ثم مضى إلى عمله تاركا ذلك الشيخ في موضعه، وكان هذا الرجل دوقا حقيقيا قد تولى أعلى المناصب في بلاط سيسيليا على عهد الملك فردينان الثاني وفرنسوا الثاني ابنه، فلما دخل غالباردي
Joseph Garibaldi
مدينة نابولي في يوم 7 سبتمبر سنة 1860 كان الدوق في خدمة الملك وقد صحبه في فراره، ولما سلمت «جايت» يوم 13 فبراير سنة 1861 بعد حصار أبدى فيه الملك والملكة شجاعة تساويا فيها؛ كان الدوق آخر من خرج من القلعة، وكان سقوط آل بوربون الضربة القاضية على الدوق دي لوقا. أما فرانسوا الثاني الآنف ذكره فكان آخر من استوى على عرش نابولي وسيسيليا؛ لأنهما ضمتا بعده إلى إيطاليا عام 1860 بعدما كانتا مملكة مستقلة منذ نحو عشرة قرون، وكان في وسع الدوق أن يحذو حذو كثيرين من أنسابه، وينضم إلى المملكة الجديدة، إلا أنه كان عنيدا باسلا، فآثر الإفلاس والضنك، وقال: إن الانقلاب صيرني شحاذا، وسأبقى شحاذا حتى أموت.
ومد يده للسؤال أول مرة وهو لا يزال مرتديا بملابس حسنة، فكان الناس يعجبون منه ويتصدقون عليه. فإذا اجتمع له فرنك واحد اكتفى به وترك التسول، وقصد إلى غرفة له حقيرة مجاورة لغرفة الفتيين بيبو وجرجونة، ولكن ما لبث أن ذاق طعم البؤس لما انقطع الناس عن التصدق عليه، وصار معدودا في عامة المتسولين، ولولا أن العناية سخرت له ذينك الفتيين لهلك جوعا؛ وذلك لأن جرجونة وأخاها تعلقا به فكانا يعطفان عليه، ويشاطرانه قوتهما القليل على ما بهما من فقر، وكان هذا الدوق المفلس قد بلغ الثمانين من عمره.
وكان يسمع شكاة الفتاة الحسناء من سوء الحال ويرق لها. قالت في ذلك اليوم: لقد سئمت عيشتي هذه، ومن كانت مثلي يشق عليها احتمال الفاقة. قال: أصبت والله، فأنت لم تخلقي لهذا الشقاء، ويعز علي أن يعبث بهاتين العينين الساحرتين، او بهذا الشعر الفاحم، وبهذه القامة الهيفاء، ممثل لا يرى السعادة إلا من وراء ستار، إنما أنت ربة تستحقين ما هو أسمى وأشهى. قالت: فما عسى أن أفعل؟ فأطرق الشيخ، ثم قال وكأنه يخاطب نفسه: وايم الحق إذا تم ذلك كان عجبا!
وسمعته فقالت: ما معنى هذا الكلام؟ أجاب: هو خاطر خطر لي. قالت: تكلم. قال: لا يروعني خوفا عليك إلا ضعة نسبك، فهو يحول دون ارتقائك بسهولة. قالت: إني أدعى جرجونة، وحسبي بهذا الاسم نسبا. قال: نعم؛ أي إنك «لا شيء»، فلو كنت ذات اسم يدل على محتد كريم لكان لك شأن آخر. قالت: وما فائدة هذا التمني؟ فنهض الشيخ وانحنى أمامها وقال لها: إن أنا إلا متسول مثلك يا جرجونة، وقد بلغت الثمانين من عمري ... غير أنني مركيز دي كوريولو، وكونت دي كاستلو، ودوق دي لوقا، وهذه ألقاب شريفة ورثتها عن آبائي، فهل يعجبك أن تكوني كونتة، ودوقة، ومركيزة؟ هل تريدين أن تكوني زوجتي؟
فظنت أولا أنه يمزح، لكنها عرفت من لهجته أنه يقول الجد، فصاحت تقول: أتدري ما أفعل باسمك لو دعيت به؟ لو دعيت به لاستخدمته ليرفعني لا ليخفضني، وربما اتخذته سلاحا أضرب به، ولكني لا أريد أن تناله مني غضاضة أو يمسه خزي وعار. فأبق اسمك لنفسك يا سمو الدوق، فهو لا يصلح لي، ولئن صرت امرأة ساقطة فاسم جرجونة لا يعاب بل يبقى اسمي وأعتذر به، ومهما أفعل فإنني أرجع إلى حيث كنت وكانت أمي من قبل! ولكنني إذا حملت اسم دوقة دي لوقا عددت امرأة سافلة، وآذيت كل شريف في شرفه!
فأثر هذا الكلام في الشيخ وقابل بينه وبينها، فرأى أنه أحط قدرا من تلك الابنة المتشردة، وفهم أن العظمة قد تكون في النفوس الخاملة، فخجل من نفسه وطرأ انقلاب على فكره، فضم الفتاة إلى صدره سرورا بنزاهة ضميرها وسمو خلقها، ثم تركها ومضى إلى غرفته المجاورة فانطرح على فراشه، وقد خارت قواه عقيب ذلك الانفعال، فأحس بأنه مشرف على الموت، ولم تمض بضع دقائق على هذا الحادث حتى دخل بيبو البيت، فصاحت شقيقته تقول له: ما بالك رجعت؟! إنك تسرق مال الحكومة! فلم يجب بل أوصد الباب وراءه وأقبل عليها، فقالت له: لعلك خائف من اللصوص؟
أجابها: ربما ...
وجاء فوضع محفظته على خوان وقال: هنا عشرون مليونا؟ فبهتت ثم جعلت تكرر قوله: هنا عشرون مليونا! أرني إياها.
صفحه نامشخص