مع الشيخ عبد الله السعد في الصحبة والصحابة
حسن بن فرحان المالكي
أعد هذا الكتاب إلكترونيا
قطب الدين بن محمد الشروني الجعفري
للتواصل
www.izbacf.org
صفحه ۱
مقدمة
أهدى لي الأخ الكريم الشيخ عبدالله بن بجاد العتيبي، كتاب (الإبانة لما للصحابة من المنزلة والمكانة) للأخ الكريم حمد الحميدي، تقديم شيخنا الشيخ المحدث عبدالله بن عبدالرحمن السعد وفقه الله.
والكتاب يرد على ما قررته في محاضرة لي بعنوان (الصحبة والصحابة) تلك المحاضرة التي بينت فيها معنى الصحبة الشرعية والصحبة العامة، وأن الصحبة الشرعية مقصورة على على المهاجرين والأنصار ومن في حكمهم؛ دون غيرهم فطلب مني الأخ عبدالله العتيبي أن أقرأ الكتاب؛ وخاصة مقدمة الشيخ السعد؛ ثم أنظر ما إذا كان الشيخ أو التلميذ قد أجاب على الأدلة التي أوردتها في المحاضرة؛ أم أن طرح الموضوع لم يأت بجديد في الموضوع.
فوعدت الأخ عبدالله بأن أقرأ ثم أجيبه بعد ذلك؛ فإن كان الشيخ السعد قد جاء بحق وبرهان فمن منا يعادي الحقيقة؟ خاصة إذا جاءت من الذين نحبهم في الله أمثاله؟ ثم من منا لا يخطئ؟ فقرأت ما كتبه الشيخ السعد في مقدمته الطويلة بناء على هذا الأساس، ثم رأيت أنه لا يسعني إلا كتابة هذا الحوار ليكون جوابا للأخ عبدالله العتيبي ولمن أراد الاستفادة من الحوار في هذا الموضوع، وجوابا على ما أورده الشيخ عبدالله السعد، ورفعا للبس الذي طرأ على الشيخ وقد يطرأ على آخرين قرأوا تعقيبه أو فهموا الذي فهمه؛ وأيضا لأنني وعدت الأخ عبدالله بالإجابة فكان هذا الكتاب ولولا خشية السجع وما فيه من العيب عند كثير من الناس لأسميت هذا الكتاب:
(إنجاز الوعد في الجواب على شيخنا السعد بما للصحبة والصحابة من الحد).
صفحه ۲
وصاحب الكتاب(كتاب الإبانة) وهو الأخ الحميدي لا أريد أن أدخل معه في نقاش لأنه فيما يبدو يدفعه الحماس والتقليد أكثر مما يدفعه طلب الحق، وتبين لي من خلال قراءة سريعة للكتاب أنه لم يقرأ ما كتبته قراءة متأنية أو لم يفهمه والاعتذار عن الآخرين بعدم الفهم أفضل من اتهامهم بتعمد التحريف ولست في فسحة من الوقت لأحاور كل من أساء فهما أو ظنا فأساء قولا.
على أية حال: أمثال هذا الأخ كثيرون في زمننا وخاصة داخل التيارات التكفيرية والتبديعية التي يصعب إقناعها عبر البحوث، لكن يمكن إفحامها عبر المناظرات، لأنها تلجأ لتحريف الأقوال أو إساءة فهمها على أقل الأحوال، وعلى هذا فترك الحوار مع هؤلاء أولى وأليق بالعلم وأهله، نعم سأستعرض في نهاية هذا الحوار نماذج من أخطاء الكتاب التي أقرها الشيخ عبدالله من باب العتاب للشيخ وليست من باب الرد على التلميذ.
إذن فأنا إنما أكتب هذا الحوار مع شيخنا المحدث الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن السعد حفظه الله ووفقه؛ لأنه من أهل العلم بالحديث ومن أهل الورع والتقوى، ولا أزكيه على الله؛ ولأنني على ثقة أنني سأتوصل معه إلى نتيجة إن شاء الله؛ ولأنه يفهم الخطاب ويستدل بالأثر وينهج منهج أهل الحديث، فمثله يرجى منه ترك التقليد والتعصب مع تحكيم النصوص الشرعية.
صفحه ۳
إيضاحات
وقبل الحوار مع شيخنا الفاضل وفقه الله أحب أكتب بعض النقاط التمهيدية التوضيحية في الموضوع فأقول:
صفحه ۴
أولا: الشيخ عبدالله السعد من شيوخي
الشيخ عبدالله من شيوخي الذين استفدت منهم وفتح عيني على كثير من علل الحديث ودقائقه رغم أن حضوري لغيره من المحدثين كان أكثر من حضوري له، كحضوري لدروس الشيخ المحدث محمد الحسن الموريتاني الشنقيطي، ولقاءات علمية مع الشيخ المحدث عثمان حسن (عراقي)، والشيخ المحدث محمود ميرة (سوري)، والشيخ أحمد معبد، وغيرهم من أهل الحديث في مدينة الرياض؛ لكنني أعترف أن استفادتي الأغزر في هذا العلم كانت من الشيخ عبدالله السعد مع أن حضوري لمحاضراته في بعض المساجد وفي منزله الكريم كان قليلا قياسا ببعض الطلاب المختصين بالشيخ؛ إلا أنني ربما كنت من أحرص طلابه على اقتناء أشرطته وحرصت على الاستفادة منها ما أمكن، ولا زلت أتابع الجديد من إنتاجاته التي أستفيد منها، وقد ألاحظ عليها بعض الملحوظات التي لا يمانع الشيخ في بيانها وردها.
وقد سبق لي أن نشرت بعض دروس هذا الشيخ في مجلة الشرق السعودية عام 1413ه حتى تعم فائدتها، وسبق أن كتبت عنه مجموعة من المقالات في بعض الصحف السعودية وهذا من أقل ما يقوم به طالب لأستاذه، فالشيخ عبدالله حفظه الله وسدده يستحق منا الاحترام والتقدير والدعاء والمحبة في الله.
إلا أن هذا كله لا يعني أن نقلده فيما نرى أنه أخطأ فيه وهذا المنهج الذي ارتضيناه لأنفسنا استفدناه منه أيضا ومن غيره فقد كان من الداعين للبحث والعلم والتثبت وترك التقليد الأعمى وترك العمل ب (القواعد التي ليس عليها دليل).
وحسن الظن بالشيخ عبدالله أنه لن ينهانا عن تقليد الآخرين ويأمرنا بتقليده وإنما يطلب منا إظهار الدليل والبرهان، وإذا وصل الأمر إلى الاختلاف مع استفراغ الطرفين الجهد في البحث عن الصواب فالأمر في هذا واسع إن شاء الله ولا يشترط في المختلفين أن يتفقا في كل شيء بل لن تجد اثنين من المحدثين أو الفقهاء أو المؤرخين ولا غيرهم من أصحاب الاهتمام الواحد متفقين في كل شيء.
صفحه ۵
فلذلك نجد الشيخ عبدالله يختلف عن الألباني وهما يختلفان عن الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي والكوثري أو الغماريين المغاربة وكذا هؤلاء يختلفون عن المعلمي وغيره وكل هؤلاء محدثون لهم باع طويل في خدمة السنة النبوية بغض النظر عن اختلافاتهم أو اتفاقاتهم أو مذاهبهم العقدية والفقهية.
صفحه ۶
ثانيا: الرد على الشيخ لا يناقض الوفاء
إذن نستفيد من هذا كله أن الشيخ عبدالله السعد لن يمانع من ردي عليه وإن كان من شيوخي، وقد سبقنا كثير من أهل العلم ممن ردوا على شيوخهم أو خالفوهم كما فعل الشافعي مع مالك والبخاري مع الذهلي ومسلم مع ابن المديني وابن الوزير مع علي ابن أبي القاسم والشيخ محمد بن عبد الوهاب مع شيوخه وابن باز مع محمد بن إبراهيم... إلخ.
فالمسيرة العلمية مليئة بهذا ولا يعد هذا عند العقلاء تنكرا من التلميذ لشيخه أو إزراء عليه لأن الحق أولى بالاتباع والالتفاف حوله من الشيوخ أيا كانوا.
نعم فالوفاء لا يتناقض مع الاختلاف بين الشيخ والتلميذ وقد يكون الحق مع التلميذ، وليعلم شيخنا الفاضل أنني ممن يحب الوفاء وأعترف بالفضل لأهل الفضل ولولا أنني أريد تصحيح ما نقله عني أوبعض ما أقر نقله لما كتبت هذا الحوار مع الشيخ.
بل كل شيوخي أو من كان في حكمهم لا زلت أحتفظ لهم بكل حب ووفاء ولا أدري ما هم عليه الآن كالشيخ عبدالرحمن المحمود والشيخ ناصر العقل والشيخ محمد الحسن وفقهم الله وغيرهم، ولهم في عنقي وعنق كل طالب حقوق نعرفها ونقدرها ولسنا ممن يهملها أو يتنكر لها لكن لا نراها مانعة من أن نرد الخطأ أو الوهم الذي يقع فيه واحد من هؤلاء ولا نراها ملزمة لتقليدهم، ولذلك أرجو أن يفهم الناس هذا التفريق بين الحب في الله والتقدير من جهة، وبين ترك التقليد أو رد الخطأ والباطل من جهة أخرى، وألا ينزعج الشيوخ سواء هؤلاء أو غيرهم إذا قام أحد طلابهم برد بعض ما قالوا، حتى لو أخطأ ذلك الطالب فلا يشترط في الطالب ألا يخطئ مثلما لا يشترط هذا في الشيخ، فهذه الاختلافات مما يسع فيها الخلاف.
صفحه ۷
فالطالب عندنا غالبا لا يفعل إلا شيئا يسع الخلاف فيه ونحن إن عرفنا ما يسع الخلاف فيه وما لا يسع الخلاف فيه فسنعذرهم، والمستقبل قادم بكثير من التقلبات العلمية فإن خسرنا كل من رد لنا قولا فلن يبقى معنا أحد، وسنجد أنفسنا لا يتبعنا ولا يسمع لنا إلا القليل من المجاملين أو الجاهلين ونظن أن الدنيا بخير مادمنا نراهم.
وقد تزايدت بوادر هذا التفلت في هذا الزمان، وليت كل المتفلتين -في نظر شيوخنا- يقفون عند تصحيح حديث أو تضعيفه أو الاختلاف في حد الصحبة أو القول بسنية صلاة الجماعة أو بطاقة المرأة أو إباحة الغناء ونحو ذلك... وإنما يخشى أن يؤدي تشدد المشايخ إلى تفلتات كبرى لا تتوقف في ساحة القرضاوي ولا الكبيسي كما يخشى أصحابنا فهذه سهلة لا محظور فيها إن شاء الله؛ بل لا يعد هذا تفلتا وإنما الخشية أن يصل مداها إلى أكبر من ذلك ويكون على المشايخ نصف إثمها نسأل الله التوفيق والهداية للشيوخ وتلاميذهم.
صفحه ۸
ثالثا: سأغض الطرف عن بعض العبارات
من واجب الشيخ علي أن أغض الطرف عن بعض العبارات التي ظهرت منه فتلك العبارات سواء كتبها أو أقرها أرجعها لحرصه وصدقه، فوالله أنني لأعرف عنه أنه رجل صادق مخلص دمث الأخلاق رحب المجلس، وإن كان بعض جلسائه قد دفعوه ليقول أو يقر ما فيه بعض الباطل أو بعض الظلم، فليس عندنا أفضل من أن نقول له كما قال الشعبي لبعض من شتمه: (غفر الله لي إن كنت صادقا وغفر لك إن كنت كاذبا).
صفحه ۹
رابعا: تذكير لشيخنا حتى لا يقع بما نقد به الألباني
أذكر شيخنا الفاضل بأنه قد نقد على الألباني أنه يسمع من جلسائه ويتأثر بهم ويقسو على الخصوم ويتهمهم بمحاربة السنة ونصر البدعة... وأرجو ألا يكون الشيخ عبدالله السعد قد وقع في شيء من هذا في حق أناس آخرين قد أكون من أقل هؤلاء فضلا.
صفحه ۱۰
خامسا: تنظيرات الشيخ تضررت
يؤسفني أن أقول للعلم وللتاريخ وللحقيقة أن تنظيرات شيخنا الفاضل في علم الحديث وعلله قد أصابها ضرر كبير من تلك المقدمة التي كتبها في ستين صفحة ضرب فيها كثيرا من القواعد التي كان يقررها لنا ويعلمنا إياها، فلم نعد بعد مقدمته نعرف موقفه من الشاذ ولا المنكر ولا تقديم رواية الأقوى ولا الخاص من العام ولا جمع الطرق ولا غيرها من الفوائد والقواعد والضوابط التي كنا نسمعها منه وسيأتي ضرب الأمثلة والتنبيه إليها بإختصار عند التطبيق وهذا من آثار التقعيد الخاطئ الذي نبنيه على أمثلة في الذهن قد تكون ناقصة وغير دقيقة وغير مستوفاة فلهذا نتخلى عن هذه القواعد بسهولة عند احتجاج الآخرين بها لظننا أنها تخدم منهجنا ومعلوماتنا فقط.
صفحه ۱۱
سادسا: تحرير موطن الخلاف
وفي البداية أعلن اتفاقي مع الشيخ عبدالله وفقه الله فيما ذكره ص3 من (أن الخاص والعام ممن رزقه الله هداية وعلما وعقلا يعرف فضل صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) فمن حق القراء أن نحرر موضع الخلاف هنا ونقول: الخلاف ليس في هذا.
ولكن الخلاف في أشياء أخرى كثيرة:
فهناك خلاف في حد الصحبة أو الصحابي؟
وهل كل من رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يطلق عليه صحابي أم لا؟
وهل هناك نوع من هؤلاء ذمهم السلف والعلماء أم لا؟
وهل من أساء صحبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كمن أحسن صحبته؟
وما هي علامات حسن الصحبة وعلامات سوء الصحبة؟
وهل هناك قسمان (صحابة ومنافقون) فقط أم هناك فئة ثالثة (برزخ) بين الصحابة الصادقين والمنافقين الخلص، ثم هذه الطبقة متفاوتة بين راجح النفاق وراجح الإيمان؟
وهل هناك فائدة من معرفة هذا القسم الثالث أم ليس هناك فائدة؟
وما أثر معرفة هذه الطبقة على العلم والرؤية التاريخية والفقه وعلم الحديث والعلم بالواقع التاريخي؟
وهل هناك فروق بين الصحبة من حيث الاستخدامات اللغوية والعرفية والشرعية؟
وما فائدة التفريق بين هذه الاستخدامات ونقاط الالتقاء والافتراق بينها؟
وهل يجوز بتر كلام الآخر وتحميله ما لم يقل؟
فهذه الأسئلة ونحوها تمثل مواطن الخلاف التي نحتاج للإجابة عنها إجابات علمية لا يبتغى فيها غير الحقيقة، فلا نجامل فيها محدثين ولا أصوليين ولا جهات العمل التي نعمل بها أو لها؛ وإنما نتحاكم للأدلة والبراهين من نصوص الشرعية وقواعد صحيحة ومسلمات أو براهين عقلية ونحو ذلك مما سيأتي الكلام فيه؛ وبدون هذا التحرير الأمين لمواطن الخلاف سنبقى في خلاف طويل لا يخدم الحقيقة ولا يجلب إلا الضرر.
صفحه ۱۲
وإن كان طرق هذا الموضوع (موضوع الصحبة) سهلا عند كثير من علماء المسلمين المتقدمين من صحابة وتابعين إلا أنه عند غلاة العقائديين ومعظم طلبة علم الحديث من غلاة العقائديين أصبح في غاية الصعوبة لأنهم في الغالب يكونون قد لقنوا نتائج خاطئة ظنوها عقيدة صلبة فهم يضعون هذه النتيجة نصب أعينهم ثم يبحثون بعد ذلك ولا يفيدهم عندئذ البحث، وأهل الحديث على فضلهم وخدمتهم للسنة في كثير منهم زعارة الخصومة وأحادية الرأي والتمسك بالمظنون عندهم كالتمسك بالقطعي؛ ولذلك كان أهل الرأي يتهمون أهل الحديث بجمود الذهن لاعتمادهم على ظاهر لفظ حديث أو مظنونه دون النظر فيما يخالفه أو يخصصه من نصوص أخرى أو من عمومات الإسلام، وهذه تهمة متحققة في بعض المحدثين وقد ذكر الذهبي نحو هذا في كلامه عن أهل الحديث في كتابه (زغل العلم)، ولو تخلص أهل الحديث من هذا العيب لكانوا محل إجماع، لكن كثيرا منهم لا يعذرون في المتشابه، ولا يؤمنون بالعلل التي يراها الطرف الآخر في هذا الحديث أو ذاك، ويقسون على من ضعف ما صححوه أو صحح ما لم يروا صحته، وهذا موضوع آخر لكنني استطردت هنا لأن غلاة العقائديين غالبا يكونون من المحدثين الذين يسيرون على حرف من العلم ولا يعذرون من له رأي آخر غير رأيهم حتى لو قدم أدلة لا تقل قوة عن الأدلة التي يرونها؛ وهذا ليس في كل أهل الحديث كما أسلفنا وإنما في بعضهم أو كثير منهم.
صفحه ۱۳
سابعا: نطالب بالدقة وأمانة النقل
أعود فأقول لشيخنا الفاضل: هذه ملحوظات على ما سطره قلمك في تلك المقدمة من ردك على ما ألقيته في تلك المحاضرة أرجو أن يكون فيها تصحيح لبعض الأخطاء التي توهمتموها أو أوهمتموها ولما في هذا من إبراء لذمتي من بعض ما نسب إلي خطأ، كما أن فيها إيضاحا وبسطا لما قلته سابقا عسى أن تصل الفكرة واضحة، ثم إن لم نتفق في هذا فيسعنا الاختلاف بعد استفراغ الجهد، لأننا لم نختلف إلا في أمور قد اختلف فيها من قبلنا ولم نرد شيئا معلوما من الدين بالضرورة لا نحن ولا أنتم وإن كان في تعميم الخطاب في هذا الموضوع (موضوع الصحبة) له أثر سلبي على فهم النصوص الشرعية وعلى العقل أيضا مما سيأتي بيانه مبسوطا، وكان سبب إلقاء المحاضرة ثم تأليفها في كتاب.
فكلنا إن شاء الله يريد الحق، لكن ما كل من أراد الحق أصابه، وما نقوله اليوم قد يتبين لنا غدا خطؤه، ونحن لا نعيب على من رد علينا خطأ وقعنا فيه فكلنا خطاء؛ لكن بشرط أن يرد شيئا نقول به؛ أما أن يرد علينا شيئا لم نقله ولم نعتقده ولم نكتبه، فهذا أمر آخر، ولا يجوز أن نرضى للآخرين إلا ما نرضاه لأنفسنا، وأنتم شيخنا الفاضل ممن يستاء من تحميل الآخرين لكم بعض الآراء الخاطئة، أو مسؤولية إحراق بعض كتب الحافظ ابن حجر أو النووي وذم الألباني وغير ذلك من ما نسب إليكم، فكيف لا نستاء ممن يحملنا نفي صحبة السابقين إلى الإسلام أو القاعدين من المؤمنين من أولي الضرر والعجز أو نفي إسلام التابعين بإحسان فهذا مما نبرأ إلى الله منه في الوقت الذي نفصل فيه الإطلاقات التي نطلقها في الصحبة كما سيأتي شرح ذلك.
صفحه ۱۴
ثامنا: الشيخ ليس من هؤلاء
ولتعلم شيخنا الفاضل: أنه لو كان غيرك الذي التبس عليه الأمر لما تحاورت معه ولظننت به سوءا لأنني تعودت من كثير من الخصوم تشويه ما أكتب وتعمد تحريفه بسبب الخصومة أو الحسد أو بتأثير الجلساء، وكنا لا نبالي بهذا لكثرته بين طلبة العلم؛ فليس هناك طالب علم عندنا ولا شيخ إلا وقد تعرض لشيء من هذا، إضافة إلى كون المشوهين والمحرفين في الأغلب مقلدين حتى لو ادعوا اتباع الدليل لكنه اتباع داخل التقليد ولذلك فهم كثيرا ما يعادون الأمور التي يجهلونها ولو كانت حقا (والناس أعداء ما جهلوا).
لكننا كتبنا هذا لأننا نعرف أنكم لستم من هؤلاء وأنكم إنما التبس عليكم الأمر لضعف بيان مني أو قوة تشويه من البطانة والجلساء الذين علمت أنهم يأتونك ويشيعون أن المالكي قال كذا، أو قال كذا... ولا يكون نقلهم أمينا ويعيدون ويكررون، حتى تصدق الكلام أو تكاد، وما منا إلا من يتأثر بالجلساء والبطانة لا يسلم منها أحد، لكن العاقل من تحرى وسأل وتواصل ونص على القول نصا ثم يرد على ما فيه من خطأ فهذا لا يضير ولا نأباه ولا يغضب منه عاقل بل ندعو له لأنه من التواصي بالحق، لأن العلم والبحث لا يتقوى إلا بمثل هذا النقد.
أما أن يأخذ الشخص التهمة من أفواه الآخرين ويكتفي بهذا ثم يرد على أشياء لم يقل بها المردود عليه فهذا فيه إضاعة لوقت الجميع، وليس سبيل أهل العلم الذين يحرصون على نسبة القول لصاحبه نسبة صحيحة لا تحريف فيها ولا خطأ ولا إهمال لقيد أو تخصيص، وغير ذلك من الدقة التي نطالب بها من يرد على ابن تيمية أو البربهاري وننساها عندما نرد على الآخرين ، ثم بعد دقة النقل وأمانته يأتي الرد على ما فيه خطأ بما يراه المعارض من حق مع التفريق بين خطأ وخطأ من وضع الخطأ في مكانه اللائق به شرعا لا عرفا، والتفريق بين ما يسع الخلاف فيه وما لا يسع... إلخ.
صفحه ۱۵
لذا أكرر بأن هذا الحوار معكم ليس ردا عليكم أكثر مما هو تحاور وتواصل هدفه رفع اللبس الذي حصل لكم من خلال سماعكم من الخصوم أو ممن لا يراعي القيود والتخصيصات التي وضعناها في العمل الأصلي.
وليعلم شيخنا أنه مثلما يتعرض هو لضغوط ليقول في الباطل فأنا من جانبي قد تعرضت لتحريضات من بعض الأخوة الذين ساءهم تصديقك للنقولات الباطلة أو تضخيمك لأمور يسيرة، أو ما فهموه من تكفيرك لبعض العلماء المغاربة أو مافهموه من تكفيرك لسلاطين الدولة العثمانية تقليدا لبعض علماء الدعوة ونحو هذا، لكنني لم أشأ أن أرد التشويه والظلم بمثله وإنما أحاول رفع اللبس والتشويه بالباطل فإن نجحت فالحمد لله وإن أخفقت فلست أول من تقول عليه الناس مالم يقل أو ذموه بما وافق فيه الحق أو ضخموا الأخطاء التي وقع فيها، فليس هناك من عالم أو باحث أو طالب علم إلا وتعرض لمثل هذا؛ خاصة إذا عارض أخطاء التقليد المذهبي، وأنا قد اخترت هذا الطريق طريق الدعوة للإنصاف وذم أخطاء التقليد ويبدو أنه طريق لا رجعة لي فيه لأنني اكتشفت الواقع ولم أكن أتصوره بهذا المستوى من السوء والتعصب والتقليد الأعمى ولذلك رأيت أن ترك إنكار المنكر الذي تواطأ عليه كثير من الناس يشبه الفرار من الزحف.
أعيد وأقول: إنه قد عرض علي بعضهم أكثر مما عرضوا عليك فكنت أقاوم هذه العروض والضغوط بنشر فضلك وعلمك ودماثة خلقك وأذكرهم بقوة منهجك في الجرح والتعديل وعلم العلل وأوصيهم بسماع دروسكم ومحاضراتكم المبثوثة عبر الأشرطة، ولو استجبت لهم لرددت عليك من زمن طويل، فليس الرد عليك ولا على غيرك بالأمر الصعب ومن تتبع وجد.
صفحه ۱۶
إذن فهذا الحوار ليس إلا تقديرا لملحوظاتكم، ومحاولة للتعريف بكم خارج الوطن، إضافة لما في الحوار أو الرد من فوائد أخرى مذكورة، كتصحيح بعض الأخطاء التي نسبها إلي البعض جاهلا أو متأولا أو مفتريا، أو إيضاحا وبسطا لبعض قلته سابقا مع احتفاظي لك ولشيوخي الآخرين بكل التقدير والإقرار بالفضل.
صفحه ۱۷
تاسعا: الجميع بحاجة لعلمك
ولتعلم شيخنا الفاضل أن الجميع بحاجة لعلمك داخل المملكة وخارجها فلا تجامل خاصة الجلساء على عامة المسلمين ممن يتلقى
-أو قد يتلقى في المستقبل- علمكم عبر الشريط والكتاب فلعل في هؤلاء من هو أخلص للعلم وأكثر تقديرا لكم، فلا تظن بمن لم يحضر دروسك سوءا، ولتعدل بين طلابك من الحاضرين والغائبين أما أن يستأثر الحاضرون منهم بنقل التشويه وتستجيب لهم ثم لا تحاسبهم على تشويهاتهم ووقوعهم في أعراض الغائبين فهذا ما لم نكن نتوقعه من شيخنا الذي كان يوصينا بتحري الدقة في النقل عن الآخرين والعدل في وضع الخطأ في موضعه اللائق به دون تضخيم أو تقليل وأن يكون الحكم حكم مرتكب الخطأ موحدا سواء ارتكب هذا الخطأ ابن تيمية أو الكوثري أما أن يختلف الحكم بحسب قربنا أو بعدنا من الشخص المخطئ فهذا يشبه فعل الأمم السابقة الذي بسببه هلكت تلك الأمم (إذا سرق فيهم القوي تركوه وإن سرق الضعيف قطعوه) فالعدل به تقوم السماوات والأرض وإذا لم نجده عند علمائنا وشيوخنا الذين يعرفوننا ونعرفهم فأين نجده؟
على أية حال: أنا على ثقة من أن هذه الحوارات رغم ما يصاحبها من أخطاء وشيء من سوء الظن؛ إلا أن وجودها خير من تركها لأنها تثري المعلومات وتشجع على المراجعة وإعادة النظر في كثير من القواعد والأحكام الباطلة شرعا التي ورثناها مثلما ترث القبائل أعرافها وتقاليدها سواء ما وافق منها الشرع أو مالم يوافقه ونحن مطالبون أكثر من أي وقت مضى أن نحاكم تلك القواعد والمسلمات للشرع لا أن نجعلها فوق الشرع ونردد ما كان يقوله الكفار: {قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا}[لقمان:21] فالله قد ذم تقليد الآباء والأجداد في الباطل، ويدخل في ذلك كل ما خالف الدليل والبرهان وليس الذم مختصا بالكفار؛ فكل من لم يتبع الحق وعارض الحق بما ورثه من الباطل يدخل في الذم.
صفحه ۱۸
صحيح أن هذه الحوارات يصاحبها من حظوظ الأنفس ما يصاحبها، لكننا مطالبون من وقت لآخر بتذكير بعضنا بعضا، كما أن بعض الناس ليس لهم شغل إلا التحريض وتشويه الأقوال والآراء، ودواء هذا بالصبر والتذكير بالخوف من الله والدعوة للأمانة، إضافة إلى أن بعض الناس له هواية في تفسير المواقف تفسيرا سيئا، فإذا رد الشخص السيئة بربعها قالوا هذا لا يحترم أهل العلم، وإن رقق الشخص العبارة قالوا: هذا خائف يخشى أن تصيبه دائرة، شاك في أمره أو يتعامل بالتقية
وهكذا ليس هناك منفذ لحسنة المخالف لهم إلا وسدوها بسوء تفسير، كما أنه ليس هناك سوء عبارة من الموافق لهم إلا وتكلفوا لها الاعتذارات بل والتبريرات فأين التواصي بالحق إذن؟ وأين الشهادة لله ولو على النفس أو الوالدين والأقربين أو الشيوخ أو الأتباع؟ وأين الأمانة التي حملها الإنسان؟ وأين نحن من قوله تعالى ( ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى)؟.
فهذه دعوة لنفسي أولا ثم للآخرين أن نذكر أنفسنا بهذا؛ فلا يظن ظان أنني أبريء نفسي من هذه العيوب التي ذكرتها كلا والله؛ فأنا بحاجة لمن يذكرني ويبين لي بالدليل الخطأ الذي وقعت فيه ثم ليأذن لي أن أبدي وجهة نظري بالموافقة أو المخالفة بالدليل أيضا، ومن الأفضل لنا أن نبقى صفا واحدا مع وجود هذه الاختلافات العلمية التي لا يجوز أن نبالغ فيها ونجعلها مفرقة بين المسلمين، فليس من مصلحة الإسلام وأهله أن تخرج الأبحاث العلمية من دائرتها البحثية إلى اتخاذها أشكالا من الانشقاقات والنزاعات التي لا مبرر لها أصلا.
صفحه ۱۹
وأخيرا شيخنا الفاضل: أرجو ألا يفهمكم بعض جلسائكم أو تلاميذكم أن رقتي في القول معكم والثناء عليكم لها سبب آخر غير محبتكم في الله والاعتراف بعلمكم والوفاء لكم، ولو رققت القول خوفا من أحد أو طمعا في مكانة لرققته لآخرين من المؤثرين الذين تحاورت معهم في الماضي ويعرفهم الشيخ تماما، وهؤلاء بيدهم كثير من الأمور التي ليس مع الشيخ شيء منها، فأنا والشيخ ليس بيدنا حل ولا عقد.
نسأل الله عز وجل أن يرينا جميعا الحق حقا ويرزقنا اتباعه والصبر عليه ويؤجرنا على ذلك ويوفقنا في الوقوف على حقيقة أقوال الآخرين، ويبعد عنا أصحاب السوء والمرجفين بين الناس، المتاجرين بأعراض المسلمين، وأن يوفقنا لعرض عمل علمي بحوار أخلاقي مخالف لما عليه كثير من الردود المتشنجة التي شوهت صورة الحوار عند المسلمين، إنه تعالى سميع مجيب الدعاء وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان.
حسن بن فرحان المالكي
الرياض 1/11/1421ه
صفحه ۲۰