غير أن المعارضين لهذا التعدد الثقافي عند مختلف الشعوب؛ إذ يعترفون بوجود التعدد من حيث هو حقيقة واقعة لا سبيل إلى إنكارها، تراهم يصرون على أن ذلك لا يمنع التفاوت - ارتفاعا وانخفاضا - بين الثقافات المختلفة، فلئن كان لكل شعب موسيقاه - مثلا - إلا أنه ليست كل موسيقى مساوية لموسيقى بيتهوفن وباخ وبرامز وشوبان؛ وليس السؤال المطروح أساسا هو: هل تتعدد الثقافات في الواقع أو لا تتعدد؟ لأن تعددها أمر قائم يراه كل ذي بصر، ويسمعه كل ذي سمع؛ بل السؤال المطروح هو: هل «تتساوى» تلك الكثرة الثقافية، أو أنها تتفاوت بين الارتقاء والتخلف؟ وأهمية السؤال في صورته الثانية هي أنه إذا ثبت ذلك التفاوت بين مختلف الثقافات، أصبح محتوما على كل شعب يريد التقدم، أن يأخذ الثقافة الأرفع، وهو مغمض العينين.
أقول إنه حتى نهاية الحرب العالمية الأولى لم يكن أحد ليأخذه شيء من الارتياب، بأن هناك بين الثقافات ما هو أعلى وما هو أدنى، وأن الأعلى هو ما يأخذ به الإنسان الأبيض ساكن الغرب، فمن شاء من سائر الشعوب الملونة: الأسود منها والأسمر والأصفر، بكل درجات الطيف التي تتراوح بها تلك الألوان، أقول: إن من شاء من تلك الشعوب الملونة أن يتقدم فلا مندوحة له - في عرف الرجل الأبيض من أهل الغرب - عن الأخذ بمعاييره ، وإنه ليتقدم أو يتخلف بقدر ما يكون في وسعه أن يتمثل ما يأخذه.
كان ذلك أيام أن كان هنالك اتفاق على قسمة الناس إلى سيد ومسود، والسيد هو الإنسان الأبيض، والمسود هم سائر الناس من مختلف الألوان، لكن الموقف تغير تغيرا جزئيا بعد الحرب العالمية الأولى، ثم صار التغير كاملا بعد الحرب العالمية الثانية؛ إذ فكت معظم القيود الاستعمارية عن الكثرة الغالبة من الشعوب، وكان أول ما عنيت به الشعوب المتحررة هو أن تتشبث بهويتها الخاصة، ولا تصان تلك الهوية الخاصة إلا بأن يتمسك الشعب بثقافته هو التي ورثها عن أسلافه: في العقيدة وفي اللغة، وفي الفن، وفي الأدب، وفي كثير من النظم الاجتماعية.
وكانت مصر - ومعها سائر أجزاء الوطن العربي - واحدة من مجموعة الشعوب التي فكت عن نفسها الأغلال التي قيدها بها الاستعمار، ثم عملت على أن تسترد ما ضاع من معالم شخصيتها، وما دام ذلك هو هدفها، فقد كان حتما عليها أن تحيي كل سمة من سماتها، كما تبرزها الثقافة الموروثة عن السلف، على اختلاف بين رجال الفكر في مصر، اختلافا لم يطل بينهم أكثر من عشرين عاما أو نحو ذلك، على حدود ذلك «السلف» ما هي؟ أنرجع بالسلفية إلى العهد الفرعوني، أم نقف بها عند الفتح العربي؟ لكننا سرعان ما وعينا بأنه لا تناقض بين الحالتين: فالأمر في هذا كالأمر في بناء من عدة طوابق، بني كل طابق منها في عصر من العصور الحضارية التي توالت على مصر؛ فإذا سئلنا في أي طابق تسكنون؟ لما ترددنا في الإجابة الصحيحة: وهي أننا نسكن في «العمارة» كلها بجميع طوابقها؛ لأننا نحن بناتها ومالكوها من أدناها إلى أعلاها، فإذا أخذنا من غيرنا شيئا نراه نافعا لنا، كان لا بد أن نراجع فيه ظروف «عمارتنا» التي نقيم فيها، بحيث يأتي الشيء المأخوذ متسقا وملائما. وتوضيح ذلك سهل وميسور، إذا عدنا إلى المثل الذي بدأت به هذا الحديث، وهو مثل «وضع النقط على الحروف» وكيف كان يجب تعديل هذه الصورة المجازية عند أخذها لتصبح «وضع نقط الحرف» حتى تتناسب مع أبجديتنا العربية.
وتذكرني مسألة «النقط فوق الحروف» التي أخذناها عن أصحابها أخذ الأعمى، دون أن ننتبه إلى الفوارق بين ظروفهم وظروفنا، تذكرني بمعان كثيرة جدا، أخذنا عنهم «أسماءها» على ظن منا بأن تلك الأسماء التي نقلناها، ما دامت تعني عند أصحابها كذا وكذا، فلا بد أنها ظلت على ألسنتنا نحن تعني نفس المعنى، مع أن ظروف حياتنا، وتسلسل تاريخنا، تختلفان اختلافا بعيدا عن ظروف حياتهم وتسلسل تاريخهم، فيما هو ذو صلة بتلك الأسماء ومعانيها، خذ مثلا لذلك مصطلح «القرون الوسطى» فهذا عندهم اسم يشير إلى فترة تاريخية امتدت نحو عشرة قرون - من القرن الخامس بعد الميلاد إلى القرن الخامس عشر - وهي فترة جاءت في تاريخهم «وسطى» بين تاريخهم القديم وتاريخهم الحديث؛ لأن تلك الفترة قد اتسمت في بعض مراحلها بكثير من الجمود الفكري الذي يحبس أصحابه في أفق ضيق من نصوص قديمة؛ فقد أصبح مصطلح «العصور الوسطى» هذا كثيرا جدا ما يطلق ليعني التخلف الحضاري والظلام الثقافي معا، سواء أكان هذا الحكم على تلك العصور عادلا أو ظالما، فالمهم - في حديثنا هذا - هو أنه إنما تدور به الألسنة في كثير جدا من الحالات لتشير به إلى ما يوحي بالتخلف والظلام، فجئنا نحن لننقل عنهم هذا المصطلح، ونطلقه على تاريخنا، وكأن تاريخنا وتاريخهم يتوازيان تقدما وتخلفا، مع أن تلك الفترة نفسها إذا كانت عندهم هي فترة الظلام الفكري والتخلف الحضاري، فقد كانت في تاريخنا نحن هي فترة الإبداع الفكري والتقدم الحضاري، وأشير هنا إلى الحضارة الإسلامية وهي في عز قوتها؛ إنك إذا ذكرت القرن العاشر الميلادي - مثلا - فقد كدت بذلك تشير إلى زمن شهد الثقافة الإسلامية وهي في أعلى ذراها، كما شهد في الوقت نفسه الثقافة الأوروبية وهي في حضيضها، فكيف - إذن - يتأتى لقلم عربي أن يكتب عن «القرون الوسطى» وكأن الدنيا بأسرها شرقها وغربها سواء؟ لا، إن ما يسمى بالعصور الوسطى عندهم، بالمعنى الذي ذكرناه، إنما هي وسطى عندهم، وهي ذروة عندنا .
وعكس ذلك صحيح كذلك - إذا أردنا دقة التعبير عن المعنى الصحيح - أي إن القرون الثلاثة التي امتدت من القرن الخامس عشر إلى القرن الثامن عشر كانت عندهم هي قوام تاريخهم الحديث، بمعنى التقدم العلمي والازدهار الحضاري، ولكنها هي بذاتها التي جاءت في تاريخنا نحن قرونا وسطى بمعنى التخلف والذبول.
وهكذا نستطيع أن نقع على معان أساسية في حياتنا الفكرية نقلنا عن الغرب «أسماءها» ولم نستطع أن ننقل مع الأسماء معانيها الحقيقية عند أصحابها، وقد خطر لي الآن أن أضرب مثلا ب «الديمقراطية» حين نقلنا عنهم لفظها، ثم أبت علينا نفوسنا أن ننقل مع اللفظ مدلوله، لكني آثرت ألا يكون ذلك هو المثل الذي أسوقه هنا، اتقاء لوجع الدماغ، ولأضرب مثلا آخر من ميدان الدراسة الفلسفية، فلماذا حدث أن استطاع الفلاسفة المسلمون الأوائل أن يقدموا أعمالا كان لها قيمتها العظيمة، لا في العالم الإسلامي وحده، بل كذلك في أوروبا، إلى الحد الذي جعلهم موضع دراسة في جامعاتهم هناك، كما كانوا هناك أيضا بين الطلائع الفكرية التي انتهت بأوروبا إلى «النهضة»، ثم إلى الدخول في تاريخها الحديث؛ ولماذا - في مقابل أسلافنا الأولين - لم يستطع دارسو الفلسفة منا، في عصرنا هذا أن يقدموا عملا واحدا يسمع به ذوو الشأن في هذا الميدان، وأعني عملا يسهم به صاحبه إسهاما إيجابيا ملحوظا في حركة الفكر الفلسفي المعاصر؛ ذلك لأنه قد يكون لنا أعمال في إحياء الفلسفة الإسلامية القديمة يحب أن يطلع عليها المستشرقون.
السؤال مرة أخرى: لماذا أفلح الفلاسفة المسلمون القدماء في أن تكون لهم رسالة في بلادهم وخارج بلادهم، ولم يفلح في ذلك خلفاؤهم اليوم؟ والجواب عندي هو أن الأولين عندما نقلت لهم الفلسفة اليونانية، وجدوا فيها ما يمكن قراءته قراءة إسلامية؛ فيخرج لهم - وللدنيا معهم - بهذه القراءة الجديدة شيء جديد؛ ولنشرح هذا القول شرحا موجزا، فنقول: إنه إذا كان أفلاطون قد جعل «الخير» في بنائه الفلسفي هو الذروة التي يتجه إليها البناء العقلي كله، ثم إذا كان أرسطو قد جعل «الصورة» المطلقة التي لا تشوبها أدنى شائبة من المادة هي تلك الذروة التي تنجذب إليها جميع الكائنات في تطورها وسيرها نحو الكمال، فمن الممكن للفيلسوف الإسلامي أن «يستبدل بفكرة» الخير عند أفلاطون وبفكرة «الصورة الخالصة» عند أرسطو «الله سبحانه وتعالى في عقيدة الإسلام»، وما على الفيلسوف المسلم بعد ذلك إلا أن يعدل ويبدل في البناء الفلسفي؛ تبديلات وتعديلات كبيرة أحيانا وصغيرة أحيانا، فتصبح أمام فلسفة إسلامية تشيع فيها روح الإسلام، وبعبارة قصيرة نقول إن أسلافنا قد زرعوا الفلسفة اليونانية في ثقافتهم فانزرعت، وتفرعت ونمت ثم أثمرت.
ولا كذلك موقفنا نحن المعاصرين لماذا؟
لأن فلسفة الغرب منذ نهضته وإلى يومنا الحاضرة، قائمة على أساس آخر انبثق من الوجهة الجديدة التي اتجه إليها الغرب في نهضته وبعدها، وأعني وجهة «العلم» والمعرفة العلمية، فأصبح لزاما على الفلسفة أن تتجه بنشاطها الاتجاه نفسه، ولكن فيما يعنيها، فكان الذي يعنيها هو: ما منهج الفكر إذا أراد ذلك الفكر أن ينتج معرفة علمية مضمونة الصدق؟ لهذا لم تكن مصادفة أن رأينا عند بوابة العصر الأوروبي الحديث فيلسوفين جعلا شغلهما الأساسي ضبط قواعد ذلك المنهج، وهما ديكارت في فرنسا، وفرانسيس بيكون في إنجلترا، الأول فيما يختص بالمعرفة إذا كانت نابعة أساسا من داخل الإنسان، والثاني فيما يختص بالمعرفة إذا كانت آتية إلى الإنسان من الأشياء الخارجة عنه حين يدركها بحواسه، ثم جاء التابعون وراء ذينك الإمامين.
صفحه نامشخص