ثم لله مصر كلها؛ إذ تستقبل عظيمها لا لتحتفل به، ولا لتلجأ إليه، ولا لتتخذه رداء تتقي به الشر والكيد، ولكن لتشيعه إلى حيث أراد الله أن يستقر إلى آخر الدهر.
20
وها نحن أولاء يا بني قد أبنا إلى مصر، واستقر بنا المقام في منزلنا الصغير الهادئ من هليوبوليس، فلم تكد تبلغ الدار حتى هششت لها، واندفعت إليها فرحا مرحا، يملؤك الجذل، وتشرق في وجهك البهجة والسرور، وتأبى أن تصعد معنا إلى حيث تزيل عنك وعثاء هذا السفر الطويل حتى تدور في الحديقة دورة أو دورتين، لترى هل نما الشجر وأورق، وهل ازدهى الزهر وتألق منذ فارقت هذه الدار، حتى إذا بلغت من ذلك ما تريد، فوجدت شيئا، وفقدت أشياء، وأحسست رضا، وأحسست سخطا، صعدت فلم تلتفت إلينا، ولم تسأل عما نحن فيه، وإنما أسرعت إلى حجرتك لتريح هذا الدب الذي رافقك في رحلتك، فعبر معك البحر، وطوف معك في آفاق فرنسا، وزار معك بلاد الإنجليز، وعاد معك إلى مصر.
وأنت لا تشك في أنه قد وجد من اللذة في هذه الرحلة مثل ما وجدت، وفي أنه قد سعد بما رأى من عيون وينابيع، وبما زار من متاحف وعمارات، وشقي بهذا العناء الذي يلقاه المسافر إذا طال به السفر وألحت عليه آلامه. وأنت أب رحيم شفيق تعرف منه الجهد، وترى عليه علامات الإعياء، وتريد أن ترفق به وتريحه قبل أن ترفق بنفسك وتريحها.
أتذكر يوم ذهبنا إلى فونتنبلو لنزور القصر، وكنت قد اصطحبت دبك هذا، فلما بلغنا المحطة تقدمت إليك أمك في أن تدعه مع ما كان معنا من متاع، حتى لا يشق عليك، ولا يصرفك عن جمال القصر وما فيه، فأذعنت كارها، ولكنك أظهرت تجلدا واحتمالا لهذا الفراق، حتى إذا مضينا وبعدنا عن المحطة أجهشت بالبكاء وأغرقت فيه، فلما سألناك عما يبكيك أجبت أن الدب لن يرى القصر، فعدنا أدراجنا وزار الدب معك هذا الأثر العظيم.
ها أنت ذا قد أضجعته في سريرك، وأحطته بما يسع قلبك الصغير القوي من حب وبر وحنان، ثم أقبلت علينا تشاركنا فيما نحن فيه من عمل وحديث.
أنت راض عن هذه الرحلة، مغتبط بما لقيت فيها من خير، وقد نسيت ما احتملت فيها من مشقة، وستنسى مع الزمن ما سرك وأرضاك كما نسيت الآن ما ساءك وأحزنك، ذلك أن نفسك ستنمو، وأن صحفا جديدة غنية شديدة الغنى، مختلفة كثيرة الاختلاف، ستضاف إلى هذه الصحف القليلة الساذجة التي سطرتها الحياة في ضميرك النقي الطاهر.
سينسيك الصبا أحداث الطفولة، وسينسيك الشباب أحداث الصبا، وسيلهيك جد الحياة عن عبث الشباب، وستحاول يومئذ - كما نحاول نحن الآن - أن تلتمس من نعيم حياتك الأولى ما يهون عليك احتمال حياة الرجال، فتسعفك الذاكرة حينا وتعجز عن إسعافك في أكثر الأحيان، هنالك خذ هذه الصحف التي أهديها إليك، واقرأها وانظر فيها، فستذكرك أنك عبرت البحر، وزرت باريس وفونتنبلو، وطوفت في الألزاس، وأقمت في جيرارمير، والتمست العيون والينابيع في جبال الفوج، وزرت نيس وأقمت فيها. وكم كنت أحب أن تذكرك هذه الصحف أنك عبرت المانش، وزرت لوندرة، ونعمت بالحياة في أكسفورد، وأن ابتهاجك بما رأيت في بلاد الإنجليز لم يكن أقل من ابتهاجك بما رأيت في فرنسا، ولكنك ستعلم حين تقرأ هذه الفصول أن موت ثروت هو الذي حال بيني وبين تسجيل زيارتك هذه لبلاد الإنجليز. وكم كنت أحب أن تكون هذه الفصول كلها فرحا ومرحا، وابتهاجا بالحياة وابتساما لها؛ لتكون صورة صادقة لنفسك الحلوة في السابعة من عمرك، تنظر فيها إذا بلغت سن الجد والجهد والحزن، فتجد فيها من الراحة ما يجد المسافر في الصحراء حين ينتهي به السفر إلى واحة خضراء فيها شجر وماء، وفيها ظل ظليل ونسيم حلو، ولكني يا بني لم أستطع أن أصور نفسك، وإنما صورت نفسي أنا، وما هي بالشيء الذي يحسن أن يهدى، وما هي بالشيء الذي يجد الناظر فيه راحة أو نعيما!
وأنا على ذلك كله واثق بأنك ستقرأ هذه الفصول يوم تستطيع قراءتها، وستحبها لأني واثق بأنك تحبني. أتذكر يوم كنا نعبث في جيرارمير وكنت أحدثك بحديث أنكرته لغرابته وإغراقه في الخيال، فأبيت أن تصدقه أو تطمئن إليه، فألححت عليك في ذلك فلم يزدك الإلحاح إلا إغراقا في الإنكار، وخاصمتك حينئذ، وأعلنت إليك أني لن أداعبك منذ اليوم ولن أتحدث إليك إلا جادا. وأنت صلب الرأي كأبيك، لا تذعن للوعيد، ولا يخفيك النذير، فأعرضت عنك وأعرضت عني، وقضينا في ذلك يوما وبعض يوم، لم أقل لك شيئا ولم تقل لي شيئا، ولكن أختك أقبلت محزونة فأنبأت أمها بأنك ضيق بإعراضي عنك، لا تنشط للعب لأني لا أداعبك ولا أدعوك باسمك الذي كنا نحب أن ندعوك به، فتوسطت حينئذ أمك فأصلحت بيننا، وأعادت إلى ثغرك الابتسام، وأعادتك إلى ما كنت تحب من لعب ومرح.
سل أمك يا بني فستنبئك بأني لم أكن أقل منك شقاء بهذا الإعراض، وبأني كنت أشكو إليها بينما كنت تشكو أنت إلى أختك. أتذكر هذه القصة؟ إنها تصور ما بينك وبيني من حب، قد علمك أن تقبل مني كلما كنت أتحدث به إليك بما فيه من خيال وما فيه من إحالة، لقد تعودت ألا تراني إلا باسما لك، ولكنك ستنمو وترى أن ابتسام الآباء لأبنائهم الصغار كثيرا ما يخفي اكتئابا وحزنا، وسترى في هذه الفصول نفسي يا بني، فتعلم أن ما كنت أمنحك من ابتسام ورضا، وما كنت آتي معك من ضروب اللعب والدعابة، لم يكن خالصا كابتسامك ورضاك، ولا صفوا كلعبك ودعابتك، وإنما كان يخفي من ورائه حزنا واكتئابا ما كان لك أن تراهما صبيا، وما ينبغي لك أن تجهلهما رجلا. وما أسعد الأب حين يثق بأن ابنه يحبه محزونا مظلم النفس، كما يحبه مسرورا مشرق الفؤاد!
صفحه نامشخص