في تحديث الثقافة العربية
في تحديث الثقافة العربية
ژانرها
وها هنا نشير إلى خيط رفيع يفصل بين حالتين قد تتشابهان في الظاهر، أما في حقيقة الأمر؛ فهما مختلفتان اختلافا بعيدا، خذ مثلا رجلين من رجال الطب، كلاهما تخصص في جراحة القلب، ومهر في استخدام المناظير وغير المناظير، وفي نقل جزء من شريان في موضع آخر من الجسم، ليوضع مكان شريان في القلب أصابه عطب، خذ هذين الرجلين مثلا، وافرض أن أحدهما هو الذي صمم فكرة المنظار، والذي قام بالتجربة الأولى في نقل جزء شرياني من موضعه إلى موضع آخر من الجسم المريض، فلما نجح هذا كله على يديه، جاء الثاني وسار على إثره خطوة خطوة، فكلا الرجلين بعد ذلك يتساويان في إجراء عمليات القلب الناجحة، ولكن هل يتساويان في الجوهر التعليمي، الذي أدى بالأول إلى إبداع طب جديد وجراحة جديدة، والنظام التعليمي الذي أدى بالثاني إلى أن ينتظر حتى يفرغ الأول من إبداعه، لينقله ويدرسه، ويمهر فيه؟ ووسع هذه الصورة حتى تمتد لتشمل أوجه الحياة كلها؛ تجدك أمام مجموعتين مختلفتين من الناس: الأولى ترتفع ببنيان الحضارة، بالجديد الذي تبدعه في شتى ميادين الحياة علما وعملا، في حين تنتظر الثانية بخيرة أبنائها ممن خرجتهم الكليات «العملية» ليكون قصارى جهدها أن تنقل عن الأخرى ما تحاكيه! وبهذا نكون قد عدنا إلى «حفظ» ما أنتجه الآخرون! وكل ما في الأمر هو أن بعضنا يحفظ ويخرج بما حفظه إلى عالم التطبيق، وبعضنا الآخر يحفظ أيضا، ثم يكتفي بذلك المحفوظ دثارا يتلفع به.
كانت أوروبا في عصورها الوسطى يغلب على حياتها الفكرية نموذج التخزين في رءوس «العلماء» بمحفوظات من أقوال ورثوها من أسلافهم، وكانوا يخزنون ما يخزنونه في رءوسهم، لا ليعيشوا به، ولا ليزرعوا به وليصنعوا به ما قد تتطلبه الحياة العملية من صنائع، بل هم يخزنونه لفظا ليدوروا في دوامته، فيولدوا قولا من قول، ويخرجوا جملة من جملة، وكان القادرون على مثل هذا الدوران في عالم اللفظ المحفوظ هم «العلماء»، فلما استيقظت أوروبا من ذلك السبات، سمعت رجلا يصيح بهم قائلا: «العلم قوة» وربما حسبوه قاصدا بعبارته تلك شيئا من بلاغة التعبير، لكن الرجل قد أراد المعنى الحرفي الدقيق بعبارته؛ فالعلم علم بما يستطيع الناس به أن يصنعوه، وليس من العلم في شيء ما لا يعينك على استخراج القوانين التي تجري ظواهر الطبيعة بمقتضاها، لتملك زمامها وتسخرها لصالح الإنسان، وبهذا يصبح للعلماء «قدرة» على إلجام الأشياء وتشكيلها على نحو ما يريدون لها أن تكون؛ العلم «قوة» أين منها قوة الحديد والنار؟! كان الصوت البشري لا يبلغ الأذان إلا بضعة أمتار، فجاءت قوة العلم لتجعله مسموعا في شتى أرجاء الأرض، بل في كواكب السماء، وكانت العين لا ترى إلا ضوءا يجيئها من مجال لا يجاوز بضعة كيلومترات، فجاء العلم بقوته ليمكن العين البشرية من أن تبصر ضوءا يبعد مصدره عنها بما مسافته أربعة عشر ألفا من ملايين الوحدات التي تسمى كل وحدة منها بالسنة الضوئية؛ أي ما يقطعه الضوء في سنة، وكانت ... وكانت ... ثم جاءت قوة العلم فصارت ... وصارت ...
العلم قدرة على فعل ما لا يستطيع غير ذي علم أن يفعله في تسخير القوى الكونية لصالح الإنسان ثم تتلو هذه الدرجة درجة أدنى، يمثلها من ليس في وسعه المبادأة بقوة العلم، فيأخذ تلك القوة نقلا عمن كشف عنها، وهناك في أدنى درجات السلم تجد أولئك الذين ينقلون عن سواهم علما بمجموعة لفظية لا تسخر صوتا ولا ضوءا ولا كهرباء، وتلك هي الحالة التي لخصتها بقولي إنها جملة ينقصها الفعل؛ أي إنها معرفة لا تنفع في أن يفرض الإنسان سلطانه على الأشياء.
قال صاحبي، ولم تكن شفتاه هذه المرة منفرجتين عن ابتسامة المداعب، بل كانتا مزمومتين زمة الجد، قال: ما زلت أسألك يا صديقي: ثم ماذا؟ إن في كلامك ما يفيد ويقنع، ولكننا كنا نتحدث عن مشكلة التعليم في بلادنا، فماذا تريدنا أن نفعل لإنقاذ التعليم من مشكلته التي هي عجزه عن تخريج «المتعلمين» فضلا عن إضافته إلى المتعلم «ثقافة»؟
أجبته قائلا: إن حجر الزاوية فيما يخرج تعليمنا من مشكلته هو أن ندرب المتعلم في كل مراحل تعليمه وفي كل مادة يتعلمها وفي كل يوم وفي كل درس، أن نعلمه كيف يبحث عما وراء الكلمات التي يسمعها من معلمه أو من أستاذه أو الكلمات التي يقرؤها في كراسته أو في مذاكرته أو في كتابه، أن يبحث وراء الكلمات أينما وقعت له، عما وراءها مما جاءت تلك الكلمات لتشير إليه، وأعني ألا يقف عند الكلمات وكأنها محطة الوصول كما هي محطة القيام، فإذا قويت عنده عادة أن يبحث وراء أي لفظ عن معناه شريطة أن يفهم المعنى على أنه حقيقة من حقائق الدنيا؛ جاءت الكلمات لتشير إليها؛ أقول إنه إذا قويت عنده هذه العادة، اعتاد في الوقت نفسه إهمال ما ليس وراءه فعل ، ولتكن المادة المدروسة ما تكون؛ فهي مطالبة بأن ترشد من يتعلمها إلى ما يفعله وكيف يفعله، في عالم الأشياء حتى الدراسات التي قد نتوهم أول الأمر أنها «نظرية» - كما يسمونها - فهي في آخر الأمر لو أحسن تعليمها انتهت بصاحبها إلى «فعل» يغير به وجه الدنيا إذا أراد واستطاع، فإذا هي لم تفعل كانت عبثا في عبث، قد يظن - مثلا - أن موضوعا كمبادئ الأخلاق وما يقام عليها من تحليلات واستدلالات هو مسألة «نظرية» نقرأ عنها ثم نطوي الكتاب وكأن أمرا لم يقع، ولا أمرا يراد له الوقوع؛ لكننا في ذلك لم نكن في حاجة لفيلسوف أخلاقي مثل أرسطو أن ينبهنا منذ الصفحة الأولى من كتابه «الأخلاق» على أن الخلق الفاضل إنما هو سلوك يدرب عليه الإنسان؛ حتى يصبح عادة، وليس مجرد نظرية تقال أو تكتب، فالفضائل «عادات» يربى عليها من يعتادونها؛ أي إنها فعل وليست كلاما في كلام، وإذا أردت مثلا آخر من دنيا الأدب والفن؛ فاعلم أن قصيدة الشعر الجيدة إذا عرفت بعد تدريب كيف تقرؤها بحيث تحس بنفسك وكأنما أنت في جلد الشاعر نفسه ترى بعينيه، وتسمع بأذنيه، وينبض قلبك بما ينبض به قلبه؛ فعندئذ تصبح، على الأقل في أثناء الفترة التي تقضيها مع الشاعر، تصبح وكأنك إنسان آخر هو الشاعر، وبالطبع سترتد إلى نفسك بعدها، ولكن بعد أن تكون قد رسخت فيك لفتة وجدانية لم يكن لك بها عهد من قبل! وتتكرر اللفتات، ويضاف بعضها إلى بعض، فإذا أنت غير ما كنت في رهافة الحس.
قلت لصاحبي: أظنني قد ذكرت لك ما قاله «هيوم» حين أراد أن يؤكد رأيه بأنه لا خير في كلام إذا لم تكن فيه طبيعة المعرفة العلمية؛ إذ قال عبارته المأثورة: خذ كتب المكتبة كتابا كتابا واسأل مع كل كتاب منها: أهو يحتوي على شيء من علوم الطبيعة؟ فإذا كان الجواب بالنفي، فاسأل: وهل هو يحتوي على شيء من علوم الرياضة؟ فإذا كان الجواب بالنفي مرة أخرى فقل: إذن ألق به في النار.
لكنني ، يا صديقي، لا أريد هذه الصيغة من القول، وأريد تعديلا لها، يصلح أن يكون مفتاحا لنظام تعليمي منتج، وهو هذا: خذ كل ما تسمعه أو تقرؤه في مجال الدرس، واسأل نفسك: هل هو مما ينتهي بالإنسان إلى «فعل» يرتقي به الإنسان؟! فإذا جاءك الجواب بالنفي، فصم عنه أذنيك وأغمض عنه عينيك.
وفيك انطوى العالم الأكبر!
من قرأ شيئا لأبي العلاء المعري في تدبر وتأمل، وارتفع معه إلى حيث يرتفع بنفسه حتى ليوشك أن يجاوز الشمس؛ أدرك كم هو فريد متفرد في تاريخ الثقافة العربية من أقدم قديمها إلى أحدث حديثها! وهو إذ ينفرد وحده في ذروة الذرى، إنما يستقطب في شخصه خصائص العقل العربي والوجدان العربي في آن معا؛ وليس في ذلك تناقض؛ فكثيرا ما يضع النوع الواحد من أنواع الكائنات الحية، بل من صنوف الجماد، يضع خلاصته في صفوة منه؛ ما يذكرنا بقول الشاعر الذي قال عمن أراد مدحه وتمجيده إنه وإن يكن إنسانا من الأناس؛ فإنه يفوقهم، فهو في ذلك شبيه بالمسك يتكون من دم الغزال، لكنه مع ذلك أرفع شأنا من الدم الذي تكون منه:
فإن تفق الأنام وأنت منهم
صفحه نامشخص