وبكت بالدمع الغزير، فالتفت الأميرال إلى الكونت مشيرا إلى المرأتين وقال له: لئن كنت قد لقيت إساءة؛ فإن الانتقام كان أعظم، فخفض دي موري رأسه وبكى كذلك، فتركوا الأم وابنتها معا، وظنت هذه أن التعب أثر في الفتاة فلا بد أن تنام، فلم تشأ أن تكلمها، إلا أن بوليت، وهي مغمضة العينين، ضغطت على يد أمها، وأخذت تتكلم خافضة صوتها، فقالت: لقد تفكرت مليا منذ بضع دقائق، فقد كان نصيبنا أنا وأنت العذاب دون أن نجني ذنبا، فكأننا اقتسمنا الحب والأشجان معا، ولا أرى أفضل من اقتراحنا لتبقى كل واحدة منا على شجاعتها.
فصاحت لورانس: ألم تجدي غير الفراق وسيلة؟ أجابت: لا، وقد تذكرت زمن حداثتي الأولى؛ إذ كنت أقع فأتألم فأنهض وأعدو عندما لا يقع بصرك علي، إما إذا وقع بصرك علي فكنت أبكي لشعوري بحزنك علي وألمي معا، وهكذا يكون شأني الآن في هذه الورطة، ولعل اعتمادي على نفسي ينقذني من الآلام.
ثم نهضت وقالت: أودعك يا أماه. فأمسكت رأس ابنتها وضمته إلى صدرها بلهفة، ثم إن الابنة خرجت مع أبيها إلى مركبة، وعادت إلى منزله.
الفصل العاشر
بعد هذه الحوادث بيومين أو ثلاثة دخل خادم الفندق على السير إيليا دراك وقال له: إن الأمير يروم مقابلتك. فقال: ألا ننتهي من هذا الأمير؟ ولكن دعه يدخل.
ولما خلا به قال له: كيف حال هؤلاء القوم؟ أجاب: إنها أسوأ حالا من ذي قبل، أفلا تزال عازما على السفر؟ أجاب: بلا شك، وإني مسافر في هذه الليلة إلى إنكلترة. قال: إذن ستجتمع على أسرتك؟ أجاب: لا أسرة لي. قال: إذن على أصدقائك؟ أجاب: ولا أصدقاء لي. قال: إذن تعود إلى وطنك؟ أجاب: وطني؟ وطني؟ ولعلك تريد به البلد الذي ولدت فيها وغادرتها وأنا صبي. قال ملطار: ما دام الأمر كذلك فلماذا ترتحل عن باريس وفيها من يحتاج إليك؟ أجاب: هذا داع على وجوب تخلصي بالفرار ... ولكن من الذي يحتاج إلي؟ قال: سيدتي الصغيرة . قال: ولكن أبوها عندها. أجاب: نعم، لسوء حظها. قال: وأمها! ... أجاب: لا، لسوء حظها، قال: ألم ينقض أمر لورانس مع أبيها؟ أولا تجتمع بوليت على أمها كل يوم في بيت الأميرال؟ أجاب: لقد حدث أمر جديد.
وكان الشيخ الإنكليزي منحنيا على حقائب أمتعته يحزمها استعدادا للسفر، فتوقف وقال: ماذا حدث الآن؟ أجاب: إني ذهبت أمس فلقيت الكونتة، قال: أية كونتة تعني إذ يوجد اثنتان؟ أجاب الخادم بغضب: لست أعرف إلا واحدة هي السيدة لورانس، فأعلمتني أن ابنتها لا تريد أن تأتي لتراها بحجة أنها عازمة على الاقتران. قال: بالرجل بلميري الذي كلمتني عنه قبلا؟ ألم يبطل هذا المشروع؟ أجاب: كلا، وا أسفاه! ولا يستطيع أحد إبطاله. قال: بل يوجد وسيلة قد فكرت فيها أنا. قال: ما هذه الوسيلة التي تنقذ بوليت من الموت؟ لأن سيدتي الصغيرة تموت ولا شك.
فجعل الإنكليزي يتمشى في الحجرة، ويقول: تموت ولا شك! ...
ثم وقف قبالة الخادم وقال له: هل تظن أن بوليت تقبل مني زورة إذا شئت إطلاعها على وسيلة تنقذها من ذلك الزواج المكروه؟ فأجابه: نعم، بل يسرها أن تراك.
قال: إذن عد إليها وقل لها إنني أزورها، وبودي أن ألقاها دون أن أرى أباها؛ لأنني لا أحبه ... فهو علة هذه العلل، وفي اعتقادي أنه لا قلب له ولا نفس ولا جوانح ... فقال له ملطار: سأدخلك البيت دون أن يراك أحد، وبعد ساعة كان السير دراك عند بوليت، فارتمت على عنقه وقد شعرت بأنه نصيرها الوحيد، وأخذت تبكي وتقول له: ما أعظم سروري بلقائك فشكرا لك. فأجابها: إنني أتيت اتفاقا لتمضية الوقت، ولكن أصحيح ما قاله لي ملطار من عزمهم على تزويجك؟
صفحه نامشخص