قال: إنها اصفر لونها، وقالت: إن كل الرجال يصابون بهذا المرض مرارا ... ثم لامتني على عدم قبول نصائحها، ووصفت لي بيت أحد الأطباء. قلت: ومن هو هذا الطبيب؟
قال: هو الدكتور «س»، وعيادته في شارع ... نمرة 10، ولذلك أتيت إليك الساعة لتصحبني إليه.
وقد حزنت جدا لحال مختار، وعز علي أن أتركه يذهب إلى الطبيب منفردا، كما ذهب إلى منيرة منفردا ... •••
ولما طرقنا باب الطبيب، فتح لنا شاب رومي، ثم دخلنا ورأينا خادما يحمل بين يديه دلوا فيه ماء قذر، وسمعنا أصوات أبواب تفتح وأبواب تقفل، ودخلنا قاعة صغيرة فيها مقعد وأربعة كراسي، فجلسنا، وكان في القاعة شاب أصفر شاحب الوجه، عيناه بارزتان، وهو يتناول إحدى الجرائد مرة فلا تلبث في يده دقيقة حتى يلقي بها، وهو في كل لحظة يتململ في مكانه كمن يحس بألم شديد، أما قاعة الاستقبال أو الانتظار التي جلسنا فيها فكانت متوسطة في الحجم، وكان في وسطها منضدة عليها جرائد ومجلات مصورة، وعليها «علبة كبريت»، وكم يد قلبت هذه الجرائد والمجلات! وكم مريض أمسى الآن تحت الثرى جلس في هذه القاعة!
ومن عادتي أنني إذا جلست في غرفة الاستقبال في دار الطبيب أن صدري يضيق ضيقا شديدا، فبقيت أقلب أجفاني في هذه الغرفة، لعلي أجد ما أتسلى به، فرأيت صورا كثيرة معلقة على الحائط، فقمت أنظر فيها، وقد استلفتتني كثيرا صورة بسيطة، وهي صورة رجل وامرأة جالسين على مائدة الطعام وبجانبيهما طفلان صغيران، فهي إذن صورة السعادة المنزلية، ولو كنت رأيت هذه الصورة ألف مرة في غير هذا المكان، لما كنت دهشت لرؤيتها، ولكن كأن الدكتور «س» أراد أن يعلم مرضاه درسا صغيرا بوضع هذه الصورة، وكأنه يقول لهم: لو تزوجتم وأتيتم بأطفال يدلونكم على السعادة لما احتجتم إلى المجيء إلي، فتنبهوا وأصلحوا من شئونكم، وإذا شفيتم اليوم فلا تعودوا إلي مرة ثانية.
فلما أطلت النظر إلى الصورة سألني مختار أن أجلس بجانبه ليحادثني، فجلست، ولكنني لم أشأ أن أكدره بكلامي عن الصورة؛ لأنني رأيته مهموما، ثم دخل علينا رجلان مصريان، أحدهما بعمامة وعليه علائم الوقار، والآخر بطربوش، أما صاحب العمامة فكان صوته خشنا، ويظهر أن في حلقه عاهة تمنع خروج كلامه بالصوت الطبيعي، ويظهر أنه بقي كذلك أمدا طويلا؛ لأنه كان يتكلم بسهولة تامة كأنه تعود على ذلك الصوت وتعود ذلك الصوت عليه، ويظهر أن الشاب الذي كان معه كان فريسة جديدة وأتى به ليرشده إلى دار الطبيب؛ لأن الشاب كان خائفا وجلا، ثم دخل علينا شاب صغير لا يزيد عن ثمانية عشر عاما، وتحت إبطه محفظة الكتب، فعلمت لأول وهلة أنه تلميذ في مدرسة، فقلت لنفسي: وماذا يعمل التلميذ في دار الطبيب الذي كتب على بابه:
عيادة الدكتور «س» ...
اختصاصي بأمراض المثانة وأمراض النساء.
متخرج من كلية باريس وعضو الجمعية الملكية الطبية.
ولقد كادت تحملني الجرأة على سؤاله عن أمره، فخشيت أن يردني ملوما وعيادة هذا الطبيب بالدور، ومعنى ذلك أن من أتى أولا يراه الطبيب أولا، فلما انتهى دور الشاب الأصفر الذي كان جالسا عند دخولنا أتى إلينا مساعد الطبيب ودعانا إلى غرفته، فقمنا ودخلنا قاعة رحبة فيها في ناحية منضدة كبيرة عليها قنينات وأدوات طبية، وفي سقفها زجاجتان كبيرتان فيهما ماء ودواء لونه أزرق، وفي وسط الغرفة شيء شبيه بالسرير، وفي ناحية من الغرفة منضدة عليها ميكروسكوب ، ومنظار كبير، وزجاجات صغيرة، ورأينا الطبيب واقفا وهو لابس ثوبا من القماش الأبيض ليقي ملابسه من قذارة العقاقير، فلما رآنا أدخلنا إلى قاعته الخصوصية، وفيها خزانة كبيرة فيها كتب، وخزانة أخرى فيها عدد الجراحة، وخزانة ثالثة فيها هيكل إنسان من العظم، وحول الحائط صور مصنوعة من الجبس تمثل أعضاء التناسل المصابة بأمراض النساء، وأقول الحق: إنه بمجرد رؤيتي لهذه الصور أحسست بخفقان شديد في قلبي، وغاب رشدي.
صفحه نامشخص