه العلة من العلل المؤثرة التي شهد لها النص بالاعتبار.
(فإذا بلغ الماءُ قُلتَيْنِ لم ينَجِّسْهُ شيءٌ إلا ما غيَّرَ لونُهُ، أو طعْمُهُ، أو ريحُهُ)
هذا القسم الثالث: وهو الماء النجس، الذي لا يجوز استعماله إلا لضرورة.
وهو ما تغير أحد أوصافه الثلاثة - لونه أو ريحه أو طعمه - بنجاسة.
فإذا بلغ الماء قلتين - وهو الكثير - فإنه لا ينجس إلا إذا تغير أحد أوصافه بنجاسة تحدث فيه.
وهذا بالإجماع.
قال ابن المنذر: أجمع العلماء على أن الماء القليل والكثير إذا وقعت فيه نجاسة فغيرت له طعمًا أو لونًا أو ريحًا فهو نجس.
(وما سوَى ذلك ينجُسُ بمُخالطَةِ النجاسة).
أي: متى كان الماء أقل من قلتين، فإنه ينجس بمجرد ملاقاة النجاسة وإن لم يتغير.
وهذا المذهب.
1 / 19
إذًا ضابط الماء النجس على المذهب يشمل أمرين:
الأول: أن يكون كثيرًا فلا ينجس إلا بتغير أحد أوصافه. (وهذا بالإجماع كما تقدم).
الثاني: أن تقع فيه نجاسة وهو قليل - دون القلتين - فيتنجس ولو لم يتغير.
هذا المذهب: أن القليل ينجس بمجرد النجاسة ولو لم يتغير.
وهو مروي عن ابن عمر، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وأبي عبيد، وأبي ثور.
وبهذا قال أبو حنيفة، والشافعي.
أ-لحديث ابْن عُمَر. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ ﷺ (إِذَا كَانَ اَلْمَاءَ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ اَلْخَبَثَ) وَفِي لَفْظٍ: (لَمْ يَنْجُسْ) أَخْرَجَهُ اَلْأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ خُزَيْمَةَ. وَابْنُ حِبَّان. (ضعفه بعضهم والأكثر على تصحيحه).
وجه الدلالة:
أولًا: أن مفهوم الحديث أنه إذا كان الماء دون القلتين فإنه يحمل الخبث.
قال ابن قدامة: وَتَحْدِيدُهُ بِالْقُلَّتَيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا دُونَهُمَا يَنْجُسُ، إذْ لَوْ اسْتَوَى حُكْمُ الْقُلَّتَيْنِ وَمَا دُونَهُمَا لَمْ يَكُنْ التَّحْدِيدُ مُفِيدًا.
ثانيًا: لو كان الماء لا ينجس إلا بالتغير لم يكن للتحديد بالقلتين فائدة، لأن الماء إذا تغير بالنجاسة نجس ولو كان مائة قلة.
ب- ولحديث أبي هريرة. قال: قال ﷺ (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات) وفي رواية (فليرقه).
قال ابن قدامة: أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِغَسْلِ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ، وَإِرَاقَةِ سُؤْرِهِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَا تَغَيَّرَ وَمَا لَمْ يَتَغَيَّرْ، مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ التَّغَيُّرِ.
قال النووي: فالأمر بالإراقة والغسل دليل النجاسة.
1 / 20