في تحديث الثقافة العربية
في تحديث الثقافة العربية
ژانرها
ومع ذلك فأمانة القول تقتضينا أن نقول عن أولئك الذين علموا فصنعوا؛ فأصبحوا أمام قيود الطبيعة أحرارا بمقدار ما علموا وما صنعوا عادوا فوجدوا حياتهم قد جاءتها القيود من أبواب خلفية لم تكن ظاهرة لهم أول الأمر، وذلك أن حياة العاملين في هذا المجال أو ذلك من مجالات العمل في الحضارة العلمية الصناعية التي هي حضارة عصرنا إنما هي حياة تنتج ما تنتجه من أجهزة وآلات ومركبات وروافع وجرارات إلى آخر تلك القائمة الطويلة التي لم يعد لها آخر، لكنها في الوقت نفسه تدمر نفسية صانعها، لماذا؟ لأن الإنسان خلق بفطرته يريد أن يعرف طريقه من أين؟ وإلى أين؟ وإلا بات كمفقود الذاكرة الذي يسير كما تسير السحابة في سمائها وهي لا تعلم في أي اتجاه تسير ولماذا. فصانع هذه الحضارة العلمية الصناعية مكتوب عليه أن يؤدي عملا معينا هو في حقيقته تفصيلة صغيرة من تفصيلات مشروع كبير، وهو إذ ينجز تلك القضية الصغيرة لا يعرف عنها الوظيفة التي يراد لها أن تؤديها في ذلك المشروع الكبير، وأخذت هذه المواقف المبتورة تتراكم في أنفس العاملين حتى أصبحت حياتهم اليومية جحيما، لأنهم باتوا آلات من الآلات، بل وإن العلم بقفزاته الجريئة كل يوم دائب على أن يصنع الأجهزة التي تؤدي ما كان يؤديه العاملون من البشر، جهازا بعد جهاز، ومن ثم نشأت لهم علل وأمراض تستعصي أحيانا على العلاج: كالقلق والاغتراب واليأس والضجر، فكثرت الأمراض النفسية كثرة لم يسبقها مثيل فيما مضى.
فهل ترك أبناء الحضارة العلمية الصناعية مشكلتهم الإنسانية تلك بغير حل؟ كلا بل عالجوها علاجا «ثقافيا» وهو أن يتجه الإبداع في الفنون والآداب اتجاها آخر غير الذي كان، وبكل اختصار نقول عن هذا الاتجاه الجديد: إنه قد ترك للفنان أو الأديب حرية أن يبني نتاجه من محض إبداعه، بغير شرط يشترط عليه أن تكون هناك صلة ظاهرة بينه وبين الواقع الخارجي، فلئن كان «العلم» قد وثق الروابط بينه وبين الطبيعة الخارجية متجاهلا «نفسية » الوسيط البشري الذي يعمل في ميدان الصناعة، وهو في الحقيقة، الميدان الذي يتلاقى فيه العلم بنتائجه، فها هي تي صور الفن والأدب وسائر صور الإبداع البشري قد انطلقت في طريق يعوض على الإنسان ما فقده؛ إذ أصبح في دنيا الإبداع يبني لنفسه عالما خاصا به، متحديا ذلك العالم الخارجي الذي لا حيلة له فيه، والذي هو المجال الذي جعلت فيه السيادة للعلم والتصنيع.
ونعود بعد هذه الرحلة الطويلة إلى حياتنا نحن الثقافية، لنرى أين موقعها من ذلك كله، فأول ما يلفت أنظارنا فيها هو هذه الحقيقة الصارخة، وهي أنها ما زالت كما كانت ثقافات العصور السابقة جميعا، ثقافة لا تنتهي بأصحابها إلى معرفة بدنيا «الأشياء» وإنما تكتفي من أصحابها هؤلاء بأن يقفوا عند «الكلمة» منطوقة مسموعة حينا مكتوبة مقروءة حينا آخر، فهي ثقافة تبدأ بالحروف وتسير طريقها في عالم الحروف لتنتهي آخر الأمر مع الحروف، ويستطيع المثقف بهذه الثقافة أن يقضي عمره كله سابحا في كلمات يقولها وكلمات يسمعها، وكلمات يكتبها وكلمات يقرؤها وكان الله يحب المحسنين، وقد تقول هنا: لكننا يا أخي نزرع الأرض وننجر الخشب ونبني البيوت وننقش النحاس ونلوي الحديد ... نعم، إننا نفعل كل ذلك، نفعله بمهارات كسبناها على مر الزمن، كالمهارات التي كسبها النحل في خلاياه، وكل الفرق بين الحالتين هو أن النحل يصنع ما يصنعه مدفوعا بغرائزه، وماذا تكون الغريزة إلا عملا أتقنه نوع من الأحياء وتوارثه على امتداد ألوف الألوف من السنين، وأما زارع الأرض والنجار والبناء والحداد في مجتمع لم يتسلل إليه شيء من مبدعات العلم الحديث، فهم يتناقلون «عادات» لا غرائز، ومهارات ولدا عن والد، وصبيا عن «معلم» كانت أدوات الزراعة - مثلا - كالمحراث والشادوف، وغيرهما التي يستخدمها الزارع المصري إلى وقت قريب جدا هي نفسها الأدوات المرسومة على جدران المعابد في آثار الفراعنة، والذي تغير منها - وقد تغير شيء كثير - هو كله آلات استوردناها من صانعيها هناك، عند أصحاب الحضارة العلمية الصناعية التي هي حضارة العصر. وإنه لشيء محمود أن نطور حياتنا بما صنعه سوانا ما دمنا بعد عاجزين عن صناعته إبداعا منا لكننا في الوقت نفسه نتجاهل الحق؛ إذا لم نتذكر أن الذي اشتريناه من صناعة الآخرين هو نتيجة لزمت عن «ثقافة» معينة سادت حياتهم ولا ينتسب إلى «ثقافتنا» نحن بسبب من الأسباب؛ إذن فنحن لا نخطئ إذا زعمنا بأنه برغم الأجهزة والآلات والصناعات التي - بحمد الله - أخذت تملأ حياتنا، فإن ثقافتنا ما زالت - كما كانت - في مجملها كلاما في كلام، لا يؤدي بنا إلا إلى مزيد من كلام، والكلام في ذاته لا عيب فيه، لكن العبرة هي فيما يحمل سامعه أو قارئه على فعله، فإن هو حمل المتلقي على اكتساب لموقف من يعلم ليغير وجه الأرض بعلمه، فذلك خير، وأما الكلام الذي يتلقاه المتلقي قاعدا فيظل على قعوده لم يزد على حالته السابقة إلا أن تأوه بآهات الإعجاب لما سمع؛ فذلك هو ما تفعله بنا التركيبة الثقافية التي نعيشها؛ ويظل وجه الأرض بعد الذي سمعناه أو قرأناه كما كان وجه الأرض قبل ذلك.
ومرة أخرى قد تقول شيئا كالذي قلته على حياتنا العملية من زراعة وصناعة وغيرهما إذ تقول: لكننا يا أخي ننشط بفن جديد، وبأدب جديد، وليس أمرنا كله «كلاما» من الصنف الذي تعنيه. ومرة أخرى كذلك أجيب بأن ذلك كله خير والحمد لله، فلأن نحتذي حذو أصحاب الحضارة الجديدة في فنونهم وفي آدابهم خير من أن نغلق نوافذنا ونتربع على أرض بيوتنا لا نشهد النور، إلا أنك في هذه الحالة تتجاهل حقيقة ضخمة ضخامة الجبل، وهي أن الفن والأدب في صورهما الجديدة، إنما جاءا هناك رد فعل يعالجان به ما قد نتج عن حياة الإنسان في حياة العلم والصناعة من آثار ضاغطة على فطرته، ولقد نقلنا نحن من تلك الحياة العلمية الصناعية سطحها الظاهر، قلدناه تقليدا، ولم تعتمل به نفوسنا من الداخل؛ ومن هنا فلم نمرض بأمراضها من ناحية؛ ولا نحن من ناحية أخرى نعمنا بالحرية الحقيقية التي لا تكون إلا بحياة تلجم ظواهر الطبيعة إلجاما، لتحركها كيف شاءت، فإذا جاء الفنان التشكيلي عندنا مثلا ليسير على نهج مدارس الفن الحديث، جاء فنه بالتالي مبتور الصلة الحيوية بطريقة حياتنا وتفكيرنا، وكذلك إذا جاء الشاعر الجديد عندنا، ليتحول بالشعر إلى ما يشبه أحلام اليقظة عند يائس أو محروم، كان شعره أيضا مبتور الصلة الحيوية بطريقتنا وموقفنا من مسالك العيش.
ولست أخلو من العجب كلما قرأت لأديب من أدبائنا شكواه من أمراض العصر، كالقلق والاغتراب والتمزق؛ لأنني على يقين من أننا لم نمارس حياة العلم والصناعة بعد، على نحو ما يمارسها أهل الغرب؛ لأنهم هم الذين تعتمل نفوسهم بالولادة والإبداع، وأما نحن فنأخذ الناتج استعارة أو شراء، فنعيش ذلك العلم وتلك الصناعة من السطح، لا من الجذور التي تمس الأفئدة فتهزها من الأعماق.
نعم، إن لكل عصر واحد، فكرته الكبرى الواحدة، وفكرة هذا العصر مدارها علم، فتسخير للطبيعة بذلك العلم، فشعور بالحرية التي يشعر بها من تصادفه العقبات فيقهرها ليمضي في طريقه، وتلك الفكرة الكبرى هي محور النسيج الثقافي في العصر القائم، ولا ندخل نحن عصرنا هذا، إلا بمقدار ما نطعم حياتنا الثقافية بما يضيف إلى خصائصها الجوهرية، جوانب أخرى. تعمل على أن تؤدي تلك الحياة الثقافية بأصحابها إلى «فعل» فيكون مقياس المعنى دائما ما يحدث في حياة الإنسان العملية من شيء يصنع ويعاش معه وبه؛ أما إذا جمدنا على الوضع الثقافي الراهن - الذي جوهره كلام ينتهي بالقاعد إلى أن يظل على قعوده أو ينام - فستبقى ثقافتنا - كما هي الآن - كلاما في كلام.
إذا جهالهم سادوا
بيت من الشعر حفظته، لا أدري منذ كم من عشرات السنين، ولعل الذي أبقاه في الذاكرة هذا الزمن الطويل، هو أني كثيرا ما كنت أردده، إنني حتى اليوم لا أعرف من هو قائله،
1
ربما كان أبا العلاء، لأنه معطر بعطره، إلا أن القول الجميل لا يعتمد في بقائه على بقاء اسم قائله، بل هو يستقل بذاته كائنا له حق الحياة، ومن هنا جاءت قوة الفن بشتى صوره؛ فالأثر الفني الخالد أقوى من صاحبه الذي أبدعه، وفيم العجب؟ إن الفنان إنسان يمرض ويموت، وأما فنه فإذا كانت له مقومات الفن الرفيع؛ كانت له بالتالي مقومات الدوام، مهما كان العصر وأهله؛ إذ الفن الرفيع فيه ما يرتفع به عن حدود المكان وحدود الزمان، لماذا؟ لأن ما يشتمل عليه مكان معين أو زمان معين هو جزئيات وتفصيلات مما لا يلبث أن يحيا حتى يموت، ولا يكاد يوجد حتى يفنى؛ فليست أحداث اليوم هي أحداث الأمس، كلا، ولن تكون هي أحداث الغد؛ فهذان حبيبان قد أذواهما الحب، وذلكما عدوان قد أحرقتهما الكراهية، وثالث هناك شغله المال وكسبه وجمعه، ورابع كاد يهلكه الجهد في سبيل الصعود إلى مقاعد الحكم، وغير أولئك وهؤلاء، فأين كانوا بالأمس؟ وأين يكونون غدا؟ لكن إذا ما وقعت موهبة عبقرية في فن من الفنون؛ في التصوير، أو في الشعر، أو في أدب المسرح والرواية، إذا ما وقعت موهبة عبقرية في ضرب من هذه الضروب من دنيا الفن والأدب، على ذينك العاشقين، أو العدوين، أو ما وقعت عليه من أفراد الناس وهم في المعترك، وأثبتت تلك الواقعة المفردة في قصيدة من الشعر، أو في لوحة من لوحات الفن التشكيلي، أو غير ذلك من فنون، بقي المنتج الفني أو الأدبي، ما بقي على وجه الأرض إنسان؛ وذلك لأن الفنان أو الأديب، من شأنه أن يقع على الجوهر الباقي من الواقعة الفردية الزائلة، فلئن كانت الواقعة الواحدة في كيانها الفردي شيئا يزول، فقد يكون منطويا في ثناياها «معنى» يخلد ما خلدت البشرية، لأنه في هذه الحالة، يكون «معنى» إنسانيا مطلقا وعاما، لا تتوقف صحة وجوده على وجود الأفراد الذين يجسدونه في مسالكهم الفردية؟ ومن هنا نفهم شيئا من المعنى الذي أراده أرسطو، حين قال عن «الشعر» (ولعله يقصد كل ضروب الفن والأدب): أصدق من «التاريخ». فبينما التاريخ يحكي عما حدث ذات يوم ما، نرى الشعر يثبت عن حقيقة الإنسان ما هو باق مع الإنسان في كل يوم.
صفحه نامشخص