فکر عربی حدیث
الفكر العربي الحديث: أثر الثورة الفرنسية في توجيهه السياسي والاجتماعي
ژانرها
32
ووجهوا الفكر والأدب إلى السياسة والاجتماع، شأن الأعلام الفرنسيين في القرن الثامن عشر، ورائدهم الحرية السياسية التي هي «العافية المفقودة» كما سماها عبد الرحمن الكواكبي في «طبائع الاستبداد».
ويتصور أديب إسحاق فريقا يقول له: «دع السياسة لأهل الرئاسة فهم فيها أحق، وبها أعلم، وعليها أقدر.» وقد أراد أديب إسحاق أن يعرض بنوع من ذهنية تعتقد أن السياسة وقف خاص أو احتكار، وراح ينقض هذا الرأي فقال: «ألف الكاتب الفرنسوي روسو كتاب الميثاق الاجتماعي في السياسة، وشعر من أهل زمانه بمثل ذلك الاعتراض، فأجاب: «يقولون: أأنت أمير أم أنت حاكم لتكتب في السياسة؟ وأقول: لا، ولكنني من أجل هذا كتبت؛ فإني لو كنت أميرا أو حاكما لما أضعت الزمان في كتابة ما ينبغي أن أفعل، بل كنت أفعله أو ألتزم السكوت».» ويستأنف أديب إسحاق كلامه فيقول: «من حقوق الإنسان الطبيعية، بل من واجباته، أن ينظر فيما يمسه وما يحيط به من الأمور الدنيوية والأحوال الاجتماعية. ولقد جاز للمرء أن يبحث عن أسرار الوجود ويستكشف نواميس الطبيعة في حالة كونه لا يستطيع تغيير شيء من نظامها ولا يقوى على مخالفة حرف من أحكامها، فكيف يحظر عليه النظر في النظام الذي هو جزء منه والأحكام التي هي من وضع الإنسان؟»
وينظر كاتبنا إلى الفلسفة فلا يعترف بأنها «مخصوصة بطائفة من الناس دون الآخرين.» ثم يقول: «إن الأمم خرجت من خطة الغنيمة ... وانتقلت من دور الطفولية، وسئمت أنفسها الغذاء من لبن الخرافات والرموز، فلا بد لها من دور العلم بالحقائق السامية كما تعلم المعارف الدانية؛ فقد أزف الوقت الذي يخرج فيه عن صفة الإنسانية من لم يكن عارفا بكل ما اكتشفه عقل الإنسان.» ويذهب كاتبنا إلى التصريح بأن الفلسفة أداة، أو يجب أن تكون أداة، من أدوات الكفاح الثوري في شئون الاجتماع وقضايا السلطة، ف «تأثير (علمها) غير منحصر في المعلومات الإنسانية، ولكنه يتجاوزها إلى هيئة الاجتماع فتظهر فيه آثار تغيره (أي الاجتماع) بمظاهر من ثورات الخواطر وتجليات الألباب. ولا بد من ذلك؛ فهو (أي علم الفلسفة) علم الإنسان؛ فلو قدر أن يكون من نتائجه الحكم بكون الناس نوعين اثنين: أحدهما للأمر والسلطة والآخر للطاعة والانقياد، للزم من ذلك أن يكون في الأرض ظلام لا يرحمون وعبيد لا يأبقون. ولو فرض أن تلك النتيجة قد هذبت فيه ولطفت فلم تقض إلا بأن يكون في كل جمعية مدنية فريق يتدبرون الأمور عن الكافة، وأن تكون الكافة وقفا على خدمة ذلك الفريق، لحصل من ذلك مبدأ الامتياز الأرستقراطي القبيح لزوما.»
ويلتفت أديب إسحاق إلى الكتاب فيجرهم إلى المعمعة، ويريدهم مكافحين مناضلين، ويجعل من واجباتهم «السعي إلى جنة الحرية مع ثقل سلاسل العادات وقيود القوانين ...»
ووجد أدباؤنا ومفكرونا أنفسهم أمام قيم ومثل ومعقولات جديدة شاعت على الألسنة والأقلام إبان الثورة الفرنسية وتناقلتها الأفواه والقراطيس في الشرق العربي؛ فقد طفق الناس يتحدثون عن «الوطن» و«الوطنية» و«الأمة» و«القومية» و«الحرية » و«المساواة» و«الحقوق الطبيعية» وشئون أخرى، فكان النظر فيها واجبا على أدبائنا ومفكرينا .
أما الوطن، فلا نعلم أن أحدا من طلائع أدبائنا ومفكرينا حاول البحث فيه كما حاول أديب إسحاق. وقد أثبتنا له في باب النصوص من هذا الكتاب قطعتين تدوران على الموضوع. ويلاحظ أن أديب إسحاق بنى على المفكرين الفرنسيين قبل الثورة، وأيد نفسه بقول من «لابرويير»: «لا وطن في حالة الاستبداد.» وخلاصة رأي كاتبنا في موضوع الوطن أنه «خير وحدة» يرجع إليها المواطنون و«يجتمعون عليها اجتماع دقائق الرمل حجرا صلدا»، ولا بد للوطن - حتى يكون وطنا بصحيح المعنى - من حرية وحقوق وواجبات تسري على الجميع، ف «إن امتياز بعض الناس عن بعض في وطن واحد يلحق بذلك الوطن الضرر العظيم حسا ومعنى.»
33
والوطنية هي الوطن والمواطنين، مع ما يستدعي ذلك من الخدمة والتضحية، والفداء في بعض الأحيان. وقد تطرق أديب إسحاق إلى بحث الوطنية فأثبتنا بحثه في باب النصوص. ولأحمد فارس الشدياق فصل ممتع في نقد الوطنيين الزائفين، أثبتناه أيضا، وهو يشف عن روح الرجل الفكهة اللاذعة وقرابتها من رابليه وفولتير.
34
صفحه نامشخص