فکر عربی حدیث
الفكر العربي الحديث: أثر الثورة الفرنسية في توجيهه السياسي والاجتماعي
ژانرها
51
منذ زمن طويل ما بلغنا إليه وما بلغت إليه أمم كثيرة قبل الثورة الفرنساوية من المساواة والحرية، سواء اشتعلت هذه الثورة أم لم تشتعل.»
وأقل ما يقال في هذا الكلام أنه فاقد البرهان. وكيف نستطيع أن نجزم أن فرنسا كانت تنال نتائج الثورة بدون الثورة؟ وقول غوستاف لوبون: «إن أمما كثيرة بلغت قبل الثورة ما بلغته فرنسا من المساواة والحرية.» فيه موضع للنظر؛ فإن هذه الأمم الكثيرة ليست في الحقيقة إلا اثنتين: الأمة الإنكليزية والأمة الأميركية، وكلتاهما نالت الحرية والمساواة بثورة كبيرة شبيهة بثورة فرنسا!
وقد رد إميل أوليفيه على غوستاف لوبون، فقال: «هل يأسف لوقوع الثورة الفرنساوية من لا يريد أن يكون مسخرا لصيد الضفادع في الغدران كي لا تقلق الأمير الإقطاعي في نومه، وهل ينوح لحدوثها من يريد ألا يرى كلاب شاب عات تخرب حقله، وهل يحزن لنشوبها من يريد ألا يسجن في الباستيل لولوع رجل من بطانة الملكة بزوجته أو لتفوهه بكلمة ضد رجل نافذ أو لغير ذلك، وهل يغتم لاشتعالها من يريد ألا يبغي عليه وزير أو موظف أو وكيل، وألا يكون تحت رحمة أحد من الناس، وألا يؤخذ منه أكثر مما يفرض عليه، وألا يهينه ويشتمه من يدعي أنه فاتح؟ ولذلك فإني بصفتي من الطبقة المتوسطة أشكر أولئك الذين أنقذوني، بعد عناد شديد، من الأنيار التي لولاهم لبقيت رازحا تحت أثقالها، وأبارك لهم رغم زلاتهم.»
فكان أن رد عليه غوستاف في مقدمة «روح الثورات ...» بما يلي: «مصدر هذا الوهم الشائع - حتى بين كثير من أقطاب السياسة - هو المبدأ القائل بأن طرق الحياة عند الأمة تكون بحسب نظاماتها. والواقع أن الطرق المذكورة تابعة للمبتكرات العلمية والاقتصادية، فتأثير القاطرة في التسوية بين الناس خلاف تأثير المقصلة.»
وصحيح، إلى حد كبير، أن طرق الحياة عند الأمة لا تكون بحسب نظامها، كما يقول لوبون. ولكن لماذا حدثت الثورة الفرنسية؟ إنها حدثت لأن الحياة الفرنسية جرت شوطا في التغير عقليا وماديا، بينما بقيت النظامات على ما هي، فوقع التناقض بين الحياة الفرنسية الجديدة الآخذة في الظهور والنمو وبين النظامات القديمة. ولما كان من المستحيل أن يقتنع جميع ممثلي النظامات القديمة بأن دورهم قد انتهى، وقع الاصطدام بينهم وبين ممثلي الحياة الجديدة. وإذن، فالثورة الفرنسية نشبت لتقيم نظامات جديدة ترضي بها مطالب الحياة الجديدة! على أن طرق الحياة عند الأمة تتأثر أيضا بنظاماتها. وقول لوبون: «إن الطرق المذكورة (طرق الحياة) تابعة للمبتكرات العلمية والاقتصادية.» يشف عن اختطاف لتعابير ماركسية لم ينزلها حق منزلتها. وكأنه شعر بالخطأ فقال: «إن تأثير القاطرة في التسوية بين الناس خلاف تأثير المقصلة.» مع أن سياق فكرته كان يجب أن يدعوه إلى إثبات كل التأثير للقاطرة ونفي التأثير عن المقصلة! أما أن تأثير القاطرة في التسوية بين الناس خلاف تأثير المقصلة، فهذا مما لا يجادل فيه أحد، إلا أن القاطرة، بمجرد وجودها ، لا تكفل التسوية بين الناس، بل لا بد لها من نظام يضمن هذه التسوية مع القاطرة، ولا بد لهذا النظام، في ولادته وحمايته، من تأييد حتى بالمقصلة أحيانا!
غير أن غوستاف لوبون كان أقل شرا على سمعة الثورة الفرنسية من رجل آخر هو فردريك نيتشه، بلغت آراؤه وأفكاره البلاد العربية عن طريق النقل. وكان فرح أنطون في طليعة من اهتموا من أدبائنا بنيتشه، وإن يكن فرح لم يقف منه موقف المسلم المحبذ. وإلى القارئ ما نقله فرح أنطون عن الكاتب الألماني بشأن الثورة الفرنسية، قال:
ومن أقواله (أي نيتشه) أن الأديان والثورة الفرنسية هي التي أفسدت مبادئ البشر في الدنيا، وخربت طريق الإنسانية، وصرفتها إلى طريق أخرى أدت إلى الاضطراب والفوضى الحاضرة؛ فإن «المساواة والإخاء والحرية» التي وضعت تلك المبادئ أساسها قد أدت إلى تسويد الصغار على الكبار، وترجيح الخاملين القاصرين على أهل الكفاءات، وجعلت الفضل في الدنيا لكثرة العدد لا للاستعداد الطبيعي، وأقامت «سلطنة الشعب» التي هي «سلطنة قطيع المواشي». وقال في فصول عديدة في كتابه «بدء الظلام» وكتابه «ما بين الخير والشر» وكتابه «زاراتوستا»: «إن الأديان ومبادئ الثورة الفرنسية المتولدة منها والناشئة عنها هي أشد وباء أصاب الإنسانية وهدم الكفاءات فيها، ويكاد يفني قواها كما يفني داء التدرن قوى المسلولين. وإن نتيجة هذا الداء ستكون انحطاط الإنسانية إلى ما هو أدنى من انحطاطها الحالي إذا لم يحتط البشر له ويحدث لديهم رد فعل في شأنه.»
52
واهتم أديب آخر، هو فيلكس فارس، بنيتشه فعرب كتابه: «هكذا تكلم زرادشت». وفيلكس من أدبائنا الذين ابتهجوا بالدستور العثماني وأكثروا عنه الخطب فعرفوا ب «خطباء الدستور». ولا شك أن فيلكس، إذ ذاك، كان يحب الثورة الفرنسية ويستلهمها، بل هو ثابر على هذا الحب؛ فنحن نقرأ له في إحدى خطبه «رسالة المنبر» ما يلي: «هدم الرجل الباستيل لأنه أصبح معقلا لمن اختلسوا حق الحرية والحياة، وجاءت المرأة بدورها تهدم جدران بيته (أي بيت الرجل) لأنه كأسياد الباستيل أساء استعمال سلطته.» وهذا كلام يشف عن تأييد للثورة الفرنسية.
صفحه نامشخص