قد يكون بعض التعليل لهذه النكسة العقلية التي غمرتنا بموجتها، إنها في الحقيقة جزء من نكسة شملت العالم كله اليوم، وذلك بالرغم من تقدم العلوم والتقنيات - في هذه الفترة نفسها - تقدما نقف ذاهلين أمام قفزاته الواسعة، السريعة، الجبارة؛ وذلك لأن العلم وتقنياته شيء، وما نسميه بالفكر والثقافة شيء آخر، فالعلم وملحقاته موضوعه الطبيعة، يعرف سرها، ويستخرج قوانينها، ويلجمها لتصبح ملك يمينه، وأما الفكر والثقافة ففيهما يكون الموضوع هو الإنسان، ولا تناقض بين أن يكون الرجل أكبر عالم شهدته الدنيا في علوم الذرة - مثلا - وأن يكون في الوقت نفسه أسفل سافلين من حيث قيمه وأهدافه في حياته وحياة سائر البشر، أقول إن النكسة أو النكبة في الفكر والثقافة موجة شاملة للعصر كله، وما نحن فيها إلا جزء من كل.
وحسبنا أن نقول عن عصرنا، من ناحية فكره وثقافته، إنه في واقع الأمر لم يبدع شيئا ذا بال، وإن كل جهوده في هذا الصدد، إنما هي تطوير لأفكار رئيسية أبدعها القرن الماضي، وقد نضيف بضعة أعوام في هذا القرن، وهي أفكار كبار تمثلت في ثلاثة رجال ظهروا في منتصف القرن الماضي، ورابع ظهر في أواخره، وأما الثلاثة فهم: دارون وفكرة التطور، وماركس وفلسفة التاريخ، وفرويد وتحليله للإنسان، وأما الرابع فهو أينشتين وفكرة النسبية، هذا صحيح بالنسبة إلى العالم كله، لكنه أكثر انطباقا علينا نحن؛ لأن العالم المتقدم إذا كان قد فاته الإبداع الأصيل، واكتفى بتطوير ما أبدعه له رجال القرن الماضي، فنحن قد فاتنا الإبداع الأصيل، وفاتنا معه مشاركة العالم المتقدم في ذلك التطوير.
ولم نكن بهذه الخيبة كلها خلال المائة والخمسين عاما، لا لأننا قد أبدعنا شيئا قدمناه للعالم، كلا؛ إذ يبدو أن مثل هذه الريادة قد هجرتنا ولو إلى حين، بل لأننا كنا ذوي اهتمام شديد بما يجري في سائر أنحاء العالم المتقدم، نتابعه خطوة خطوة، وأما في مرحلتنا الراهنة فبيننا وبين هذه المتابعة أميال وفراسخ، وذلك بسبب واضح وبسيط، وهو أن الممسكين - في دنيا الفكر والثقافة - ببوصلة الاتجاه وبدقة التوجيه، قد اختاروا لأنفسهم ولنا، وجهة غير الغرب والشمال، فأخذوا يوجهون السفينة نحو ما اختاروه.
ومع ذلك فحتى لو سايرناهم في الوجهة والاتجاه معا، ثم جعلنا معيارنا في الحكم على ما نحن فيه قائما على درجة الاهتمام - بغض النظر عن الموضوع - لوجدنا حياتنا الفكرية والثقافية أدعى إلى اليأس. نعم لقد شهدنا في هذه الفترة الزمنية التي نتحدث عنها، من مؤسسات لنشر الفكر والثقافة، ما لم نشهد مثله في الفترات السابقة، فهناك وزارة بأسرها للثقافة، وهناك وزارة أخرى بأسرها للإعلام - وهو متصل بعملية التثقيف بسبب وثيق، ولدينا مجالس للثقافة وما يدور حولها - كالمجلس الأعلى للثقافة، والمجلس القومي للثقافة، ولكنني - كما أسفلت - إذا جعلت معيار الحكم جدية الاهتمام بما هو جاد، ثم إثارة ذلك الاهتمام الجاد نفسه في مجموعة كبرى من الناس، لا مجرد تسديد خانات وتملق الجماهير، لما ترددنا في صحوة نستيقظ بها من سباتنا قبل أن تتسع رقعة الخطورة والخطر.
ولقد أردت بهذه المقالة التي بين يديك أن أعرض لك صورتين أخذتهما من الحياة الفكرية والثقافية لأسلافنا في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) لأبين لك كيف كانت الحال عند هؤلاء الأسلاف. أما الصورة الأولى فتصور نوعا من التعاون الفكري بين عملاقين من نوابغ الفكر والثقافة في تلك الفترة المختارة، قل أن تجد له نظيرا. والرجلان هما أبو حيان التوحيدي وأبو علي مسكويه، أولهما جمع عددا كبيرا من الأسئلة التي يبحث لها عن إجابات، ثم وجه أسئلته إلى زميله مسكويه ليجيب له عنها، وسنعود بعد قليل إلى التفصيل. وأما الصورة الثانية فهي مناظرات قد لا نجد ما هو أقوى منها دلالة، على ما شهده ذلك العصر - وهو يشبه ما يشهده عصرنا الراهن - من صراع فكري بين من يناصر فكرا منقولا عن أوروبا (وأوروبا كانت في تلك الحالة هي اليونان) ومن يرفض ذلك الفكر المنقول اكتفاء بما هو أصيل في الثقافة العربية.
ولنبدأ بعرض الصورة الأولى في شيء من التفصيل، وهي مأخوذة من كتاب «الهوامل والشوامل» وعنوان الكتاب دال على موضوعه، فقد كان أبو حيان التوحيدي جمع عددا كبيرا من الأسئلة التي أثارتها في رأسه مشاهداته وخبراته، وأطلق على تلك المجموعة اسم «الهوامل»، ومعنى الهوامل الإبل التي يهملها صاحبها ويتركها لترعى منتشرة ومتفرقة، فلما وجه تلك الأسئلة إلى مسكويه ليجيب عنها، جمع مسكويه أجوبته وأطلق عليها اسم «الشوامل»، ومعناها حيوانات يوكل إليها ضبط الهوامل حتى لا تضل طريقها.
ولا بد لنا من أسطر قليلة نصور بها شخصية أبي حيان وشخصية مسكويه، فذلك - عندي - يعين كثيرا على الفهم، بل إني كثيرا جدا ما أحاول أن أجسد من أقرأ عنهم وما أقرؤ لهم، في أشخاص من حياتي الخاصة؛ لأزداد فهما ووضوحا.
فأبو حيان التوحيدي «مثقف» من أعلى طراز نعرفه اليوم من «المثقفين»، وأعني بهم هؤلاء الذين يجمعون في أنفسهم جانبين: أولهما تلك «الحالة» من التهذيب ورهافة الحس، وهي حالة يستمدها صاحبها من ثلاثة مصادر رئيسية، هي الدين والفن والأدب، ولو اكتفى الرجل بتلك الصفة وحدها، لحق له أن يعد مثقفا بدرجة تعلو وتهبط بمقدار ما قد اكتسب من قيم روحية وذوقية، لكن هنالك صفوة من الرجال (ولاحظ هنا أنني لست ممن يخشون استعمال كلمة «الصفوة» وكأنها رجس). أقول إن هنالك صفوة من الرجال، تراهم يجمعون إلى اكتسابهم لتلك الحالة الروحية الذوقية التي أشرت إليها صفات أخرى تتصل بالجانب العقلي، ومن أهمها حب الاستطلاع، والدأب على السؤال ومحاولة استكشاف المجهول، وتوضيح الغامض وتحليل الموقف المركب إلى عناصره، ورد تلك العناصر إلى أصولها وتعليل الظواهر النفسية والاجتماعية أو محاولة تعليلها، ومن هؤلاء الصفوة من المثقفين كان أبو حيان التوحيدي، وسأبين لك بعد قليل كم جاءت أسئلته التي استجوب عنها مسكويه - وكان عددها مائة وخمسة وسبعين سؤالا - شديدة التنوع، مما يدل على سعة الأفق الذي كان يتحرك فيه أبو حيان بذهنه وحواسه وانتباهه واهتمامه.
وأما مسكويه فقد كان من ذلك الصنف من الدارسين الذين يركزون أنفسهم في اتجاه واحد، وحتى في هذا الاتجاه الواحد تجدهم على كثير من ضيق الأفق، ومحدودية المجال والرؤية، فبينما كان أبو حيان عريض الثقافة مع لمسة قوية من الفلسفة، وحس مرهب للعبارة الأدبية، كان مسكويه متخصصا في الفلسفة - إذا جازت صفة التخصص هذه على القدماء - بل إنه في ميدان الفلسفة قد ضيق على نفسه المجال واختص بفلسفة «الأخلاق» دون سواها، ولم يدل أسلوبه في الكتابة على درجة ملحوظة من الحس الأدبي.
فلماذا اختاره أبو حيان ليوجه أسئلته إليه؟ أغلب الظن عندي أنها لم تكن غزارة العلم هي التي قصد إليها أبو حيان عند مسكويه، بل هي مكانة مسكويه العليا، وجاهه العريض، وثراؤه، فضلا عما كان عند الرجل من علم، إن لم يكن غزيرا فهو علم يضعه في مكانة لها جلالها ووقارها واحترامها، فقد كان مسكويه وزيرا بالإضافة إلى اشتغاله بالفلسفة؛ وأما أبو حيان فكان ذا عوز، يلتمس العطاء عند من يستطيع عطاء، ودليل ذلك هو أنه - فيما يبدو - لم يجد عند مسكويه بغيته من المال، وكان كل ما جاءه من مسكويه هو «الشوامل»، وأعني الأجوبة على الأسئلة التي وجهها إليه. فنعته بالجهل وحصر اللسان، إذ قال عنه عبارة اشتهرت بعد ذلك، فقال عنه إنه «فقير بين أغنياء، وعيي بين أبيناء» (ولاحظ هذه الكلمة العجيبة «أبيناء» أي أصحاب البيان)، كان مسكويه أوسع شهرة، وأعز جاها، وأوفر مالا. لكن أبا حيان التوحيدي كان أبعد نظرا، وأرحب فكرا وأنصع بيانا، جاءت كلها على فقر وحاجة، ولقد كان الرجلان متقاربين في العمر، وإن يكن مسكويه يكبر أبا حيان ببضع سنين، وعمر كلاهما إلى التسعين وما بعدها بقليل.
صفحه نامشخص